قصة

قصة المحطة 69

أرشيفية عن الشبكة


(اللامبة)

في باحة المحطة 69 يمكنني أن أنظر إلى السماء وأعد النجوم الساطعة من فرطِ الظلام المحيط بنا.

مضى زمن لم أرى فيه النجوم بهذا السطوع، كانت هناك محاولات قليلة للاستمتاع بمنظرها في ليل المدينة عندما بدأت النجوم الأرضية المسلطة في وجه السماء بالخفوت، لكن بعد ذلك لم يجرؤ أحد على النظر إلى الأعلى، طأطأ الناس رؤوسهم.

يبدو عملي في المحطة 69 قديم قدم ثلاثة نجوم متلاحقة في السماء، لم أعد أذكر أول أيامي عندما دخلتُ للصندوق الحجري منزوع النوافذ مدهوشاً من الآلات الكهربائية التي تعمل على مدار الساعة دون توقف، أجهزة حاسوب وصناديق إلكترونية تتوزع في الجدران تشعُ منها مصابيح خضراء وحمراء وصفراء صغيرة، كان العرفي بجرمهِ الضفدعي يقفزُ من صندوق إلى آخر يغلق مفتاحاً فيفتح آخر، عائداً إلى شاشة الحاسوب يتتبع خيوطاً وإشارات لا أفهمها، يرنُ هاتف قديم عبارة عن علبة سوداء تتحرك دائرة بلاستيكية في أوسطها حول مجموعة من الأرقام، يلتقطُ العرفي السماعة، كان وحده المصرح له بحمل السماعة، يخرجُ صوت حديدي، خشن، كارتطام الصفيح يتحدثُ معه، ينظرُ العرفي للصناديق الكهربائية قبل أن ينهي المكاملة بكلمة “حاضر” ويتجه نحو أحد الصناديق، يقرأ الحروف الموجودة على أحد المفاتيح، يغلقه. واجهتُ في البداية صعوبات عديدة في فهم طبيعة العمل في المحطة، خصوصاً أنني لم أكن جيداً كفاية في المدرسة الابتدائية لأحفظ تشكيل الحروف، كما أنني لم أتلقى أية تعليمات أو إرشادات عامة بما يجب عليْ فعله، قال لي ابن عمي “اذهب للمحطة، لقد عينت فيها، وتعلم الحرفة”، وفعلت، منذ أن دخلتُ المحطة أغلق الحارس علينا البوابة وأخبرني بأنّه يتعين عليْ انتظار حتى بداية الأسبوع ليعود ليفتحها لنا، أحياناً يعود في بداية الأسبوع فنرجعُ للمنزل واحياناً لا يعود إلا بعد أسبوعين أو ثلاثة، وبهذا كنتُ أعمل أسبوعاً بآخر في المحطة أو كما شاء لنا الحارس، أتتبع تعليمات العرفي، “أغلق ذلك المفتاح”، ” افتح ذلك المفتاح”.  ما الذي نعمله في المحطة 69؟ لم أكن أعرفه، ما الذي تفعله كل هذه الأنظمة والمفاتيح والأجهزة؟ إن كانت الجرذان التي تعيش معنا فيها تعرف، فأنا أعرف. كان عملاً، وأنت تعرف ما هو العمل.

لكن كل شيء تغيّر في لحظة، لم أكن أريده أن يتغيّر، أمضيتُ زمناً بدون عمل وكنتُ سعيداً أن أكون مجرد حمار ينهق في المحطة من أجل المال، لكن ذلك الأسبوع الصيفي الحارق الذي أمضيته في البيت دون كهرباء تحفرُ زوجتي في أذني نقيقها المخلوط بزمجرة المولدات في بيوت الجيران جعلني أفكر في عملي، لقد كان أسبوعاً سيئاً جداً، صدقني، الحياة فيه داعرة، فاسدة برائحة لحمِ الدجاج الفاسد في الإفريز والخضروات التالفة في الثلاجة، لزجة بالعرق يلتصقُ بالمخدة فيلتصقُ جسدي بها، بلزوجة الأطفال وهم يضيقون عليْ القعود بحثاً عن نسمة، كانت حارقة زادتها الاضطرابات التي شهدها الحي بحرق بعض الشباب الإطارات كل يوم في الطريق العام تحت نافذة بيتي، أشاهدهم من شرفتي بينما أرى أحدهم مرتدياً زي دب يرقص أمام السيارات العالقة في الطريق تبحث عن مخرج فتزيد من عذاب المشهد اليومي، شاب في زي دب يرقصُ أمام السيارات حاملاً لافتة ” تسقطُ الحكومة” بينما يبتسم الدب. هذه كانت البداية.

(الكاتب)

منذ مدة طويلة وأنا أتهرب من كتابة هذه القصة، لا شيء إلا لكراهيتي للمشهد الأدبي في البلاد وبأنّ لا أحد سيقرأها – أنا نفسي لن أقرأها بعد كتابتي لها-، ولكن عندما قررتُ أن أكتبها، لم أجد ما أشحنُ به حاسوبي.

