هـدى توفيق/ كاتبة وأديبة (مصـر)
صدرت المجموعة القصصية “شواطئ الغربة” للكاتب خالد خميس السحاتي، ط1، في العام 2019م. عن دار نشر المكتب العـــربي للمعـــارف- القاهرة.
دائمًا ما يكون الرمز سواء الإنساني أو المجرد يُمثل تصورًا جادًّ ومهمًّا عن أحد التعبيرات والدلالات المهمة في تذليل عقبات المبدع إلى حد كبير؛ لطرح ما يرغب في التعبير عنه، وتوصيله للقارئ والمتلقي داخل الحكاية السردية سواء القصصية أو الروائية، وتلك الرموز تكون بمثابة الإشارات التي تستدعي أطروحات وإشكالات تدعنا نتأملها جيدًا حتى نصل لمغزى القصص، ومرادها سواء المعنوي والمادي كل على حد سواء، وفي تلك المجموعة القصصية يتجلى الرمز كمعول رئيسي ومحوري، بداية من العنوان (شواطئ الغربة) الفصيح والمفصح عما تحمله المفردتان من مباشرة، ومدى تداعيات تلك الشواطئ الغريبة والمغتربة في كامل المجموعة القصصية التي تتباين بين القصة القصيرة المعهودة والأقصوصة القريبة من قصيدة النثر، بما يمكن أن نطلق عليه أنها تعج بتمثلات السردية النثرية، فالأقصوصة لا تتراوح عن عدة سطور، وتتشكل بتشكلات نثرية مجازية واستعارية في أغلب الأحوال، وهذا يُعد الجانب الإبداعي الأكثر كمًّا وكيفًا في شواطئ الغربة، بينما القصص الأخرى الطويلة وصاحبة الحكايات السردية تقريبًا لا تتجاوز 6 قصص وهي: (خربشات صبيانية/ انتقام/ شواطئ الغربة/ المحفظة/ لعنة الكلمات/ تجليات الأقدار)، وبقية المجموعة تندرج تحت ادعاء التسمية بلفظة أقصوصة أو القصة النثرية، إذا كان لنا إجازة هذا التعبير الأقرب لتوصيف هذه الأقاصيص الإبداعية، لكن في الوقت نفسه لا أعتقد أن من المستطاع أن نطلق عليها القصة الومضة؛ لأنها مكتملة البناء الدرامي إلى حد ما من: حوار، واختيار رموز تنطلق من محكيات متناثرة للمصدر الأم والأشمل، وهو عنوان شواطئ الغربة؛ كمسمى وظيفي وتأسيسي عن ملاذات الغربة الفاجعة.
بلا شك أن الخطاب الأدبي بوجه عام يأتي بطرح تأويلات عدة من خلال المؤشر الفعّال والأساس في قيامة أي نص، وأي خطاب، وأي تأويل تأتي لاحقة لوجوده الفعلي حتى يستطيع التأثير بها في المتلقي؛ أي من خلال اللغة كما أشار هذا المرجع للكاتب الفاضل/ حسن كريم عاتي في كتابه “الرمز في الخطاب الأدبي”(1)، “إذ لا يمكن تصور خطاب من دون وجود اللغة الناقلة له، بل تخلق خطابها بتشكلها في الطاقة الدلالية والانفعالية للكلمة، والعلاقة التي تخلقها في الجملة مع الكلمة المجاورة لها، والعلاقة المركبة بين الجمل في النص الأدبي”. ويستطرد: “والمعنى ليس شيئًا توضحه اللغة ولكنها في الحقيقة نتيجة”(2.(
أي بمعنى تأويلي كما أشار المصدر: “وبذلك تكون الدلالات التي تثيرها اللغة هدفًا مركزيًّا من حضورها في النص الأدبي وخلق تأثيرها في المتلقي، لكن تلك الدلالات ترتبط أصلًا بالرموز التي تدل عليها، وتلك الدلالات المتكونة من التراكم النوعي للإشارات وتفاعلها في النص، حاملة الرموز، خالقة الأزمة، والباحثة في الوقت نفسه عن حل لها”. وهنا سنصل لمقترح مهم لكي نستعين به في التطبيق على تلك النماذج القصصية المطروحة في شواطئ الغربة وهو: “لذلك يُعد الرمز في النص الأدبي سواء أكان ذلك النص نثريًّاً أم شعريًّا، مرتكزًا أساسًّيا يقود القراءة إلى تأويلات تتصل بمرجعتيه من جانب، وتتصل بطبيعة استثماره وحضوره في النص من جانب آخر، عن طريق الإشارات المبثوثة في المتن وتقوم بمهمة بنائه؛ وتحيل إلى خارج النص إحالة صريحة بالإشارات ذات السمة الوظيفية التي تتصل بتلك المرجعيات أو تقترب منها أو إلى الأشياء المجاورة لها”- “وتلك الإشارات ذات السمة الوظيفية لها دور كبير لتشكيل رؤية تعني المتلقي والقارئ حيث تلك الإشارات التي يخلقها الرمز”(3). ونضيف لذلك دلالاته التأثيرية المتعددة المضمون والإيحاء.
