سيرة

شيخ المقرئين( مختار حورية)

غلاف كتاب (نماذج في الظل)

اللذين يحفظون كتاب الله في العالم الإسلامي كثيرون والحمد لله واللذين يجوّدونه ويرتلونه وينغمونه بأصوات عذبة حسنة كثيرون والحمد لله.

بل هناك في العالم الإسلامي في بعض العواصم والبدان من أثرى وأترف من فنون التلاوة والتجويد، وله أسطوانات وأشرطة ورحلات وقصور ودور ولياله التي يحييها في حفلات وسرادقات ، الجحز لها مقدمًا ومستشاره يتفاوض معك لزحام برامجه، وبعضهم غدا في أخباره وصوره نجمًا من نجوم المجتمع.

وحسن هذا وقد يكون تقديرًا طيبًا من المجتمع، ومكسبه حلال ، زلال.

لكن يجب ألا ننسى في هذا المضمار والمجال في هذا الدرب أولئك الرواد المناضلين المجاهدين في أحلك الظروف، فهناك صنف في تاريخ النضال الثقافي قد لا يهتم به الدارسون ولا يلفت نظر الراصدين للحياة الإجتماعية في تاريخ هذا الشعب المسلم المؤمن.

أولئك الشيوخ المتبتلون اللذين حافظوا على كتاب الله في ظروف التألب وعوامل القهر والتغلب في العالم الإسلامي، أيام الإحاد والزيغ أيام الفرنسة والطلينة والليتنة- (نسبة للاتنينية).

أيام سياسات التمغرب والتأورب والتنصل والتنصر وفترات الاستبداد والاستعماري وأسواق التقبع والتقنبع أيام الشد والجر والانحراف والانجراف إلى العواصم البعيدة ، أيام الغزو الثقافي والكفر الفكري باقتلاع الجذور ونشر البثور والاستهتار بالقيم.
أيام أن كانت الثقافة الإسلامية بضاعة مستترة يصنعها يهربها يتدرب عليها يعانقها يلهج بها المدجنون.
كالمدجنين في أيام الأندلس بعد شحوبها وغروبها وصقلية وما وراء البحار وما وراء النهرين وما وراء السدين أولئك المجاهدون المرابطون حفظة القرآن في تلك الظروف القاسية الآسية الآسنة.
هم كتاب وقلاع وحصون يُحفّظون أطفال المسلمين وبناتهم كتاب الله حفاظًا على الحرف وعلى مضامين العقيدة من الزيغ والتميّع والتصيّع.
والجهاد ليس حمل السلاح فقط وليس مواصلة النضال في السياسة فقط، بل اللذين حافظوا على كتاب الله وحفّظوه للناشئة ، اللذين رفضوا التجنس والتحلس والتقلص اللذين بروا الأقلام ليخطو للأطفال الفاتحة وما وراءها من آيات وسور…في السطور والصدور أولئك أيضًا مجاهدون حفظوا كيان الأمة حتى وجد الناس فيها لغة وبيانًا ونبضًا وإحساسًا وعقيدة ومقومات شعب وحيوية أمة.

ولولاهم، لولا أصحاب الكتاتيب وحفّاظ الكتاب الله الكريم لضاعت الأمة وتبرنط الناس تهجّنوا.

ومن المناضلين في هذه الساحة وعلى هذا الدرب.

الشيخ مختار حورية … وفي عام عودتي إلى وطني، العام الذي كتبت فيه مقال (لبيك وطني لبيك )…أيام الإدارة الإنكليزية تعرفت على وجوه من أهل المجتمع في طرابلس، كان من طلائع هذه الوجوه النيرة الصادقة شيخ المقرئين، مختار حورية .

كان قارئًا ممتازًا وعند سماعك له تاليًا تشعر بهزة الإيمان يحوط بك حنان عاطفي في آيات الوعد والرضوان والرحمة والغفران كأنك تشعر بروح وريحان وتحس بأشياء فوق الحواس.

وعندما يتلو آيات الإنذار والعذاب والتحذير تشعر بأداء وتلاوة فيها هزة روحية وقشعريرة كأنما تزلزل أعماق الأعماق، وتشعر بخشوع ورهبة .

رهبة الخوف من الله …إحساس هو فوق التصور والتعبير كأنما في دمك فوار يلهب وكهرباء لها انتفاضة وهزة تكاد تصفعك وكأن الكلمات إيقاعات على العروق تُحدث زلزالاً داخليًا وفيضًا من المشاعر متدفقًا، كأن الآية الكريمة نزلت ساعتها، كأن الخطاب موجه إليك وحدك كأن ليس بينك وبين قدس الأقداس وعلو الأعلى حاجز وحي الله الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكم حميد).