حاولتُ في البداية أن أرسم ابتسامة على شفتيْ كما يفعل صديقي الشاعر القديم قدم هذه الأرض وأن أرى أبعد من قصر نظري، “على الأقل، سأتمكن من رؤية النجوم”، قلتُ لنفسي في البداية دون أن تكون لي أي علاقة مسبقة معها، ” حسناً، متسع من الوقت لقراءة كل الكتب التي أجلت قراءتها”، ضحكتُ على نفسي، أنا الكاتب الذي مضى زمن طويل منذ آخر مرة أمسك فيها كتاب، الاستمتاع بحكايات وأحاديث الأصدقاء، ممارسة التأمل، استغلال الوقت لتعلم الزراعة والعناية بالنباتات والطبخ وتعلم أبجديات الحياة من جديد، شيء لطالما أراد لي الشاعر القديم أن أفعل، سأخفض مستوى التوقع وأرفع منسوب الروعة بالتأمل في أزقة المدينة ورائعاتها، قرارات وضعتها خصوصاً بعد خسارتي لعملي من أجل قبلة اختطفتها من إحدى الموظفات المعجبات بالقصائد التي كنتُ أستعيرها من صديقي الشاعر، تمكنتُ من متابعة هذا الجدول متهرباً من كتابة هذه القصة بالذات حتى جاء ذاك الأسبوع الذي جربتُ فيه أن أقلي بيضة على رخام الشرفة بعد نفاذ الغاز ونفاذ صبري الممزوج بنوبات هستيرية من الضحك وزمجرات غاضبة ألقنُ فيها الجدران درساً بلكمات أسددها لها في كل مرة ينطفئ فيها المصباح ويعود للعمل فيها، كنتُ كقطعة جيلاطي تذوب من فرطِ الحرارة عاريا تماما، مؤخرتي الرجولية القبيحة ملقية أمام المكيف مغمياً عليْ أنتظر أن يغني تلك النغمة المحببة على قلبي، يئن فأفرح، تمضي ثانيتين فينطفئ فأسب كل من له علاقة بالموضوع من رئيس الحكومة إلى الموظف الذي يعتاش على صيانة إحدى سيارات الحكومة العائدة للستينيات العاهرة. يئن الصوت من جديد، فأجدد إيماني بالله والوطن والشعب ونفسي، تمر نفخة برد بسيطة على جلدي الملقى على الأرض، تمضي هذه المرة ست ثوانٍ قبل أن ينطفئ كل شيء مرة أخرى، فأكفر وأحمل سكيناً خيالية أريد بها قتل أمي، يئن المكيف، ورغم التشكك والقلق إلا أنّ ابتسامة لطيفة طفولية ترتسم على وجهي فأشكر الموظف الذي يعمل على إصلاح الأمر وأدعو الله بقلب خالص أن يدخله الجنة هو وأهله إلا عمه الذي يكرهه، يستمر تدفق الهواء البارد على جسدي هذه المرة، أرقص وأغني وأرتدي ملابسي، ألوح جسدي تحت البرد وأنسى الساعات القاسية التي أمضيتها قبل ذلك، ولكن لم يستمر الأمر كثيراً.

أمضيتُ أسبوعاً على هذا النحو، أسبوعاً خسيساً خسة السياسيين وأتباعهم الذين صاروا كالجرذان يغزون المدينة، لكن موقفا واحداً جعلني أدفع باب الشقة وأنهمر في كتابة هذه القصة، موقف واحد فقط جرحني وقتلني، كان يوماً مأساوياً حاولتُ فيه التغلب على أعصابي، وبعد محاولات عديدة للاتصال بالأصدقاء دون وجود شبكة تمكنتُ بأعجوبة بأن أنسق لجلسة مسائية لشرب القهوة وسب البلاد والعباد مع بعض النكات السيئة وتخيل الفتيات الجميلات بمؤخراتهن وهن فوقنا، دخلتُ الحمام، غسلتُ جسدي جيداً أنزع عنه رائحة العرق والقلق والنزق والعَلق وبقية الخلق، ارتديتُ أجمل ملابسي، قميصي الوردي الذي احتفظتُ به مكوياً لأسبوعين لمناسبة كهذه، أخرجتُ من صندوق العطور المستهلكة زجاجة كنتُ قد تركتها هناك في حال حصولي على موعد غرامي مع نور جميلة حي الرئيس التي تنعمُ مؤخرتها بالتكييف، بخختُ من العطر، كنتُ أغني للحياة والأمل، نزلتُ سعيداً لسيارتي التي احتضنتها بعد أسبوع من عدم قيادتها نظراً لازدحام محطات البنزين، كنتُ أخزن الوقود للمشاوير المهمة، وصار في ذلك اليوم مشوار القهوة والسجائر والحديث مع الأصدقاء أهم ما لدي في حياتي، شغلتُ السيارة وفتحت النافذة وانطلقت، بدى الأمر على ما يرام حتى أوقفني ازدحام مروري في الطريق، ” لا عليك، لا عليك…..مجرد ازدحام مروري، ورغم أن الشمس قاربت على الغروب ووجود هذا الازدحام في هذا التوقيت هو أمر غير منطقي، ولكن لا عليك، هاك اغرس سيجارة في فمك واهدأ، ستستمتع بالحياة قريباً، هي دقائق، نصف ساعة على الأكثر”، قلتُ لنفسي، ولكن النصف ساعة صارت ساعة، المسافة بين السيارات كالمسافة بين الظفر واللحمة وكان يمكنني سماع أحاديث جيراني، شابان لطيفان يتحدثان عن الحياة والعمل والطموح وأنّ البلاد سينقذها شبابها، ابتسمتُ لسماع كلماتهما المحفزة وأسفتُ على مصيرهما الذي سينال منهما بعد سنوات من الآن، رجل يلعن اليوم الذي تزوج فيه مزمجراً في وجه زوجته الجالسة كدجاجة محرجة أمام كلب مسعور يقول لها بأنّ اليوم بالذات لم يكن اليوم المناسب للذهاب لأهلها الملاعين، كنتُ سأخبره أن يحترم المرأة ولكن من أنا لكي أنادي بحقوق المرأة في بلاد كهذه، لم يعد الأمر منطقياً، ما دمتُ أقل المتعذبين في هذه الأرض، لا داعٍ للنظر فيمن يتعذب معي فيها، هذا شعاري. تثاقل الوقت، صارت الساعة ساعتين وصار كل شيء يزعجني، انتهت علبة السجائر، أحاديث الجيران في سياراتهم تنخر أذنيْ، السيارة خلفي تزمر وتحثني على المرور في الطريق الداعرة، الشمس غربت، لاحظت لأول مرة كبوة دخان ضخمة آتية من مقدمة الطريق، ضاقت الطريق وضاق الحال، مر الوقت كضيف ثقيل حتى فُرِجت، رأيته، المشهد الذي استفزني على اقتراف هذه الفعلة، مجموعة من الشباب قد أغلقوا الطريق العام بدواليب سيارات وعصي وجريد وحجارة أشعلوا النار فيها، كانت كبوة النار عالية وحارقة، تعرق قميصي الوردي، ونضج رأسي، احترقت أعصابي، كان أحد الشباب مرتدياً زي دب بُني يرقص أمام السيارات حاملاً ورقة “تسقط الحكومة”، ولكن عندما جاء دوري في التخلص من الازدحام والمرور من جانبهم في فتحة صغيرة، قفز الدُب البني على سيارتي وبدأ يهزها ويهزني معها، صار يرقصُ أمامها ويغني و….يتمنيك.