لنبدأ من عتبة النص الصريحة والمباشرة في المجموعة القصصية (شواطئ الغربة)، الذي يُعبر إلى حد كبير عن مضمون المجموعة كاملًا؛ من خلال الرمز الكبير تلك الشواطئ المغمورة بالغربة، والاغتراب، والفقد، والحنين، والحزن، والتحسر من متاهات التشظي، والتهميش، والهجران، والاغتراب داخل الوطن وخارجه، فمفردة الغربة مفردة شائعة عن السفر والرحيل عن الوطن الأم، لكن هنا في تلك المجموعة يتجسد المعنى بإيحاء أشمل وأكمل. الغربة أيضًا حتى داخل الوطن الأم الآتية من عدم الانتماء، والتحقق، والكينونة الوجودية لفعل حقيقي وحر؛ فالانتماء الحقيقي داخل الوطن لا يعني فقط العيش في مكان محدد داخل الوطن، بل هو العيش بامتثال عال من خلال التفاعل، والعمل، والزواج، والذرية، داخل مؤسسات ومقدرات هذا الوطن بكرامة وعدالة وإنسانية وحرية.
لكن عندما نفتقد حتى القدرة عن البوح، والتعبير بطلاقة وصراحة بالكلمات كما قرأنا هذا جليًّا في قصة “لعنة الكلمات”، والعديد من النماذج القصصية باستخدام رموز قوية، ومحددة، وموحية بقدر كبير، عن تشنجات الغربة الموجعة، ليصبح الوطن أشد قسوة ووطأة حتى من الغربة الفعلية سواء بالسفر، أو الرحيل، أو اشتهاء الغربة كامًلا ضمنيًّا ومكانيًّا وزمانيًّا، أنموذج بطل إحدى القصص الذي حاول الهروب بأي شكل للفرار من غربة وطنه الأصلي، فكان مصيره الهلاك في البحر. لكن المؤلف على الرغم من كل ما يلم به وغيره في الوطن من شواطئ غريبة، وجانحة، ومؤسفة، وطاحنة تهلك أبناءه بطواحين الغربة الهالكة، لكن سيظل الوطن هو الوطن وما يُمثله الوطن أي الميلاد، والذكريات، والبشر، واللغة، والعادات، والطقوس ستظل دائمًا لوطنه لا غير، فيكون: “الإهداء.. إلى وطني الحبيب “ليبيا” أرض البطولات والأمجاد في الماضي والحاضر أهدي هذا العمل…”، لنستدعي ما أشار إليه المرجع السابق إلى مدى أهمية الرمز الذي يصل إلى المتلقي والقارئ عن طريق اللغة التي تحوي تلك الإشارات الرمزية التي ذكرناها في بدء القول من المرجع السابق: “أو بالإشارات التي تتعاضد في بناء الرمز وتُنم عن رؤية المؤلف الذي يرغب في إبراز جوانب منها”.
فإن الرمز بذلك يكون العمود الفقري الذي يُبنى عليه النص الأدبي، وبتكامل بناء النص الذي يفترض أن يتكامل معه بناء الرمز كذلك، بل لا يمكن عد النص مكتملًا ما لم يتكامل بناء الرموز فيه، ويكون قد أدى الوظيفة الدلالية التي أُستحضر من أجلها”(4). نلاحظ أيضًا أن التنسيق والشكل الداخلي للمجموعة به بعض الاختلاف؛ حيث نجد أن كل قصة ملحقة بلوحة تشكيلية للفنان التشكيلي (الدكتور معقوف أبو راوي)، وإن كنت لا أدرك إلى حد ما ما المنحى الوظيفي لهذه الإلحاقات التشكيلية قبل كل قصة؟!.
لكن عالم الفن يتوحد بالطبع، وجائز في طرح وتشكيل كل جديد كما يرى المؤلف؛ فهو في نهاية الأمر فن وإبداع لا يرتبط بقواعد فنية أو حسابات رياضية، حتى تصورت بعد التفحص في تلك اللوحات التشكيلية التي هي معبرة بقدر كبير عن ماهية الرمز بشكل كبير؛ الذي هو الغربة، والاغتراب، ومتاهات المجهول، والوحدة والألم، وغيرها من تداعيات الغربة الموجعة، وكل معاني تلك المتاهات الواسعة من الغربة، وكأن تلك اللوحات التشكيلية أصبحت كإحدى الإشارات التي تتعاضد في بناء رموز القصص بتنوعها، والمتولدة من الرمز الكبير الذي يعبر عن رؤية المؤلف عما يريد إبرازه من جوانبها الأخرى، ولو بالفن التشكيلي أيضًا كمتمم للإبداع السردي القصصي، وليكن التعليل لذلك أن السرد والفن التشكيلي إشارات دالة ومهمة لتعميق العمود الفقري للحكي أي الرمز، الذي يُبنى عليه النص الأدبي، فاللوحات تشارك ولو برؤية بصرية توحي بدلالة كل قصة بتشكيل فني.