والشيخ حورية في صولاته وجولاته وتحليقاته يتهدر…

ويتهدج وينهمر وينحدر ويقترب ويبتعد، كأنما أنت طفل تهدهدك أم روؤف بحنان رؤوم ويد معطاءة حنون لكن هي هدهدة .

لا تبعث راحة الإغماض بل اليقظة التي تخاطب النفس بلا حواجز ليس تخديرًا، إنما هو إنعاش وخطاب روح لروح.

وهو يتلو متمكنًا من أصول التلاوة بالمد الطبيعي والمد العادي كانت لأصابعه عند التلاوة هزة لاشعورية أو هي عمق الشعور، له في التلاوة وقفات كأنما يشد بها الإنتباه شدًا أو يلفته لفتًا …يسمونها في ضوابط التجويد السكتة اللطيفة ثم له إنطلاقة كأنما يحلق بها في الأجواء تحليقًا .

وقراءة هؤلاء المجوّدين من أهل فن القراءات بجانب الصوت الموهبة قيدت أيضًا بتعاليم وقواعد التجويد.

والشيخ حورية لم يكن فيه تصنع المطربين ولا تماوج المتكلفين المتأوهين ولا خروج على قواعد التجويد والأصول لأنه إيقاع للتأمل والاعتبار والفهم وليس إيقاعًا لمجرد التصويت والتطريب، فلولا هذه القيودات التجويدية لإنطلق صوت التالى والمقرئ إلى أبعد قراراته وأبعد انطلاقاته ولأنقلب من تال ومرتل إلى مغنٍ ومطرب ولكن بين هذا وذاك وذياك لقاء وفراق واجتماع في ناحية وتفرق وتمايز في أنحاء والضابط والفيصل هو قواعد التجويد وضوابط الترتيل التي حفظت فنون القراءة والتجويد من انزلاقات التميّع وانسياب التطريب.
والقواعد والضوابط لفنون التلاوة والتجويد جعلت للقراءة دائرة لها هيبتها ورهبتها وأصالتها .
وهذه القواعد والضوابط هي موازين رسمت الإيقاع في حيزه وطبيعته ليكون الفرق والتمايز بين التجويد والغناء والاعتبار والتلهية والترتيل والطرب والمقرئ والمغني، وقد ميزت كل هذا وحفظته من التسيّب تلك الأصول العلمية والقواعد الفنية لفنون التجويد وعلوم القراءات ورحم الله الإمام الشاطبي وأمثاله ومن سار على منواله .

وتشعر عند الإستماع للتلاوة كأنما تغسل نفسك غسلاً، وتطهرها تطهيرًا، أو كأنما خلقت خلقًا جديدًا في لحظات والزمن يذوب ويتلاشى لا مقياس للزمن في عالم الإحساس ويذوب الزمن في دائرة الإحساس وتنبهر الأنفاس وتتحطم الحواجز وتنساب الآيات من المقرئ المجوّد وتنساب نغمات هذه الحنجرة كأنها أوتار مشدودة وقعت عليها الملائكة لحنًا روحيًا تحمله الكلمات الألهية في الصمت الرائع والإنصات الخاشع .

قلائل من هبات الوهاب اللذين يحتفظون بنغمة صوتهم وتدفق حنجرتهم إلى مراحل الشوط الأخير من رحلة العمر، والشيخ مختار حورية لم تصب حنجرته التجاعيد ولم تنقصها ولم يرخ الزمن وترًا أو حبلاً من حباله الصوتية.
وإن أصيبت جبهته بالتجاعيد، لم يصب صوته بالتجاعيد ولا الشروخ والتراخي رغم توالي السنين رغم غضون الجبين وتثاقل الأعوام ظل صوته في تلاوته وأدائه قويًا له بريقه ولمعانه وأصالته…شاب رأسه وابيض فوده ولم يشب صوته لم ينكمش صوته بل على وهج الإيمان ازداد توهجًا وتدفقًا.

وقد يكون للحفاظ على الصحة وتعاليم الشرع أثر وتأثير فلا دخان ولا سهر ولامتعات من أودية الحرام.

ولا حشيش ولا تغشيش ولا كاس ولا طاس ، مما يرهق وتترهل معه الأصوات ويجني على المواهب الطبيعية.