عندها عرفتُ أنّ عليْ أن أكتب هذه القصة الحقيرة، هذه القصة التي ستذهب في تاريخ أسوأ قصصي. هذه الـ………………….

(العرفي)

اسكت أيها السافل الحقير، شعب عديم الحياء والتقدير.

أعرف كل من يقطن هذه المعمورة، ويمكنني الجزم بأنهم تجمع من منعدمي الكرامة والمنحطين والسافلين، ابن بطوطة نفسه قال بأنه بين الأزهر والزيتونة قوم رعاع، ماذا تريد دليلاً تاريخياً أكثر من هذا؟ إنهم حيوانات، مجموعة من الذئاب المتنكرة في أثواب الحملان، اسمع، إنهم لا يستحقون الشفقة، وأنا العرفي أعرف الناس فيهم، اسمع مني وستنجح في هذه الحياة.

لقد ورطتني في أن أقول لك الحقيقة، ليس لأنّ لدي ضمير حي وأخاف عن الوطن وأريد للجميع أن يعرفوا الحقيقة وراء المحطة 69 وما إلى ذلك من الهراء الذي تتلقفونه كل يوم من مؤخرات أجهزة الإعلام والكتّاب الصعاليك الوقحين أمثاله، ولكن فقط ليستمر النظام وننعم بنسق عمل آمن ومستقر، اسمع، ماذا تريد؟ أن يبقى بيتك مضيئاً طيلة الوقت؟ تم، فقط توقف عن ما تقوم به، ستنهار الشبكة إذا استمرينا فيما نفعله، هل تعتقد أن فرق الصيانة ستكلف نفسها العناء لاجتياز منطقة الحرب كما نفعل نحن للوصول إلى الدائرة 69؟ لن يفعلوا ذلك،

كانت البداية منذ زمن قديم قدم الثورة، كنتُ ألمع المهندسين في هذه البلاد، درستُ في أمريكا وعرفتُ خبايا ما تقتصر العقول الصغيرة على فهمه، تطوعتُ للعمل في هذه المحطة للإبقاء على النظام، فقط لا غير، النظام مهم، هل تعتقد أن حياتي بين هذه الأجهزة والحواسيب سعيدة وبأنني أرى فيها قمة طموحي، بالعكس، أنا حمل الله كما يقول الأمريكان السفلة، أضحي بنفسي من أجل الجميع، حسناً، ليس من أجمل الجميع ولكن من أجل الصوت القادم من سماعة الهاتف، أحافظ على صحة الشبكة وأطمئن عليها، إنني أعرف ما يفعله كل زر، كل خيط توصيل، كل مفتاح، كل برنامج، لولا وجودي في هذه المحطة لعاش الجميع في ظلام دامس لسنوات، لنفقت الخراف في المزارع وذبلت محاصيل البطاطس، لفسد الدقيق في المخابز ولتحولت محطات تعبئة البنزين إلى مراعٍ للإبل، لتكسرت ركب الأمهات في طوابير المصارف دون الحصول على معاشاتهم ولقتل السارق الشرطي وذبح الرجل زوجته وصار العرق هو الكنز الوطني في هذه البلاد، لجفت المياه وسادت رائحة روث البشر في بيوتهم ومسحوا مؤخراتهم بالوزر ولسدت القمامة الطرقات، أنا عصبُ الحياة، أنا الترس الذي يدور العجلة. هل تجد من حامد لحميد؟ لا، لقد كان الإنسان كفوراً حقوداً جحوداً.

روتيني اليومي يبدأ بالكشف عن شبكتي العزيزة كأي طبيب ماهر، أسلم على الكابنات وأقبلها وأخبرها بأنها تبلي حسناً، أجرد المفاتيح المغلقة والمفاتيح المفتوحة، “صباح الخير يا كابنة الدائرة عشرين…هل أرهقك السفلة؟، لا عليكِ سترتاحين اليوم”، ” آه مرحباً يا مفتاح الشارع تسعين في الدائرة خمسة عشر، أتذكر أنني أغلقتُك بالأمس، لماذا فتحت؟ هيا لنكشف عليك”،  أجلس على الحاسوب بينما أشرب قهوتي وأدخن سيجارتي الأولى متتبعاً كفاءة الشبكة ومواطن العجز، أكتب تقريراً أولياً مشككاً في ما يفعله منتجو الطاقة، أكثر المهندسين فشلاً وكسلاً في هذه البلاد، عجز في الإنتاج في المدة الممتدة من وإلى، زيادة في الطلب في المدة الممتدة من وإلى، عجز في الإنتاج هنا وزيادة في الطلب هناك، لن يستوعب عقلك الصغير التافه ما مدى التوتر الذي يلم بي بينما أحاول الحفاظ على زمام الأمور، أنا درستُ في أمريكا، كنتُ أثني ركبتيْ للدراسة والبحث والتدقيق بينما يذهب أقراني الماجنين لدراسة أنواع السكر في حاناتها والبحث والتدقيق في مؤخرات فتياتها بنقود الدولة، المهم، عندما أفهم وضع الشبكة ومقدار ما عليْ العمل عليه، أبدأ في كشف وصيانة ما أمكنني من معدات منقطعا بين الفترة والأخرى للرد على الهاتف، يأتيني أمر من الصوت الذي لا يفقه أي شيء عن التيار الكهربائي ووضع الشبكة يخبرني ” الدائرة الفلانية، لا تقطع عليها الكهرباء بعد الآن”، ” اقطع الكهرباء عن الدائرة الفلانية لأيام ثلاثة”، ” الدائرة خمسة وعشرين، أعد لهم الكهرباء لخمس ساعات”، وأوامر كهذه تجعلني أدرس الوضع، فإذا لم أقطع عن الدائرة التي يعيش فيها السيد الرئيس، سيتعين عليْ توزيع الحمل على دوائر مختلفة في البلاد، وهذا يحتاج حسابات ومتابعة البرنامج على الحاسوب، وإذا شاءت الدولة أن تعاقب حياً معيناً بقطع الكهرباء عنهم لأيامٍ ثلاثة، سيتعين عليْ أن أعاقب مع ذلك الحي مجموعة من الأحياء المحيطة به، وإذا ابنة عم السيد الرئيس تعاني من الأرق وتحتاج أن يهف المكيف على مؤخرتها لكنها لا تعيش في حي السيد الرئيس، عليْ أن أتولى الأمر، كل هذه الأوامر اليومية التي تقض مضجعي صحبة رنين الهاتف الذي لا يتوقف حتى في الليالي الكالحة السوداء البهيمة، ولازلتُ أتمالك أعصابي، لقد استيقظتُ خمسمئة وعشرين ألفاً وثلاثمئة وثلاثين مرة على رنين الهاتف في عز الليل فقط لأعمل على تغيير وضع الشبكة، إنّ أسعاد أيامي هي التي يحل فيها الظلام على الجميع، حاولتُ أن أكون صبوراً وعملت جاهداً لأن لا أعتاز لأحد ولكن نوبات الانهيار التي ازدادت في السنة الأخيرة هي السبب الوحيد الذي يجعلك أمثالك موجودين في غرفة التحكم، أنت فقط ذراع موجودة لأنال قسطاً من الراحة.