ومن ثم ما دام هناك تعاضد بين المسرود إبداعيًّا والتشكيلات الفنية الملحقة بكل قصة؛ إذًا تلك اللوحات الفنية التشكيلية لها وظيفة دلالية استحضُرت من أجلها، وربما تكون لها وظيفة أحادية وهو تآزر الفن التشكيلي داخل البناء الفني كاملًا لكل قصة من أجل إبراز وتوضيح الرمز المراد التعبير عنه، لكنها في نهاية الأمر وظيفة لها طابعها الحضوري الفني والإبداعي التي أتت من أجلها كما أشار المرجع السابق، واستدعاء هذا التقسيم الهيكلي للمجموعة القصصية لا لشيء إلا لتعزيز الأفكار وتداعيات هذا الرمز المستلهم من كل قصة على حدا؛ بدايةً من قصة “خربشات صبيانية”، حيث الرمز الظاهر هو خربشات الأطفال في الفصل الدراسي “يعبثون بحقيبة المعلمة، أحمر الشفاة، كريم تفتيح البشرة، مشط العاج، كلها أصبحت بين يدي الصغار ألعوبة، كمن يواجه مصيره المحتوم ويقف مكتوف اليدين، لونوا وجوههم وأيديهم، ورسموا بخربشاتهم على جدار الفصل لوحات صبيانية مزركشة بفوضى الألوان الفاقعة”(5.(
بينما المعنى الضمني والغائر لما يقابله من خربشات المعلمة التي تعبر عن سيميائية تيار الوعي الداخلي الذي يدور في مخيلة المعلمة حتى وهي في العمل بين أطفالها، وبدأت بها القصة كرمز قوي؛ ليعبر عن مدى وعي السارد الضمني لتلك الحالات الاغترابية التي تنتاب الشخص من حين لآخر، على الرغم من الصخب والوهج الطفولي والتناحر. لكن في العمق يبزغ شاطئ من شواطئ الغربة العنوان الأم لكل القصص، وأقاصيص تلك المجموعة قائلًا على لسان حالها: “منهمكة طيلة وقتها بالنظر في مرآتها الصغيرة”- “الفصل في حالة يرثى لها، مقلوبًا رأسًا على عقب، وتعود المعلمة لمرآتها وأدوات تجميلها، تُخرج أحمر الشفاه الذي أهداه لها خطيبها وتمرره على شفتيها بسرعة، تكتحل، وتمشط شعرها، تنظر في المرآة”(6).
هنا المعلمة في حالة اغتراب شديد عن عملها، ولا تفكر في أدائها التعليمي والوظيفي نحو مسؤوليتها الدراسية التعليمية لهؤلاء الأطفال، بل تفكر في حياتها الخاصة تمامًا، حتى أنها بمجرد أن تتذكر خطيبها تُخرج أحمر الشفاه الذي أهداه لها؛ لتتذكر ملمسه ولونه على شفتيها فتبتسم، وتهنأ بنظراته، وحبه، وإعجابه حين راودها حبيبها في المخيلة الأنثوية البحتة، فتقلب كل موازين حياتها العملية بأنها معلمة وفي العمل ولا بد أن تلتزم بقواعد العمل، وواجبها أن تُدرس وتنتبه لأطفالها المشاكسين. لكن لا تفعل ذلك لحالة اغترابية كبيرة تعاني منها بطلة القصة لأنها لا تحب عملها، وبالتالي لا تنتمي شعورًّيا وذهنيًّا لهذا المكان على الرغم من أنه قوت عيشها ورزقها، فتهرب من الواجب العملي بحيلة فنية بالتفكير في خطيبها والنظر في المرآة طويلًا، والاعتناء بأدوات تجميلها، بل وتكتحل وتمشط شعرها وتنظر في المرآة من حين لآخر مرة أخرى وأخرى.
هذه حيلة اغترابية تحيلنا لرمز الغربة لتنجو بنفسها المرغمة على هذا الواجب العملي الذي لا تنتمي إليه بتاتًا، حتى ولو كان مجرد وسيلة لكسب العيش والرزق، إلى أن تأتي ذروة القصة، لينفضح أمر هذا الاغتراب الشديد الذي يملأ جوانح البطلة المعلمة في التعامل مع أطفالها: “عثر أخيرًا على قطعة حديد من مقعد مكسور، أمسكها بيد مرتعشة، ودون سابق إنذار، رمى بها على النافذة اليمنى بكل قوته، تهشم زجاج النافذة سريعًا، محدثًا ضجة رهيبة، فزعت المعلمة المسكينة، وأتت بخطوات متلاحقة، لكن خطوات ناظر المدرسة كانت أسرع”- “دخلت المعلمة الفصل، رمقت تلاميذها بنظرة عابرة، ثم أخذت حقيبتها الرمادية التي لم تعد جديدة، وخرجت مسرعة، وقد عقدت العزيمة ألا تعود إلى هذا الفصل من جديد”(7).
هنا احتدم الموقف الدرامي للقصة، وتلاشت أقنعة الرمز الأم، وهو شعور البطلة الطاغي بالاغتراب وعدم الانتماء لهذا العمل كليًّا، وافتضح أمرها بالتكاسل، والتجاهل والاستهتار لأداء وظيفتها تمامًا ما جعلها تهرب كما هربت في المرة الأولى، بالتفكير، والتشاغل بذكر حبيبها عن عملها الوظيفي، فهربت من كل هذا العالم الغريب أمامها والبعيد عن طموحها ومخيلتها العملية بتاتًا.
هكذا تتنوع الرموز بين رمز إنساني بكل تشكلاته الحياتية سواء لأطفال يعيشون الحياة ببراءة التقاطهم لمحاور الحياة، أو رموز مجردة تزخر بها العديد من قصص المجموعة، وتصبح الرموز كما أشار المرجع السابق بمثابة: “قناع أو أقنعة المؤلف، وإن كان ذلك لا يتحقق بالتأكيد إلا من خلال التماسك الداخلي للنص في كامله من تفاعل ضمني لتلك الإشارات الدالة على استحضارات أو استدعاءات إبداعية موحية ومعنية بتعميق الرمز/ الأم الذي ينسحب بشكل تلقائي وفني على عنوان المجموعة القصصية كاملًا (شواطئ الغربة). أنموذج قصة “الانتقام” تبدأ بسرد قصصي أقرب إلى أوصاف القصيدة النثرية الرقيقة: “يرحل عبر نافذة الحلم إلى عينيها، تتشبث رغمًا عنه بما تبقى من ضحكاتها، يشتاق إلى كلماتها الدافئة، إلى هوائها ونزقها الطفولي، يمتطي صهوة الألم، يتحول بلا زاد بين بقايا الخوف والوحشة، كم هو بارد المكان دونها، وجهها ملتصق بكل شيء، الأبواب والنوافذ والفرح والربيع،…”(8(.