عفوًا مواهبهم الإلهية وعندما يقرأ مختار حورية تشعر في رحاب التلاوة بحنان عاطفي ولديه المقدرة الفائقة على ما نستطيع أن نطلق عليه( التصوير الصوتي).

وأداء التعبيروالنبرة المميزة في حروف الهمس والإشمام والغنّة وما في مخارج الحروف من إبداع العطاء الصوتي ، والإلمام التعبيري.

كان مولد مختار حورية بمدينة طرابلس عام 1888م وحفظ القرآن الكريم بخلوة سيدي بوكر بمنطقة الظهرة وكانت الظهرة رابية من روابي مدينة طرابلس وحيًا من الأحياء التي تزدحم بالناس وتموج بالحركة.
وكان أستاذه الأول الشيخ الفزاني والمجبر. وأتم حفظ القرآن الكريم وعمره سبعة عشرة عامًا ، ثم ساعد شيخه بالتعليم في الخلوة .
ومن منطقة الظهرة إلى طرابلس أو قلب المدينة القديمة كانت النقلة شوطًا أو مشوارًا واتخذ من خلوة عبد السلام الأسمر بالمدينة القديمة مقرًا للتعليم وتدريس كتاب الله وخلوة عبد السلام بــ(قوس المفتي).
كان هذا في آواخر العهد العثماني والذي كان فيه كر وفر ومد وجزر ومعايب لا تحصى وحسنات لا تنكر.
وجوانب حالكة قاتمة وجوانب مضيئة لا تغطيها سحب الإنكار أو الجهالة و التجهيل.
حسنات وسيئات شأن المد التاريخي على هذه الشطآن المضطربة في تلك العهود المتماوجة، وعلى شاطئ طرابلس كان هناك بالمدينة كلية عسكرية تركية وكانت تحافظ على الشعائر والمشاعر واحتاجت إلى مؤذن وإمام ولابد أن يكون حنفي المذهب باعتبار أن مذهب السلطان الخليفة حنفي فالمناصب الشرعية من هذا المذهب التشريعي المفتي والقاضي والإمام والمؤذن ولابد أن يؤدي الإمام والمؤذن الإمتحان في فقه أبي حنيفة النعمان.
رضي الله عن الجميع

ودرس الشيخ مختار حورية المقرئ مذهب أبي حنيفة النعمان وصاحبيه أبي الحسن وأبي يوسف وامتحن في فروع الفقه الحنفي وقواعده أمام لجنة من العلماء من أهل الذكر والفضل والإختصاص وكان اتصال الشيخ حورية بالكلية العسكرية بطرابلس رغم أنه شيخ وإمام ومقرئ فرصة للإحتكاك بأهل العلم والأدب والفن بل هي نافذة أو ناقلة صقلته وأفادته في تكوينه واتجاهه الفني والتربوي والإحتكاك أو السماع والمشاهدة في مثل تلك الأجواء ذات الصبغة العلمية يولد التقليد والمحاكاة، وبالتالي المناقشة والمنافسة ثم الطموح والرغبة في تلافي النقص والبحث عن الكمال أو الكمل والتجمل.

ومن هذه الساحة ومن هذه النافذة تعرّف الشيخ المقرئ على أهل العلم والأدب واتسعت مداركه بالإنصات المرهف والمطالعة الجادة والتأمل المثمر والرغبة الجامحة والمواهب الفنية إن لم تصقل تتلاشى وتذبل وتذروها رياح الإهمال والشيخ مختار حورية قد شجعه وأفاده إثنان ضابط تركي وفنان عراقي.

ضابط عثماني متدين كان بالكلية العسكرية بطرابلس صاحب حس ووجدان .

أما الفنان فقد سبقته شهرته قبل أن يزور طرابلس وظل صيته الفني يدوّي في العالم الإسلامي، هو الموسيقي العالم الملا عثمان الموصلي وكان له أثر في حياة الشيخ مختار حورية وأبناء جيله.

وقد أعجب الضابط التركي بتلاوة الشيخ مختار حورية وصوته المؤثر وطلب منه أن يرتل القرآن الكريم في بيته وكان من العادات الطيبة في مجتمع تحوطه العاطفة الدينية تلاوة القرآن في البيوت، والمرابيع والسهريات وطلب الضابط من الشيخ أن يقوم بتعليم أبنائه القرآن الكريم وعندما وصل إلى مدينة طرابلس الفنان الملا عثمان الموصلي في مهمة من طرف السلطات التركية وزار الفنان الموسيقي الكلية العسكرية واجتمع مع مختار حورية واستمع إليه أعجب له …فنان يستمع لفنان.