لا، لا تقم بذلك أهيا الغبي.

(اللامبة)

اصمت يا عرفي، لمرة واحدة اصمت وأنصت لما أقوله للرجل. قد أكون غبياً، ولكن سئمتُ من إسكات الناس لي وطمسهم لوجودي. أريد أن أخبر هذا الرجل الثرثار بقصتي قبل أن نتحدث.

عند عودتي الأسبوع التالي بدأ النزاع بيني وبين العرفي، كان نائماً لما رنّ الهاتف، حاولتُ إيقاظه لكنه كان سكراناً ليلة الأمس وقد نام وقنينة الفودكا في يده، نهرني، أقلقني رنين الهاتف الذي حذرني العرفي أكثر من مرة من الرد عليه، مرت في بالي أول مرة حاولت فيها الرد على الهاتف أسمعُ الصوت الآمر يخبرني بأن أغلق إضاءة الشارع الغربي لأنّ “أبناء العاهرات” كما قال أشعلوا النار في سيارة من سيارات الحكومة احتجاجاً على انقطاع الكهرباء، ” أسبوع كامل… لا أريدهم أن يروا نور الكهرباء إلا ساعتين كل يوم، ما يكفي لأن يبقى لحم الدجاج طازجاً دون أن يفسد”، قال لي الصوت، كان العرفي في الحمام، عندما خرج منه رآني أحمل السماعة، انقص عليْ ولكمني في وجهي، ” أخبرتك ألف مرة أيها الغبي أن لا تلمس سماعة الهاتف”، “لكن….لكن….لكن..”، ” لكن ماذا؟”، “لك….لك….لك….لك”، ” لكن ماذا هل أنت دجاجة؟”، رماني العرفي أرضاً وأحضر سلكاً كهربائياً يحاول صعقي به، جلس على صدري ولامس أطراف السلك فخرجت شرارة نارية من الكهرباء، ” المرة القادمة سأوصل كل سلك في أذن”، قال لي، “ماذا قال؟”، سألني، ” الشارع الغربي، طرح أحمال طويل لمدة أسبوع، 22 ساعة في اليوم”، ” ابن العاهرة! سأجعلها 20″، ” لكنه قال 22 ساعة”، ” 20 يعني عشرين، لديْ خالتي تقطن في ذلك الشارع النحس”. قال العرفي وفعل ما فعله، ” هل قال لك شيء آخر؟”، ” لا، هذا كل ما قاله”، “حسناً”.. وقد جاءت المرة الثانية هذه اللحظة، والعرفي نائم وصاحب الصوت الآمر لن يتوقف على الرنين إذا لما أرد، ” يا كلاب…. دولة عاهرة ونذلة تجرني إلى الفساد” أسمع العرفي وهو يشرب من الكحول بينما عيناه مغلقتين، بدلت نظري بينه وبين الهاتف، تقدمتُ مرتجفاً نحو السماعة متخيلاً شكل العرفي وهو يضع الأسلاك الكهربائية بين أذنيْ ليصعقني، توقفت أمام الهاتف في اللحظة الأخيرة التي توقف هو دوره عن الرنين، هدأ روعي عندما أدركت أنّ الحمل قد انزاح عني لكن أعاد الهاتف رنينه بعد لحظات قصيرة، عرفت عندها أنه لا مفر من الرد، حملتُ السماعة ببطء ووضعته على أذني، ” لماذا لم ترد منذ البداية؟ هذا الأمر غير مسموح أنت تعرف ذلك، لدي 68 محطة أحتاج الاتصال بهم، أنت لا شيء، أنت نكرة…إذا أعدتها مرة أخرى اعتبر نفسك مقالاً، فهمت؟ حسناً، الآن، الدائرة 20، شارع عشرة، اقطع عليهم الكهرباء لمدة أسبوع كامل، لا أريد أن أرى نور عواميد الإنارة في تلك المنطقة، لدي فكرة أفضل…. اقطع الكهرباء عليهم كل نصف ساعة لمدة أسبوع، فهمت؟”، ” حاضر سيدي”، قلتُ له وأغلقت السماعة، عرفت المكان، لقد كان شارعي الذي أقطن فيه ولابد أنّ صاحب الصوت مستاء من الدب الذي رقص تحت توهج النار في احتجاجات الأسبوع الماضي. استيقظ العرفي، أخبرته بما أمرني إياه الصوت وقلتُ له أنني حاولت مراراً أن أوقظه دون جدوى، “قال أنه سيطردك”، أردت أن أشعره بأنني صاحب فضل عليه، شكرني على ما فعلت، وقال لي بأن أغلق المفتاح العاشر في الصندوق، عندها عرفت المفتاح الذي يلج إلى بيتي، كان اكتشافاً عظيماً، فعلت ما أمرني العرفي ولكن بدلاً عن ذلك أغلقت المفتاح التالي، كان العرفي في ذلك اليوم كسولاً ولم يقوى على العمل فكان يخبرني عند انتصاف الساعة أن أرجع لفتح المفتاح، ومن ثم في النصف الساعة التالية أن أغلقه، وهكذا، عملتُ على تتبع إرشاداته.