إن رمز الانتقام هنا تجسيد حي عن الوحدة، وهجر حبيبته والفراق الكبير الذي يُمثل الرمز النفسي والمعنوي، والذي يؤدي ببطل القصة إلى البحث بل والتفاني في البحث عن حبيبته التي تحاصره بالذكريات، والعشق والفراق، فهو لم يعد يطيق النظر إلى هذه الصور، ولا البقاء أسير هذا العجز المدمر الذي كاد يسحق جدران البهجة في قلبه، ولذلك قرر أن ينتقم من هذه الوحدة القاتلة. إذًا هنا تتأكد إشارة المرجع السابق بأن: “استخدام الرمز بوصفه عنصرًا فاعلًا وقادرًا على إشاعة الفضاء الدلالي الواسع في النص، بما تخلقه الإشارات فيه من إيحاء يقود إلى التأويل”(9).
فإشارة لفظة الانتقام تشير إلى الإحساس القاتل والقاسي بالوحدة، والحزن، والشوق، والحنين إلى حبيبته بعد فراقها. جعله يتخذ من مفردة الانتقام نازعًا روحيًّا قويًّا من أجل الثأر والانتقام من هذا الوضع البائس الذي يعيش فيه من دون طلة، ونظرات عينيّ المحبوبة المشرقة، على الرغم من مكر المسافات أي بُعدها عنه لكي يصل إليها، فتفعيل آلية المجاز جعل من المسافات الطويلة مسافات ماكرة تحول بينه وبين دفء اللقاء مع بهجة حياته وشموعه الوقادة بالفرح، وقد: “كبلته أناها المتمردة بشراسة فأحس أنه حر طليق، وازداد إصرارًا على مواصلة السير، وأقسم أنه لن يعود بدونها!”(10).
ثم تأتي القصة المسمّاة بعنوان المجموعة القصصية “شواطئ الغربة”: “وحده كان يجلس في غربة الضيوف”- “تأبط ذراع الوهم المرتعش، علق في دائرة مغلقة لا مخرج منها، بدا وحيدًا ككائن تائه في كواكب النسيان البعيدة، تساءل عن جدوى هذه اللحظات الباقية، وعن قيمة الحياة كلها دون رفيق يخفف عنه وعثاء السفر..”(11).
يسترسل السارد الضمني برشاقة السردية النثرية للتعبير عن مشاعره الحادة المفجعة، عن روح مهترئة بنزاعات الغربة بعد رحيل الأحباب، ودفن الذكريات في دائرة لا مخرج منها. إنها أشبه بطواحين الهواء التي تدور وتدور في عبث ولا جدوى وقد: “تسربت صور الماضي الباهتة إلى نوافذ ذاكرته التي نسي أن يغلقها قبل أن يطل عليها الليل بظلامه الحالك”(12)، حتى تنصحه زوجته بالتوقف عن طرق أبواب الماضي الذي رحل ولن يعود، وعليه أن يتجاهله وينساه ويعيش حياته الحاضرة، ويفكر في المستقبل، وفي واقعه المعيش من أجل نفسه وأسرته المكوّنة من زوجة وطفلين وواجبه أن يرعاهم ويعتني بهم، فهم الأَولى والأهم بالتفكير والرعاية. لكنه بات شخصًا مبتورًا ومنهكًا بمشاعر الاغتراب، والتشظي، والغربة من كل ممن حوله حتى لو كان يحتاط بهذا الصولجان الأسري. وفي لحظة فارقة من اليأس البالغ والاستسلام لمصيره المحتوم خرج بتهور وغضب يبحث عن جزيرة نائية ليس بها كل هذه المتاهات الاغترابية داخل وطنه الكبير، والصغير المتمثل في عالمه الأسري قائلًا بحسرة وتوجع عالِ: “فما لبثت شطآن الغربة تدعوه لسبر أغوارها من جديد”.
إلا أنه في نهاية الأمر يتذكر الطفلين. عودة لما أشار وأكد عليه المرجع السابق: “وبذلك تكون الرموز قناع المؤلف الذي يغطي به شخصيته، ويُظهر الرمز ليؤدي بالنيابة عنه ما يود هو أداءه، محققًا بذلك، من بين ما يحققه، الكثافة والاختزال بالإيحاء الذي يخلقه ويقود إلى تأويلات تتصل به”(13).