موهبة تبحث عن مواهب، وأعجب بالتلاوة والأداء والروح ذات التأثير الوجداني، ولازم مختار حورية أستاذه الموصلي طيلة إقامته بطرابلس وكل فنان أصيل هو لأهل الفن صديق وقريب، وكأنما تعارفا من يوم أن خلقا بل إن قرابة أهل الفن والفكر أعمق من آصرة السلالة والدم، ما لم تكن هناك في دائرة التنافس والمعاصرة نزاعات أو نزغات.

وأوصى عثمان الموصلي المسؤولين مقدرًا لمواهب أدائه وكل ضابط أو موظف عثماني في الولايات عرضة للتنقل والترحل أو عرضة للنفي والإبعاد أو العودة إلى بلاده بعد التلويح والتطويح.

عاد الضابط إلى إسطنبول دار السعادة موئل الخلافة وعرض تكريمًا وإعجابًا على الشيخ مختار حورية الرغبة في السفر معه إلى تركيا حيث الحياة أفسح والعيش أرغد ومجالات الإتصال بأهل الفن والعلم.

ألم تكن عاصمة العالم الإسلامي رغم الدسائس والوساوس ؟! وتردد الشيخ حورية، الوطن غالٍ وترابه أو أتربته عزيزة أيترك زنقة زعطوط وزنقة الريح إلى إسطنبول والبسفور ؟! ولكن شجعه أستاذه الشيخ عثمان موصلي بل إنه كان من المقترحين سفر حورية إلى إسطنبول، وقد وجد فيها عثمان الموصلي راحة وهو قرين أبي العلاء المعري في النظر لا في النظرة والإتجاه.
وكانت نقلة من الظهرة وباب البحر وشط الهنشير (وبلاش المثل الشعبي) إلى إسطنبول نقلة مهمة بعيدة ومهما كانت رياشًا او إنتعاشًا فهي فرقة وغربة وما سمع الشيخ عثمان الموصلي بهذا التردد من صاحبه المقرئ، حتى لكزه لكزة في صدره تكاد أن تكون لكزة أو وكزة موسى في صدر صاحبه.

أتترك هذه الفرصة ؟ ارحل وسافر وتعلم أدرس…

وفي الأسفار خمسة فوائد الموسيقى والفن بكل الفوائد هل يمكن أن تترك الفرصة ولك موهبة ومستقبل ؟ وسافر إلى إسطنبول رفقة الضابط التركي وعائلته وهو الشاب خفيف الظهر خفيف الحِمل وأقام مختار حورية في تركيا مدة عامين وهو فترة خصبة عامان ولم يكمل رضاعه الفني وتشربه الفني وشغفه وتعرف إلى العديد من أهل العلم والأدب والفن .

وكان جنوحه إلى عالم الفن أكثر ودرس علم الطبوع والألحان والفنون القراءات وكان من حسن حظه وفرصه المتاحة من الناحية الفنية أن إجتمع مرة أخرى مع الفنان الشيخ عثمان الموصلي الذي كان يعتبره أستاذه.

وكاد أن يجعله مطربًا فنيًا وملحنًا موسيقيًا مثل سيد درويش وعبده الحمولي والصفتي وأضراب هؤلاء من هذا النمط الفني عمالقة الأنشاد والغناء والأداء والتلحين.

واللذين كتبوا عن سيد درويش أو اللذين تعرضوا لترجمة الملا عثمان الموصلي أشاروا إلى صلة عثمان الموصلي بالفنان سيد درويش وكانت صلة الأستاذ بتلميذه.

وفي إسطنبول ولياليها الفنية تعلم الشيخ الطرابلسي العزف على العود أو زاد في مرانه ومواصلة تدربه وتعلم أيضًا العزف على آلة القانون لعله من أوائل الطرابلسيين اللذين أجادوا العزف على آلة القانون إذ كانت آلة العود منتشرة حتى عند بعض البيوتات ذات الغمغمة والكمكمة والبنوك ورواشن عين الزرزور من مشربيات لا تكشف العيون ما وراءها.

كان الشيخ يوزع أوقاته بين التلاوة والأداء والفن والمواهب الفنية أحيانًا تتموّج أو تتصارع في صدر صاحبها حتى تكون لإحداها الغلبة على الآخرى.