ألم أفعل ذلك يا عرفي؟ لقد أطعت في كل شيء تريده، لقد عرفت أنّك لا تقطع الكهرباء عن حيّك رغم الأوامر المتكررة لك لفعل ذلك وأنا لم أقم بأي شيء خاطئ، هناك وفرة من الطاقة، أليس هذا ما قلته لي ذات مرة وأنت سكران؟ أنّ الأزمة قد افتعلتها الدولة فقط لتلهي الناس عن القضايا المصيرية التي تمر بها البلاد؟ إذا لم أصدق كلام مهندس عظيم مثلك، فكلام من أصدق؟ ها؟ الصوت الأجش الذي يأتي من السماعة؟ إننا نعيش في المحطة كالكلاب، لا وجود لمكيف واحد، مجرد مروحة صغيرة تهوي سريرك تنقلها عندما تستيقظ إلى مكتبك حيث تعمل طيلة النهار، الثلاجة شبه فارغة إلا من علب العصير المحلي وزجاجات المياه وبعض المواد الأساسية، أحياناً أتألم عندما أخرج للراحة في الباحة فيكاد ضوء الشمس أن يصيبني بالعمى.

(الكاتب)

إذا جلست وبدأت في العمل على قصتي السخيفة، اللامبة مواطن بسيط محدود الدخل مغسول الدماغ يدخل المحطة 69 التي سميت القصة باسمها ربما تيمناً بالمص الثنائي الذي يحدث للمواطن وللدولة، الدولة تضع قضيبها في فم المواطن والمواطن يتجرع ذلك القضيب كمشروب اللاقمي من شائعات وقرارات ارتجالية وحصة الكرزة بين الفينة والأخرى من كعكة الأموال التي يأكلها الفاسدون يومياً، مضافاً على ذلك بلعه هذا العبث الصفيق بمصيره ومصير كل من حوله، أحياناً أعتقد أنّ المواطن يستمتع بعملية البلع والمص مع بعضِ المنغصات عندما يدخل قضيب الدولة إلى مريّه، أما الدولة فهي تدغدغ الكليتروس التي يملكها كل مواطن بيننا بشعارات الوطنية وأنها تعمل جاهدة للمضي قدماً في بناء الدولة المدنية وبأنها لم تخن دم الشهداء، كما تسمح لنا أن نعبر عن غضبنا الشديد منها على الفضاء السايبري. العرفي، المهندس السكّير والذي يبتز منصبه ليفعل ما يشاء متمكنا من عدم قدرةِ السياسيين من معرفة ما الذي يقوم به وعدم رغبتهم في معرفة ما الذي يقوم به لطالما لم يغلق عليهم نور الكهرباء. إذاً، هذه هي شخصيات القصة، ما التالي؟ ماذا أحتاج؟ أحتاج أن أصنع صراعاً بينهما، سهل، الصراعات في هذه البلاد تشبه الخيال، كتيبتان أمنيتان تتقاتلان لأربعين يوماً والسبب أنهما تريدان السيطرة على ذات محطة الوقود، أشعل أحد أفراد الكتيبتين النار في محطة الوقود بسيارات المواطنين داخلها وأنشأ حرباً أكثر حمقاً من داحس والغبراء، أبناء عمومة ظلوا سنين في حالة نزاع على أرض فقط لأنّ كل واحد منهم يدعي أنّ إحدى أشجار النخيل الواقعة في منتصف أرض الآخر هي ملك أبيه، لا ينضب خيال كاتب في هذه البلاد أبداً، بل من المعيب أن ينضب خياله، كل ما يمكن للكاتب أن يحتج به لتبرير كسله وعدم رغبته في الكتابة هو أوضاع البلاد وحفاظات الأطفال وأنين زوجته عليه بأن يصطحبها إلى حديقة الحيوان، هذا كل ما في الأمر. بعد ذلك، كان عليْ أن أبدأ القصة، وفي تلك اللحظة الحاسمة مستفيدا من وجود تزود حاسوبي بالكهرباء منذ نصف ساعة، انقطعت الكهرباء، سببتُ الآلهة القديمة التي حكمت ليبيا وجعلت منها أرضاً جرداء، توقف حاسوبي عن العمل فالبطارية قد فسدت منذ زمن والكتابة لا تجزي مالاً، لم أتلقى يوماً ولو قرشاً واحداً على ما أكتبه، تحركت في الغرفة أكتب القصة في عقلي، لن ينال مني أبناء السفلة، فتحتُ نافذتي أراقب الشارع، بين بيوت الشارع كلها كان هناك بيت واحد به أضواء عرس تتوهج في المكان، سخرت من فكرة أنّ صاحب البيت قد اتصل بأحد العاملين في شركة الظلام وطلب منه أن يتوسط له هذا الأسبوع فقط، سيتعين على هذا المواطن أن يقدم خدمة لصاحبه، ربما أن يصرف له سيولة نقدية يومية لمدة أسبوع فوق السقف المسموح، فكرت أنه يجب أن أضمن مشهد كهذا في القصة، زاد ثقل ملابسي الداخلية فنزعتُ الكنتيرا التي بلت بالعرق في مدة دقائق معدودة، أشعلتُ سيجارتي وأعدت التفكير في القصة، عاد التيار الكهربائي من جديد، أسرعت لجهاز الحاسوب وكتبت، لم تمضِ سوى نصف ساعة حتى انقطع الكهرباء مجدداً، نصف ساعة أخرى عاد، نصف ساعة أخرى انقطع، الرحمة…الرحمة يا زوجة الرئيس، الرحمة بنا، أرجوكِ، اقطعي عنه الجنس حتى يفكر في حالنا التعيس، قلتُ لنفسي. لم أعد أحتمل، خرجتُ من الشقة متناسياً عريي، نزلت من درج العمارة جرياً، مررت بجانب إحدى الجارات، امرأة عجوز، ” الشفع يا رسول الله” قالت العجوز لما رأتني تحاول أن تغض البصر إلا أنني لمحتها تبتسم من رؤية قضيبي المهرول معي نازلاً للشارع، تذكرت سارة وأنا أكاد أصل إلى أسفل العمارة، وتفكرت أنه يمكنني أن أذهب لها في حي الرئيس فقد سمعتُ أن الرئيس قد وعد أهاليها بأن لا يقطع عنهم الكهرباء حتى نهاية العام، خرجتُ للشارع، سمعتُ نغمات الزكرة تأتي مترنحة برائحة الكحول من حفلة العرس القريبة، كان الشارع فارغاً إلا من مجموعة من الشباب الذين انهالوا ضحكاً عندما حل عليهم جرمي العاري، وقفتُ هناك وخطبتُ في الناس بأنّ الوضع خارج عن السيطرة، صاح في أحد الشباب قائلاً، ” قضيبك خارج عن السيطرة”، خرجت النساء والرجال من شرفات البيوت ينصتون للرجل العاري بالأسفل وهو يهذي بكلام لا يفقهونه عن الثورة والخنوع وبأن كل ما نمر به لأننا مجموعة من الأغنام، أغنام صغيرة غير قادرة على الاعتناء بنفسها، كلمات كبيرة عليهم لم يفقهوا ما سمعوه، فأغلقوا نوافذهم ولم يبقى سوى الشباب، كان أحدهم يرتدي بزة ميكي ماوس وقد وضع رأسه بجانبه، أسرع الرجل الميكي ماوسي ليضع الرأس على رأسي، قال لي، ” إذا أردت أن ترقص عارياً في الشارع، على الأقل غطِّ وجهك”. ” أنا كاتب”، ” من كاتب عليك”، ” أريد أن أكتب قصتي، هذا كل ما في الأمر”، ” اسمع يا رجل، لا أفهم ما تقوله، ولكن هل فكرت أن تعمل في مصوراتي؟ سأعيرك بزة ميكي ماوس هذه”. ” ماذا؟”، ” نعم، هذا أفضل لك من هراء الكتابة، لقد وجدت عملاً جديداً في أحد المصائف، والظاهر أنهم يريدون دباً، لقد ضاعت موضة ميكي ماوس للأبد”، ” ضاعت موضة ميكي ماوس؟ ما الذي تقوله؟”، ” كما أخبرتك، الدببة الآن هم الثوريون…. لم يعد أحد يحب الجرذان”.