كما أشرنا من قبل أنه يوجد ستّ قصص تقريبًا لها صفة القصة الطويلة كمًّا وكيفًا من حيث تعدد مفردات الأدوات القصصية، والطول النسبي، والحكي المسترسل والوافي لمؤازرة المتن القصصي لكل قصة على حدة، بينما بقية القصص التي هي حوالي سبع وعشرون قصة تمتثل للفن الأقرب إلى الأقصوصة، وأيضًا لما هو أشبه أو قريب من القصيدة النثرية بتضمين وتلميحات نثرية سردية إلى حد كبير من حيث: جزالة العطاء، والكثافة، والاختزال، وتداخل فن الكناية، والتشبيهات الاستعارية والمجازية. أنموذج آخر للقصة الطويلة قصة “لعنة الكلمات، تتحول الكلمات هنا كرمز قوي ومؤثر، فبمجرد قولها تتحول إلى لعنات تصيب أصحابها من قائليه بمجرد فقط التفوه بها، حتى ولو كان عن حق تتحول إلى عقاب بالنفي، وربما الموت يا لها من جريمة بشعة، وقهر عتيد في كتمان الحق والاستحقاق، يهدر وينزع كرامة وحقوق أي شخص مهما كان؛ حين فقط لا غير يرمي بكلماته أمام الظالم والمتجبر والمستجير بحقوق الجميع، قائلًا على لسان حاله: “كبير القبيلة كان رجُلًا أربعينًّيا يرتدي ملابس رثة بالية، ويحمل في يده عصا طويلة، يسير على الأرض بقدميه النحيلتين وكبريائه وصلفه لا حدود لهما، صوته جهوري صاخب، عندما يتحدث تسكت كل الأصوات، وتخرس كل الكلمات، ويُصغي الجميع إلى ما يقول باهتمام بالغ، لسبب واحد فقط أنه كبير القبيلة الآن، وولي نعمتها وحامي ديارنا من الغزاة والطامعين..”(14). كما نلاحظ يعبر الرمز في تلك القصة عن الكلمات؛ التي هي مباحة ومتاحة لكل إنسان في هذا الوجود الحياتي. ولكن هنا تتحول إلى لعنة مع كبير هذه القبيلة القاسي الفظ حتى أنه: “سمع اثنين ذات مرة يتهامسان وهو يتحدث في مجلس الأعيان والحاشية المقربين، فما كان منه إلا أن نفاهما إلى مكان بعيد، يعاقب فيه من يُذنب من أفراد القبيلة وحرمهما من العودة إلى أهلهما، فقط بسبب كلمات خاصة”(15).
والأسوأ من ذلك أن حُراس القبيلة مُنعوا من حصتهم المعتادة من المؤونة لأسبوع كامل لأن الفئران تسللت إلى مستودع المؤن وأفسدت بعضها، وحاول كبير الحراس الاعتذار بكلمات لطيفة نيابة عن بقية أتباعه من الحراس لكن من دون جدوى؛ فقد صدر الحكم النهائي ولا مجال لاعتذار أو أسف. هذا الظالم القاسي ينهب ويظلم ويتسلط على الناس من دون شفقة أو رحمة؛ فاجتمع شباب القبيلة لدعوة مجلس أعيان القبيلة في اجتماع طارئ مع الحاكم لمحاولة إصلاح أمور شؤون القبيلة، وتطبيق العدالة، وفكر ابن أحد الأعيان المقربين من زعيم القبيلة بقتله. ووصلت الفكرة إلى كبير القبيلة فأعدمه فورًا على الرغم من أنه ابن لأحد الأعيان المعروفين؛ فقرر أخ الشاب القتيل الانتقام لأخيه فقتله بطعنه عشر طعنات بلا توقف. في تصور صادم ومفجع أن السبب الوحيد كانت لعنة تلك الكلمات، التي كانت تسعى أن تقول الحق لمحاولة استعادة الحقوق، ومقدرات الشعوب المسكينة المغلوبة على أمرها، فالكرامة والعدالة والحرية مطالب أي بشر سواء في مجتمع قبلي أو مدني، والتعبير عنها بالكلمات حق مقدس لكل البشر باختلاف أجناسهم، ومعتقداتهم، وقوميتهم، وهويتهم الثقافية، والاجتماعية.
لكي يحقق هذا النص الأدبي أثره في المتلقي كما أشار المرجع السابق بذكره: “فإن ذلك التأثير لكي يأخذ مداه في الإقناع يعتمد تراكيب فنية وأدوات أسلوبية وعناصر أدبية تكون حاملة لذلك الفكر، تجعل من إمكانية التأثير متحققة، من بينها استخدام الرمز بوصفه عنصرًا فاعلًا وقادرًا على إشاعة الفضاء الدلالي الواسع في النص، بما تخلقه الإشارات فيه من إيحاء يقود إلى التأويل”(16). أما في قصة “ضجيج الصمت” يصبح رمز الصمت والسراب هما بطلي القصة، وتلك تشير إلى أنها رموز مجردة ولها تضمين معنوي، ونفسي كبير ودلالات التأويل بها تحوي العديد من الإيحاءات؛ بإشاعة فضاء إبداعي سردي نثري واسع التأثير بين تفعيل دلالة ثنائيات التضاد والتناقضات داخل الأقصوصة بين الصمت الذي يتمرد على صمته ليفرغ شحنته من الصراخ والصخب، اللذين ينوء بحملهما لسنوات. وبين السراب الذي يحاول أن يهدئ من روعه وهو يخاطبه بلين ورجاء واعتزاز حتى تعود إليه ثقته بقيمته الصامتة. فهذا مسماه ومضمونه وقيمته ومحتواه الذي يعتز به حيث كينونة الاسم والرمز في الوقت نفسه، واحد الشكل والمضمون مهما تألم، وامتلأ بالوجع والتأزم النفسي الحاد، ليخبره السراب الذي يعادل نفس القيمة والمعيار الرمزي بأريحية وبشاشة: “إنك من ذهب. أجاب الصمت بهدوء مصطنع: وهل يتجاهل الناس الذهب ويقصونه في زاوية مهملة؟”(17). ثم يتبادل الصديقان الأدوار: “فصمت السراب، ودخل الصمت في حالة من الصُّراخ المتصل حتى تحول إلى سراب!!.”(18). أقصوصة “انتشاء” أيضًا يعبر الرمز عن حالة مجردة وروحية، والتي يشعر بها الإنسان داخل روحه بمشاعر فياضة؛ تلك المشاعر التي تعلو وتهبط بالشخص حسب أفعال الذكريات داخل الذاكرة الإنسانية. في تلك الأقصوصة يتجلى الانتشاء بذكريات الماضي البعيدة قبل ثلاثين عامًا، وهو يُكرم في عيد المعلم، انتشى فرحًا، ثم عاد حزينًا منكسرًا بحزن قائلًا: “ألقى الصور من يده، وشرع في بكاء طويل كطفل يتغنج على أمه لتعطيه قطعة حلوى”(19). وبين لحظات الحزن والفرح أقفل دفتر الذكريات: “ونام على فراش الأحلام المبتورة”(20(.