كان لديه في مطلع تشرّبه واستيعابه الإتجاه الفني أو الميل الأغلب الأكثر جنوحًا وطموحًا هو الجانب الموسيقي والتلحين حتى أن الشيخ المرتل الحافظ والمجوّد المقرئ عندما عاد إلى موطنه بالباخرة طبعًا كانت أوبته مثل ذهابه بحرًا وهبط شاهد أهل الثغر في الرصيف في الميناء هذا الشيخ يتأبط أو يحرس على شيئ ملفوف بعناية ضخم شيئ لا يستطيع أن يحمله معه تحت إبطه ولا يريد أن يبتعد عنه ولايريد أن يدفعه أو يزج به بين الحقائب والجوالق والمكدسات والمكومات.

يشفق عليه ترى ما هو ؟ هذا المسافر العائد غريب الزي والحركة غريب اللهفة ما هذا ؟ أهو زجاج يتكسر أو لوحة تشوه أو هي ثروة يحملها معه من دار السلطان وباب السعادة شيئ من الضياع أو التهشيم ؟

ويقول علماء النفس وغير علماء النفس إن شدة الحرص والإلحاح وكثرة التوصية والتطلع قد تدفع إلى سؤال الإستطلاع أو تساؤل الإستغراب والإهتمام قد يدفع إلى البحث عن سبب الإهتمام أو منابعه وبواعثه وجذوره.

أي شيئ هذا أيها الشيخ ؟

تساؤل شفاه رقيقة أو تلويحة خشنة وبلاعم أكلتها رطوبة الموانئ .

قطعتان من آلات القانون للعزف، ولم تكن هناك نواد ومسارح إنما كانت البيوتات والحجرات التي يؤجرها الشباب وهواة الفن للسهريات جماعات جماعات وكان الشاب الذي عاد من ليالي إسطنبول وسهريات الموسيقى بها يسهر في طرابلس في بيت أجرّه بشارع الدباغ القديم هذا الشارع الذي كان يُعد منفذًا وشريانًا للمدينة القديمة، كان يحلو له السمر والسهر مع أصدقائه ويعزف لهم على آلة القانون وكانت أصابعه المتمرنة المتمرسة تجري وتلامس متوثبة أو متأنية أو مترنحة متمايلة متماوجة منسجمة هذه الأصابع نشوانة سكرى، الأصابع على الأسلاك كأن لأصابعه عيونًا خاصة أو كأن جاذبية اللغة الموسيقية لها مغناطسية بين اللمسة والنقرة، كأنها عند تماوج الأصابع على الأسلاك والخيوط المشدودة لون هو همس الأحبة وتعاطف في لغة الشوق الملتهب.

تتراقص رؤوس الأصابع في مسها ولمسها وجريانها على الساحة السلكية كأنها نقرات أو نشوة راقص من أصحاب الهيمان الصوفي نشوان بخمر الوجد خمرة لا تباع ولا تُصب في القناني جريان أصابع الموسيقى على ساحة الأوتار جريان حاذق يُعرف بالموهبة والسليقة والمران موطان الإيقاع وتنغمات الإبداع.

وخطاب الأرواح والأدواق بلا كلمات ولا حروف لغة الوتر المشدود والنغم المنساب وتلامس الأصابع للأوتار كأن بها لمسة نار أو لذعة محترق أو قبلة حنان أو لفتة جيد غزال شارد أو حس طائر غريد لهفان أو خلسة عزول هي رقصة الأصابع في سلالم الأوتار إرتفاعًا وإنخفاضًا وإقبالاً وإدبارًا حتى كأن بواطن النفس خريطة ترسمها النغمات أو لوحة شفافة تلونها الإيقاعات كم في جوف هذه الآلة الصامتة من عواطف حبيسة وأحاسيس قريرة تفجرّها أصابع الموسيقيّ الملهم …وسبحان الله !!

رحم الله أبا نصر الفارابي الفيلسوف المسلم والذي اخترع وركب لنا هذه الآلة الموسيقية وقالوا إن أوتار القانون بين أصابع الفارابي كانت تُبكي السُمّاع وتضحكهم وتنوّم الجُلاس وتوقظهم في حكاية تدل على روعة الإبداع والإختراع لهذه الآلة التي تكونت منها أنماط من الآلآت هي نبتة عبقرية في تاريخ الموسيقى، رحم الله أبا نصر الفارابي فمن نغمات القانون دوّن واستنبط الموسيقيون آلاف التوليدات النغمية.