عندها جاءتني الفكرة! نعم، لم يعد أحب يحب الجرذان، هل يمكن أن تنتهي قصتي بأن يقرض فأر ما الأسلاك الخاصة بالمحطة 69 وينهي العذاب، أو…أو، الأفضل أن تكون هناك شخصية ثالثة باسم الفأر، فليكن مليشياوياً، يدخل المحطة كروبن هوود وينقذ الناس، أو….أو….

(العرفي)

اسكت أيها الثرثار المزعج، صوتك قبيح ومقرف، لماذا تمثل دور البطل؟ أنا أعرف الكتّاب، إنهم مجرد كائنات حقيرة لا هم لها سوى الاعتياش على حياة الآخرين، لقد أزعجني وجودك بيننا، وها أنت تزيد من حماقتك بأن تظن بأنّك البطل بيننا، دور البطل هو دور مزيف ولا يجري وراءه سوى الوهميين أمثالك، لا أفهم رغبتكم في لعب دور البطل تارة ودور الضحية تارة أخرى، هل هذا من عقد طفولة؟ ولكن، لتكون هانياً، لا توجد حبكة لتتبعها هنا، ولا وجود لمؤامرة لتفضحها.

لأسهل عليك الأمر وحتى لا يتسع خيالك، نعم، لقد اتصل بي جاركم وأخبرني بما يمر به وأن عرسه أبناءه الأربعة في الطريق وسيكون جيدا إذا لم تنقطع الكهرباء عنهم في الليل، سيسهل عليْ إجراءات الحصول على عمل في الخارجية الليبية إذا أسددت له هذا الجميل، هل تعتقد بأنني ملتزم فقط بما يمليه عليْ الهاتف؟ لا بالطبع، إنهم حمقى ومغفلين، إنني أبيع ساعات طرح الأحمال إما لقاء خدمات يسديها لي المواطنين أو لقاء المال، هل تظن بأنني سأعيش حياة رغيدة بالمرتب الزهيد الذي تمن علي به الحكومة؟ أنا صندوقهم الأسود، وبصفتي ذلك الصندوق يجب أن أوفر حياة سعيدة لزوجتي التي أغيب عنها أكثر من شهر حتى لا تخونني، ويجب أن أتحكم في ولاءات الناس لي، أنا في موقع سلطة وستفعل مثلي إذا كنت في ذات موقعي، فكفانا غراميات البطل المغوار، لقد شربت أمثالك وقذفتهم بسهولة، لم يطل الوقت حتى كشفت خداعهم، أحد المثقفين أمثالك عندما عرف بأنني المتحكم في مصيره اليومي كتب فيْ أشعاراً وعرض أن يذيع برنامجا في إحدى قنوات أصدقاءه لتوعية الناس بضرورة ترشيد الطاقة الكهربائية.