ويتوالى هذا المد الرمزي في تلك الأقاصيص التي تشمل بقية أجواء المجموعة القصصية بحوالي سبع وعشرون أقصوصة. قصة “انتظار”؛ الانتظار دائمًا ما يكون مفردة من مفردات شواطئ الغربة بوجه عام تعبيرًا عن متاهات الاغتراب والوحدة، والألم، وانتظار الفرج، والفرح بأي سبيل. وينمو ويكبر في تلك الأقصوصة على شكل سردي نثري بديع بالغ التعبير، والإيحاء الإبداعي الرمزي المكثف، والمتمم ببلاغة المقام، والتوهج الإبداعي، من خلال قيمة ومغزى الانتظار الوجودي لكل حيوات البشر، وليس فقط لأبطال الأقصوصة، فأبطاله كائنات حية غير إنسية لكنها تحيا وتتنفس بأرواح الحياة البشرية المعذبة، وتعاني مثلهم شظايا الانكسار، وهزيمة الحياة من فقدان وتهميش، وغربة، واغتراب، وتشظي موجع ومؤلم للغاية. لكن حتى هذه الآلام داخل المخيال الإبداعي تثير فارقًا جماليًّا داخل التصورات، والتمثلات البلاغية التعبيرية بدلالاتها وإشاراتها المحكمة الرصينة، على الرغم من ألمها ووجعها بل وأحيانًا قبحها؛ لأنها خصبة بتخيل إبداعي يسقينا الآلام والعذابات والمتاهات الاغترابية بكأس من التخلق السردي النثري الواسع الأفق، والأخاذ لأنه مزج سردًا مع نثرٍ، فكان مزيجًا مدهشًا وخلاقًا، قائلًا على لسان حاله بسردية نثرية فاتنة: “القمر يشع بنوره على الكون، ويمنع الغيوم قاتمة السواد أن تحجب ضوءه من عيون الحالمين والبائسين والعاشقين، الحديقة تخلد إلى النوم، يجلس على ناصية الطريق في انتظار الرحلة القادمة، بعد لحظات قليلة سيفرح الجميع، القمر والغيوم والحديقة وحتى الليل؛ لأن الحديقة نامت قبل أن تخبر القمر بقصة انتظار الليل لموكب شوق لن يأتي أبدًا”(21).
قصة “ندم” رمز صريح مثل بقية الرموز المباشرة كعتبات ومفتاح لأغلب أقاصيص المجموعة، ذلك الرمز الذي بإشارته نجني الحسرة، والألم، واللاعودة والندم، والحسرة على ما فات، وراح واندثر ولن يعود، حتى في حالة عودته لن تعود البدايات الأولى العفوية التلقائية الطيبة؛ لأنه تبدل وعانى من مشاعر القسوة والخيانة، والافتراءات، فتلك مشاعر وأحاسيس لا تقدر بأي ثمن وغال مهما تمنينا عودة الأشياء لا تعود مطلقًا. فالزمن لا يعود، والروح لا تعود، والقول الساحق الماحق لا يغتفر بسهولة: “عندما سألت نبتة الزعتر الكرز بعفوية: هل يريد هؤلاء لنا الخير أو السلام؟ فأجابتها شجرة الكرز بصوت خافت بأن عليها أن تسأل تلك الدبابة القابعة عند سفح الجبل… وكانت الإجابة مرعبة، وقاتلة بأن تحول الحقل إلى أشلاء ممزقة من الفروع والأغصان المحرومة من الحياة والأمل والتراب”- “عرفت نبتة الزعتر الإجابة لكنها حتمًا ندمت على ذلك السؤال اللعين).(22).
وهكذا تتوالى تلك الأقاصيص في اتخاذ الرمز ليكون من بين العناصر الفاعلة المشتركة لكل قصص المجموعة تقريبًا للوصول لقيمته الفنية والإبداعية. نماذج: (حُلم/ نهاية الحكاية/ أقنعة/ القلب الذهبي/ ….)، لنستدعي ما أشار إليه المرجع السابق أن من العناصر المشتركة لتأويل النص، وتوضيح مدى قيمته الإبداعية الفنية هو الرمز: “من بينها الرمز الذي يمتلك خاصية الكثافة والاختزال للبوح بما يود منتج الخطاب قوله أو الإشارة إليه أو الإيحاء به عن طريق الخواص الفنية لعنصر الزمن”(23). مع ملاحظة أن السارد الضمني يتضمن داخل السرد القصصي تبادل الحكي بين السارد الضمني أي الراوي العليم، وضمير المتكلم، وكلها موحية بدلالات الرمز الأوحد، وهو الإنسان حتى بتخيلاته المجازية للأشياء المجردة؛ تأتي من خلال إنسان معذب شقي بمتاهات الغربة المفعمة بمشاعر الاغتراب الطاغية، فالمشاعر واحدة لكل إنسان في أي زمان ومكان، وكل الإشارات الفنية التي تجاور الرمز من دلالات واستلهامات واستياقات تؤكد على تلك الروح الواحدة لرمز واحد، بانزياح متوحد الفكرة والاختيار، والتي بالتالي يُحيلنا إلى العنوان الرئيس للمجموعة كاملًا، أي إن كل تلك المخربشات الإبداعية التي بدأت بقصة “خربشات صبيانية” ما هي إلا أمواج من شواطئ الغربة لأي إنسان، وكل إنسان يعاني في هذا العالم بكامله وتمامه.