الفن والموسيقى هواية وشغف لكن لقمة العيش وعرق الجبين من أين ؟ وفي هذه الفترة شمّر عن ساعده ليكون تاجرًا ألم يكن هناك في طرابلس ومصراتة عدد من أهل العلم وطلابه بل وشيوخ أفاضل يتاجرون ولهم محلات ودكاكين بسوق الرباع وغيره ؟ ولكن هل خلق هذا الشيخ للتجارة ؟

يبدو أن أهل الفن بينهم وبين التجارة والإقتصاد ولغة الأسواق عداء مستمر أو ود مفقود وشد وجذب لأن الإقتصاد إنضباط ومحاسبة وإمساك وترصّد وتربص ومراوغة وهذه أشياء لا تحبذها ولا يقدر عليها أهل الفن البوهميون.

ولكن الشيخ المقرئ الفنان جرّب والحياة تجارب .

فتح الشيخ مختار حورية محلاً تجاريًا بسوق الرباع ولم تنجح تجارته الدنيوية فلم يستطع أن يجلس القرفصاء أو جلسة (ترليلي) على دكة خشبية من الصباح إلى المساء ومن المساء إلى شحوب الشمس ودكنة الأفق، ينتظر شروة أو بيعه وقياس قميص ورداء وسروال وبلغة وطاقية وقد يكون المساوم لها والزبون الهابط أقرع أو أفحج أو أبخر أو أصلع مثلاً، هل تتنمل أقدامه ثم يتثاءب ويتنمل إحساسه الفني ؟

فليبادر بالفرار إن أصوات الدلالين ومساومة المشترين أصوات ليست لأذنه هناك نغمة قانون في رأسه ترنيمة عود في أذنه آهة في أعماقه دندنة تهويمة سرحان ثم ها هو يتلو آيات مجوّدًا ثم ها هو يأتي بمتون الجزرية والشاطبية وكتاب الإتقان في علوم القرآن… إن هذا من مجاله وواديه، وفي حديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه ( كلٌّ ميسّر لما خلق له ).

وراجع الشيخ حسابه وحسبانه مع نفسه وآثر أن يعود إلى تعليم أبناء المسلمين كتاب الله…فباع محله التجاري بسوق الرباع وودّع الربع وسدنته ودلاليه، بل ونظر إلى الآلتين من آلات الموسيقى (القانون) نظرة مودع مخافة أن تلهيه عن الرسالة العلمية والخطة التربوية التي رسمها لنفسه مخافة أن تأكل الهواية والغواية الفنية وقته أو تطغى أو تؤثر على الهواية الفنية على المنهج التربوي العلمي.

وحقيقة لا تضارب بين الحس الفني وروح الدين ولكن الشيخ المعلم والأستاذ المربي خشي وتخوّف من أن تأخذ سهريات العود والقانون وتوابع ذلك ولوازمه كل وقته، فطريق الفن له أول ولكن لا آخر لشوطه.
( وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)

ومن جديد ترك الشيخ المقرئ مختار حورية الإنشاد والأوتار والألحان ومداعبة الآلآت الموسيقية وهو تلميذ الفنان الموسيقي عثمان الموصلي .

باع الشيخ مختار حورية آلة القانون وأدوات الموسيقى ليشتري بدلاً منها (حصران) و(توازير) لفرش المكتب وألواحًا ومحابر وأدوات الكتاب والمدرسة القرآنية ليحفّظ الناشئة كتاب الله في تلك الأجواء ذات المخاض الخطير والظروف العانية القاسية وغدت سهرية زقاق الدباغ عبارة عن تواشيخ وأناشيد ومدائح نبوية أليس هذا أيضًا فنًا ؟ وأسمى ألوان وأنواع الفن وتغذية المشاعر والأحاسيس ؟! .