وهذا الغبي الذي تنصتُ له، هل قال لك بأنه عرض عليْ أن نعذبك بقطع النور عليك كأرجوحة عندما عرف من لقاءه بك في الدكانة بين حيك وحيه وأخبرته بكامل سذاجتك لما قال لك بأنه يعمل في الشركة وبأنه سينقل همومك كمواطن للرؤساء فيها، هل أخبرك بأنه صاحب فكرة طرح الأحمال عليك كل ست ثوانٍ لمدة ساعة كاملة، فقط لأنه رأى أن ذلك سيكون مرحاً؟ ماذا كان ردي؟ يجب أن لا نلعب بمصائر الناس هكذا، يجب أن لا نكون ساديين في فعل ما نفعله، يجب أن لا يكون المرح أحد أسباب القيام بما نقوم به، ألم أخبره بذلك؟ هل تعرف ما الذي قال لي؟ ” أرجوك يا عرفي…. أرجوك، هذه المرة فقط”.

(اللامبة)

لن أعلق على الأكذوبة التي ألصقتها بي الآن يا عرفي، أريد فقط أن أنهي ما أريد قوله ومن ثم سنتفاهم.

ألم تأمرني البتة بأن أغلق مجموعة من المفاتيح في دائرة وسط البلاد رغم أنّ في ذلك اليوم بالذات كان هناك وفرة من الطاقة؟ لقد فعلت ذلك، وكان ما فعلته واضح العيان، أردت للناس أن تخرج في مظاهرات ضد أحد المسؤولين في الشركة الذي كنت في خلاف معه بعد أن اتصل بك ذلك اليوم ومسح بكرامتك الأرض، لقد سمعت حديثه معك، كنت تعتقد أنّك جزء مهم في المنظومة ولكنه أخبرك بأنك مجرد بواب وكل سنوات دراستك في أمريكا يمكنك أن تلقي بها في الفراغ، حاولت تلك المرة أن تتصل مع أحد الصحفيين لتسرب بعض المعلومات عن فساد الشركة ولكنني أقنعتك بأنّ ما تفعله خاطئ وقد يضر بمصلحتنا، ألم أفعل ذلك يا عرفي؟ أنا أحترم علمك ولكن أحياناً لا تفقه الكثير في هذه الحياة.

المهم، لم يمضِ سوى يوم واحد حتى علم العرفي بما أقوم به من إغلاق المفاتيح الخاطئة، نشبت معركة كلامية بيننا لما نعتني بالغبي بينما أعاد مفتاح شارع 11 وأغلق مفتاح شارعي، قلت له بأنني كشفت كل ما يقوم به وبأنني لن أرضى بالوقوف متفرجا دون أن أستفيد مثله من المنظومة، أعدتُ الكهرباء لشارعنا وتخيلت زوجتي وقد سعدت تفكر بأنني أقوم بهذه التضحية من أجلها، أمسك العرفي بخناقي وهددني بأن يطردني خارج المحطة لو أعدت فعلتي مرة أخرى، كنتُ قريباً من قنينة الفودكا الفارغة، حدقت فيها وأخبرته بأنني لن أقوم بذلك، قطع هو الكهرباء عن شارعي، أخذت القنينة بسرعة وضربت رأسه بها، ومن ثم جننت فأغلقت كل المفاتيح في الشبكة إلا مفتاح شارعنا، تخيل في دقائق من حياة هذه البلاد كان الحي الذي أقطن فيه هو الحي الوحيد المنار بين مئات الأحياء، بقعة نور في ظلام دامس لف الجميع، رئيس الحكومة ووزارة الداخلية وحتى مبنى الشركة والكتائب المسلحة وكل ما في هذه البلاد من مقرات حكومية وأجنبية قوية، شعرتُ بأنني أنتصر على كل هؤلاء، وبأنني إنسان مميز، كان العرفي ملقى على الأرض والدم ينبس من مؤخرة رأسه مغمياً عليه إلا قليلا، لكن لم يطل الأمر حتى عاد له وعيه، استيقظ يشعر بألم شديد بينما كنت جالساً على مكتبه أدخن سيجارة انتصاري على المنظومة، نهض مترنحاً يمسك رأسه، بدأ يثرثر بكلمات غير مفهومة بينما يحاول أن يتمالك نفسه، ” أيها الجرذ الحقير”، ” سأقتلك”، هاجمني قافزاً على جسدي يسدد لي اللكمات، لكن، رنين الهاتف أعاد له عقله، “ماذا فعلت أيها السافل؟”، أخبرني بينما نهض يمسك السمعة مرتعشاً، نهضت أحمل السلكين الذين هددني بهما تيك المرة حتى أدافع عن نفسي، ” حاضر سيدي…حاضر، نعم، نعم…هناك مشكلة في المحطة أحاول إصلاحها الآن”، حاول صوت العرفي المرتجف أن يخدع صاحب الصوت الآمر ناظراً لي، ” أظلمت البلاد كلها أيها الأحمق، لا يجب أن يحدث هذا الأمر البتة”، قال لي بعد أن أغلق السماعة، وقفت أمام الصندوق حيث مفتاح شارع 10 مهدداً إياه بعدم الاقتراب، ” لنعقد اتفاقاً”، قال مهدئاً إياي، ” لن نقطع الطاقة عن شارعك لمدة أسبوع ومن ثم نقطعها ساعات قليلة كل يوم، ما رأيك؟”، ” حسناً”، اتفقنا، ” ضع الأسلاك جانباً”، وضعته جانباً ومن ثم جلس على مكتبه ويأمرني بفتح مجموعة دوائر وترك البقية مغلقة حتى نصل إلى السعة المناسبة، ” هاه ما رأيك…الجميع سعداء الآن، حسناً إلا أصحاب الدائرة خمسين والجنوبيين الذين لا يستحقون الضوء على أيةِ حال”، قال بينما يقترب مني، أخذ الأسلاك العارية كأنه يحاول أن يعيدها لحالتها الطبيعية، كنت أريد الخروج لتنفس بعض الهواء النقي في باحة المحطة عندما مر تيار كهربائي سريع في أذنيْ أسقطني.