حتى نصل إلى قصة “متاهات التشظي” التي تتكون مفرداتها من الوحدة ودروب الضياع ومدائن الوحشة، وهو يبحث عن ذاته وأحلامه في طريقه الحياتي الوعر، لكنه لم يجد إلا الصمت المرعب، وذلك الصمت الداخلي المقهور، بينما يتراءى له صخب الآخرين، وعلى الرغم من كل صخبه وضجيجه إلا أنهم يتحركون مثل الدُمى الجامدة، بل وكأنها تبدو لناظره: “منازل فارغة وهي ملأى، وأنفس غاب عنها ترياق المحبة الزاكي، فضاعت في متاهات التشظي”(24(.
الرمز يكمن براعته وإتقانه في مدى التماسك الداخلي لآلية كتابة النص كما أشار المرجع السابق، وإن كانت تلك الآليات ليست اعتباطية بالطبع، ولها محددات رمزية واضحة ذكرها المرجع السابق: “اختيار ثيمات النصوص من خلال الرموز المعبرة عن منتج الخطاب وممارستها لها سلطة تكون بالقارئ الضمني في داخله، وبالشروط الفنية للنمط الإبداعي، وبالرؤى النقدية والأعراف الأدبية السائدة. أي أن سلطته تلك تصطدم بمحددات تحدُ من التمادي أو الاستبداد في ممارسة ما نظنه حقاً له على النص”.(25).
أي “يصطدم بمحددات تُمثل في الأصل حدود سلطة منتجه على النص، أهمها:
1-الشروط الفنية الخاصة بالنمط الإبداعي.
2-القارئ الضمني.
-3القيم النقدية السائدة (وتمثل الرؤى الفنية والفكرية للنمط). أي تلك الأنماط الفكرية التي تم طرحها داخل العمل السردي بوجه عام(26).
وبذلك التماسك الداخلي الذي يبدعه تداعيات الرمز، محوره الصدق الفني داخل النصوص الأدبية المنتجة للخطاب التأويلي، أي: “توفير الصدق الفني المرتبط بما يوفره النص من قناعات”(27)، وهو بالتأكيد صدق: “لا يرتبط بأي نوع من الصدق المتصل بصحة المروي أو خطئه، “إنما الصدق الفني يرتبط بالنص نفسه تحديدًا بما يوفره من حيثيات. وأن ذلك الصدق لا يتأتى إلا بالتماسك الداخلي للنص”(28(.
لنعود لاستكمال تطبيق هذا على نماذج أخرى من شواطئ الغربة. أنموذج أيضًا قصة “أطلال”- “حيث تحولت جدران البيت إلى أطلال مخبأة في ذاكرته تحمل كل منها قصة لم تُرو لأحد بعد، عن طفولته وصباه وشبابه، عن عذابات عمر مضى”. هنا أطلال البيت تتحول إلى رمز للذكريات من الطفولة، للشباب والعمر الماضي(29)، بينما قصة “رحيل” المهداة إلى الأم العزيزة، وتجليات هذا الرمز العظيم للأمومة في: “تفقد الأم للغرفة، وترتيب الأوراق المبعثرة، وتنظيف المكتب المزدحم بالفوضى والسرير”. حتى جاء ذلك اليوم، ولم يعد يصدق “فوضى غرفته على حالها وكل تفاصيله الطفولية كما هي، دُهش وحزن وأدرك أن أمه رحلت عن البيت، لكن حنانها المتدفق لم يغادر قلبه أبدًا”(30.(
نلاحظ أن السارد الضمني يتشكل بين الراوي العليم، أو ضمير المتكلم الذي يجعل إشارات ودلالات النص تفيض بمشاعر وأحاسيس داخلية، تنبع من روح المتحدث والمتكلم فتتشابك وتمتزج في أجواء حقيقية، بما يعطي مصداقية المتخيل أو المخيال السردي داخل الحبكة القصصية، وهذا بما يمكن أن نؤوله للصدق الفني الذي تحدثنا عنه في بدء القول. وكذلك قصة “حبكة”: “وهو يحاول كتابة الأقصوصة الجديدة، وترتسم الحبكة المحكمة في ذهنه، وتفاصيل الشخصيات، يكتب قليلًا، لكن النعاس يهزمه ويستسلم للنوم”. الرمز يعبر عن الحبكة القصصية ذات نفسها(31). أيضًا قصة “تحايل” عن رجل يعاني آلام الشيخوخة وأعراض العجز، ويستعطف أبناءه الثلاثة أن يزوروه بعد طول غياب عنه لكنهم يلحقوه بدار المسنين، قائلًا على لسان حاله: “تفاجأ من هول الصدمة، ثم أدرك متأخرًا أن أبناءه فعلوا ذلك، ووفوا بوعدهم له!”(32). الرمز في تلك القصة يتشكل في قيمة لفظة (التحايل) التي تشع فضاء دلالي وواسع التأثير من أجل التعبير عن مدى الضعف، والألم، والانكسار، أمام سلطة الزمن القاسية بفعل الشيخوخة.