كان الكتّاب الذي إنطلق منه الموجود الآن بجانب (جامع النخلي) بشارع سيدي مفتاح بالمدينة القديمة وتزاحم الطلاب والمكان غير فسيح والإقبال يتزايد فإنتقل الشيخ حورية إلى كتّاب جامع (بن صوان) في نفس الشارع بحي المدينة القديمة ثم إنتقل إلى جامع عبد الحفيظ (قوس الصرارعي) أيضًا بالمدينة القديمة يفوح منها عطر التاريخ وعبق الحضارة والطابع الهندسي الإسلامي الأصيل والصمود والشموخ للعواصف والأنواء وإستقر به المقام في جامع عبد الحفيظ كان الطلاب أزيد من الثلاثمائة طالب ولم يكن في تنظيمه الدراسي على نمط الكتاتيب المعتادة بل إستحدث في محيطه نظامًا تربويًا كان له أثره في تلك الظروف أيام الإستعمار الطلياني وقسّم التلامذة إلى فصول ومجموعات وعندما تكاثرت عليه الأعباء إستعان ببعض المدرّسين والمعلمين وكان كتّاب الشيخ حورية بطرابلس الغرب الأشهر الكتاتيب في شمال إفريقيا وحقبته وملابسات ظروفه ولم يعد مفهوم الكتّاب وصوره الكتاتيب في أذهان بعضهم مجرد جريدة طويلة كريهة ولو زعموا أنها من الجنة وليس في الجنة قسوة ولا عصي ولا جرائد أو جريد للضرب لم تعد صورة الكتّاب ومفهوم الكتاتيب فلقة ثقيلة وتكشيرة من (فقي) لا يعرف اللين والإبتسام بل كزازة في اليد وجهامة في الوجه وثقل أو تثاقل كما صورت المفاهيم الخاطئة أو التخطيط الذي حارب أهل كتاب الله وحفظة قرآنه ، لقد غير الشيخ حورية وأمثاله من شيوخ أفاضل الصورة والمفهوم لمعنى الكتّاب والكتاتيب والشيخ والفقي فكان هو وأمثاله كريمًا وشهمًا ومفتوح الصدر وإجتماعيًا وجزءًا من كيان المجتمع له الإحترام والتقدير.

ولم يصبح مفهوم الكتّاب عند العامة وأولياء أمور الأطفال الأبرياء(يا فقي خود اللحم واعطينا العظم) يقولها الأب أو العم إرهابًا على مسمع الطفل الصغير. ولا هي فرحة المسرحيين في نشد الأطفال( سلم سيدي سرّحنا حط عضامه في الجنة).

ولست أدري أي خبيث من الأطفال هذا الذي بادر وطالب الإسراع بحط عظام شيخه في الجنة وهو يسمع الكورس ينشد.

لم يكن كتّاب حورية على نمط هذا بل به مواد علمية تُدرّس وحصص منسقة وأهم من هذا وذاك البحث عن المواهب وتنمية الميول كأحسن ما تكون الرغبة في التكوين التربوي والبناء الوطني مما قد يعجز عنه أصحاب( الديكورات) والشهادات والإمكانيات والدعوات وإدعاءات عريضة أو غريقة أو غميقة، أدخل في نظام الكتّاب علوم الرياضة أي الرياضة العقلية ودراسة اللغة العربية التي كانت محاربة في عصور الإستبداد والرطانة والطلينة والتحلس والتجنس.
وكان الطلاب قبل إطلاق سراحهم وقبل تكوين النشيد القومي أو النشيد الوطني في تلك الأيام البعيدة كان يعلم الأطفال إلقاء الأناشيد الوطنية الحرة والتي لا رقابة للإدارة الإستعمارية الفاشية عليها.

فهو بهذا كان أيضًا حصنًا وطنيًا ومعهدًا فنيًا تربويًا، وكان يمتحن طلابه كل أسبوع أمام كبار حفاظ كتاب الله، ومن هذا يوجد نوع من الرابطة بين حفظة كتاب الله وروح التسابق والتنافس بين الطلاب واهتمام أولياء أمورهم بهم، وكانت هناك في مدينة طرابلس عادة طيبة في الكتاتيب القرآنية بمناسبة مولد رسولنا محمد صل الله عليه وسلم يقرأون مدائح نبوية للشاعر الصوفي الفنان أحمد البهلول الطرابلسي.

عادة فيها ذوق ووجدان ووجد ولكن الشيخ حورية في كتّابه ومدرسته اختلف عن بقية الكتاتيب فبجانب ترتيل طلابه هذه المدائح والتراتيل أيضًا يتمرنون على إلقاء الخطب والكلمات والمحاضرات وجعل الإستعداد لإمتحانات الطلبة في حفظ القرآن الكريم يوم 10 ربيع الأول كل سنة في موسم الإحتفال بمولد الرسول صل الله عليه وسلم.