(الكاتب)

أخذت رأس ميكي ماوس من الرجل ومن ثم تذكرت شخصاً التقيتُ به منذ أيام في دكانة، كان ذلك الشخص يشبه أحد شخصيات القصة التي فكرت بها، أعطاني رقم هاتفه وودعني بصدر رحب، تذكرتُ عريي فركضت عائداً للشقة وأخذت هاتفي النقال واتصلتُ بالرقم، بعد لحظات جاء صوت من السماعة لا يشبهه، كان ينتظر مني أمراً ما، ” آسف أعتقد أن الرقم خاطئ” قلت للرجل في الجهة الأخرى من السماعة، ” لا تعد الاتصال به إذاً”، قال لي، وضعتُ رأس ميكي ماوس على طاولة العمل، كانت الكهرباء قد عادت لحسن الحظ، فجلستُ أنهي القصة الوقحة أنظر بين الفينة والأخرى لابتسامة ميكي ماوس الغريبة.

غصتُ في القصة، كنتُ أكتب لساعات أربع دون توقف إلا لبعض السجائر، انهمر الإلهام على أصابعي كالشلال وأردت أن أغتسل به قدر المستطاع، أذبت نفسي في الكلمات، انقطعت الكهرباء، لكن لم أتوقف، أخذت كراسة وكتبت ما تبقى من القصة فيها وضوء مصباح الهاتف يرشدني إلى السطور والكلمات، لم أنتبه للعرق ولا الغرق في الحرارة، كان كل ما علي فعله هو تسليط غضبي على القصة، أن تكون شرسة وحقيرة وغاضبة ومهينة لي شخصياً، يجب أن تنتهي حتى لو توقف ضوء الهاتف عن الاستجابة وتعين عليْ أن أنهيها في الظلام. رنّ الهاتف، ولكن لم يكن صاحب الرقم هو المتصل بل سارة، كان يأتيني صوتها المرتجف خائفة من انقطاع الكهرباء عنها، ” لا أستطيع المتابعة، لدي مسلسل تركي أريد مشاهدته”، ” لا عليكِ يا حبيبتي”، كنت أريد أن أخبرها بأنني تعذبت لمئات الساعات دون أن أنبس ببنت شفة عن عذاباتي في هذه الحياة وبأنني نسيت الأفلام التي شاهدتها في تاريخي وبأنّ كل ما أحتاجه الآن من الطاقة هو مقدار ملائم لتعبئة خزان المياه في العمارة، فقط لا غير، وبأنها على أحسن تقدير تعيش حياة سعيدة ويجب عليها بين الفينة والأخرى أن تشارك الشعب عذاباته لتقدر حياتها، ” اسمعي عليْ الذهاب…هناك أمر ضروري عليْ فعله”، قلتُ لها، ” أنت لم تعد تحبني، أنا خائفة، ليس لدينا مولد ولا مصابيح يدوية، كل ما هنالك هو ضوء الشموع”، ” إذاً اشعلي شمعة والعني الظلام”، قلتُ لها، مفكراً بأنه بالطبع لن تحتاج لمولد ولا مصابيح يدوية فالكهرباء منذ قرار الرئيس بالعفو عنهم، أغلقت السماعة وأعدت كتابتي للقصة القبيحة التي ستتكرر فيها كلمة مصباح وكهرباء ومكيف وطاقة وأسلاك عشرات المرات فقط لملء الفراغات في قدرتي الإبداعية لخلق قصة موحدة يمكنها أن تتحدث عن عذاباتي كمواطن بسيط.

عندها رنّ الهاتف مرة أخرى، كنت أجهز إهاناتي ومسباتي لسارة التي مللت وجودها في حياتي عندما رأيت الرقم الذي اتصلت به يعاود الاتصال، تغير الصوت القادم منه لصوت يشبه صاحبي في الدكانة، ” المحطة 69، الطريق 66 بجانب شجرة النخيل الوحيدة في الطريق، أحتاجك الآن في المكان، تعال بأي سلاح يمكنك حمله”، أغلقت السماعة وبحثتُ عن أسلحتي، لم أجد إلا رأس ميكي ماوس الذي ارتديته على رأسي خارجا مرة أخرى من الشقة.

ولهذا، أنا الآن هنا أمامكما…

( المحطة 69 )

واجه ثلاثتُهم ثلاثتَهم، رجل يمسك بمفتاح يسيطر  على إضاءة المحطة بينما يلتف جسده حول الآخر ، الثالث كان واقفاً أمام الباب عارٍ تماما وقد غطى رأسه بقناع كبير لفأر يبتسم بطريقة شريرة، يتبادل الرجلان الأدوار حول المفتاح الرئيسي، بينما يقف صاحب الرأس الكبيرة مُهستراً يحاول أن يخبرهم بقصته التي لا يريدان سماعها على أيةِ حال، لا أحد يريد سماع ما يريد قوله هو، فكّر أنّ عليه التخلص منها بأسرع ما يمكن، هي مجرد قصة مخجلة ووضيعة يجب أن تتوقف على نهش خلايا مخه حتى يتمكن من كتابة أعظم قصة يريد كتابتها، كان أحد الرجلان، ضعيف البنية، يتألم من مكان أذنيه صارخا بعد أن صعقه صاحبه الغليظ الملتف حوله، بعد أن أعياهم الحديث ملأهم الصمت كما يملأ الظلام المدينة، قطع صمتهم رنين الهاتف الموضوع على الطاولة بجانب الحاسوب. ” أنت، أجب الهاتف…لم يعد الأمر مهماً” قال الغليظ لصاحب الرأس الكبيرة، رفع السماعة، صوت نسائي عذب خرج منها يقول له:

استيقظ…. الأكسجين انقطع، علينا ملء خزانات الأكسجين في البيت حتى لا نفقد التنفس.

مقالات ذات علاقة

الدم الكبير

الصديق بودوارة

دموع من قريتنا..

ناجي الحربي

قصص قصيرة جداً

محمد دربي

اترك تعليق