وللشيخ حروية نشاطه المتواصل لإبراز كثير من المشاريع التي تتصل بالمحافظة على القراءة والتلاوة وتكريم حفظة القرآن وقضى أكثر من أربعين عامًا متواصلة في تعليم أبناء وطنه القرآن والتلاوة والتجويد وتخرج من كتاب حورية أجيال وأجيال ومئات ومئات من اللذين أتموا الحفظ ومئات ومئات حفظوا أجزاء منه وعشرات وعشرات توجهوا إلى مصر حيث الجامع الأزهر صانه الله ذخرًا للإسلام والعربية.

وحاول أن يؤسس بجهده الفردي ومساعيه الذاتية في طرابلس جمعية للمحافظة على القرآن وراسل وكاتب جمعية المحافظة على القرآن بالقاهرة وجاءه الرد وتواصلت المكاتبة في المشروع الذي كان يتلهف عليه صونًا لكيان هذه الأمة ولكن الظروف وسيطرة الإدارة الإنكليزية آنذاك والتيارات المتعلقة بقضية الوطن لم تمكنه من تنفيذ مشروعه الخيري.

ولعل من أوائل اللافتات التي كتبت في المظاهرات الوطنية التي كان يسيّرها الشعب ضد الإستعمار والتلاب السياسي تلك اللافتات التي كتبت في مدرسة وكتّاب حورية.

كان حرًا في إدارة مدرسته وعرضوا عليه الإنتقال إلى جهات حكومية رسمية والتوظيف وإشراف الإدارة فرفض يوم أن كان الرفض غير مأمون العواقب، وظل بمدرسته جزيرة في وسط أمواج تتلاطم وعواصف تموج وتشتد وتهدأ وتمتد.

أسس مدرسة لمحو الأمية بطرابلس عام 1942م وتعد من بواكير الخدمات الإجتماعية والتطوع لتثقيف فئات الشعب وكانت فصول محو الأمية بجامع الدباغ القديم حيث الزقاق الذي طنطن فيه أيام الشباب على الآلآت الموسيقية وتدرب فيه على النغمات والتلاوة، هاهو يعود إليه محمّلاً بواجب إجتماعي للمساهمة في خدمة بلده.

وهو من أصحاب الأسلوب السهل في التعليم والتربية ولذا أحبه الناس وأقبل عليه الطلاب على مختلف مراحلهم ، من العجينة اللينة في مراحل الطفولة والتلعثم في النطق والتعثر في الخطو وتعلم التهجي والنطق إلى أصحاب فك الخط وبارمي الشنبات وعاقصي الشوارب أو عافي الشارب واللحى وأصحاب (النقاب المحمودي) وأصحاب اللكمات والقبضات كل هؤلاء في ساحته يهدأون وينصتون هو معلم من معلمي الشعب في تواضع وأصالة.

وكان بيته ندوة علمية وصالون إجتماعي ما من شخصية علمية أو وطنية تفد إلى طرابلس وتمر بها إلا إستضافها الشيخ صاحب الذوق الرفيع والحس العلمي ويدور السمر وأنواع المحاورات الأدبية على تلك المائدة التي تفننت في صنعها أياد ماهرة كريمة.

درس الشيخ حورية على أستاذة فضلاء أمثال مختار الشكشوكي الذي كان من جلساء البطل رمضان السويحلي وأحد أعضاء المجلس الإستشاري أيام السويحلي وأتم على يد الشكشوكي دراسة علم التجويد والقراءات كما تعرّف على الشيخ صالح الفضيل التونسي الذي توفي بأرض الحجاز.

والشيخ حورية في أيامه الأخيرة رتل القرآن الكريم ثلاثين ليلة في رمضان عقب صلاة العشاء والتراويح بالمؤتمر الوطنب بشارع عمر المختار حيث كان الزعيم بشير السعداي، وكنت في ليالي المؤتمر هذه أقوم بإلقاء دروس ومحاضرات في تفسير القرآن الكريم بعد تلاوة صاحبنا مختار حورية .

وشاءت مقادير الله أن يودع مختار حورية الحياة ويرحل إلى جوار الله الكريم يوم 10 ربيع الأول 13 هجرية 9 ديسمبر 1951م، وهكذا كانت حياته ما بين ضفتيّ 1888م و1951م عطاءً علميًا متواصلاً من أجل الحفاظ على كتاب الله وتعاليمه .

-عن كتاب (نماذج في الظل) الطبعة الأولى صدرت عام 1978م

مقالات ذات علاقة

للـتاريخ فـقـط (1)

عبدالحميد بطاو

السيرة الذاتية للكاتبة .. شريفة القيادي

أسماء الأسطى

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (35)

حواء القمودي

اترك تعليق