قصة “لقاء” وقصة “زخات” التي هي حوار بين الغيمة والنبتة المتعطشة لقطراتها، وهي تهددها بأن ماءها لن ينزل هنا، بل في مدينة أخرى، لكن النبتة كانت واثقة من نفسها، وقدرة الله بأنه سيجيئها رزقها مع غيمة أخرى لم تصل بعد(33). قصة “طيف”(34) عن فتاة كان يحبها وغادرت الدنيا من عشرين عامًا، وأثناء سيره في السوق لشراء مسبحة جديدة لأمه، يلمح طيف حبيبته، فتقع الأكياس، ويلحق بها بجنون العاشق حتى أنه يسأل رجل الأمن عنها. لكنه لا شيء، إنه مجرد سراب وطيف مر بخاطره المحزون على فراقها، وهزمه وكسره من سنوات عدة، ومن كثرة التمني والرجاء والحب، ووخز الفراق تمنى وجودها، لكنه كان مجرد طيف عابر.
الرمز يُشير إلى هذا الطيف أي مجرد سراب ووهم، ورجاء عبثي. إنه طيف الحب، وحسرة الفقدان، والألم المباغت: “آه… ما الذي حدث لي؟ من مضى لا يعود، سامحيني، فما زلت أنتظرك، رغم الرحيل، وفي النفس وجع لا يموت…”(35). نلاحظ أيضًا في تلك الأقاصيص الإبداعية المختزلة، والمكثفة بشكل ملحوظ من دون بعض القصص الأخرى أنها تتبنى دائمًا سردًا بتصورات أقرب إلى النثرية: “ويكون الرمز من بين العناصر الأكثر حيوية في الاستثمار بما يوفره من وحدة فكرية أو ذهنية؛ إذ يهدف إليه لاستحضاره في النص. وهي مزية الرمز الأكثر بروزًا عن سائر العناصر الأخرى في الخطاب الأدبي، وإن اشتركت معه في هذه المزية عناصر أخرى، غير أنها أكثر وضوحًا في عنصر الزمن”(36)، حيث “تتشكل الرموز في النص الأدبي بالاعتماد على الإشارات الواردة فيه”(37)، ويتم ذلك من خلال: “وحدات دلالية متعددة التأويل”. بالإحالة إلى العنونة القصصية المجزئة، والتي تنتمي انتماء كلي وكامل للمصدر الأم، والعنوان الأكبر الملهم لكل تلك الانزياحات الاغترابية العتيدة والشاقة على جميع النفوس البشرية، أي شواطئ الغربة. والغربة ليس فقط بمعناها المتعارف والشائع لدينا؛ إنها أيضًا غربة كسيحة معرقلة لكل شيء بوجود الثبات المفلس، والتخلف عن أي ركب للتطور، والإدراك، والمعرفة الحقة أو الإبداع، والابتكار الذي يحوي القيمة الفعالة، والأهمية التاريخية والحضارية، “إذ أن الرمز يُعد أداة كشف المعنى في النص الأدبي، ولا يمكن فصله أو زيادة فيه، وإن غلفه- أحيانًا- الغموض، فمرد ذلك تعدد الاحتمالات المرجحة للمعنى التي تجنح إليها الإشارات المشتركة في بنائه، وتميل إليها القراءات المرتبطة به تبعا لقدرات الإشارات في تكوين المعنى للوصول إلى الكشف وقدرات المتلقي في تشكيلها بثقافته ووعيه بها”(38).
في قصة “مشوار العمر”(39) يستخدم السارد الضمني ضمير الغائب (قال لها) ليخاطب بها نفسه التي يكرها، فأغمض عينيه وقفزت أمامه مشاهد حياته معها، بكل تفاصيلها، فابتسم وقال الحمد لله سامحيني، على كل حال، ولنكمل مشوار عمرنا إلى النهاية على الرغم من كل شيء، ليتمثل الرمز وينبع من داخل هذه النفس البشرية بدلالات التحسر، والتوهة، والقنوط. منها على ما اقترفه في حق نفسه من أوجاع، ومنها انتكاسات أثناء سيره في مشوار العمر، ويندم على ما فعله في حق نفسه، ويطلب المغفرة والعفو.
قصة “طوابير”، وكذلك قصة “فزع الكوابيس” تلك الأقاصيص التي تحكي وتسرد عن الحسرة، والندم، والكوابيس المفزعة التي يعيشها هذا الإنسان، وسط تطور مذهل في عوالم الاتصال، والتقدم العلمي، والتكنولوجي التقني العالي. لكنه لا يزال يتخلف عن مواكبة كل جديد ومتطور، ويحبس نفسه في عزلة التهميش والاغتراب؛ حتى أنه يعاني ويعاني من فزع الكوابيس التي تتسلل رغم البهجة والفرح(40) قائلًا على لسان حاله: “من هنا منظر الغروب يبدو أجمل، قرص الشمس يتماهى مع الأفق، وحدتي تنسج لي بمغزلها العتيق تمائم الحب الخالد، أتلقفها، ثم أركض مسرعًا كغزلان الوادي الشاردة”(41). وما الحل أمام كل هذا الفزع الإنساني؟!
من الكوابيس والعذابات التي لا تنتهي، ننتقل على قصة “فرار”. الفرار من تلك الآلية والأقنعة التي نرتديها كل يوم من أجل أن نحيا حياة النصف. من بلادة وكذب وخداع. عندما حضر بطل القصة مكتبه من دون فطوره، ومن دون حتى أن يربط حذاءه جيدًا، وفجأة نظر إلى المرآة المعتمة القديمة التي هي تعبير حقيقيّ عن نفسه الداخلية المعتمة. فما من مرآة معتمة في الواقع. إنه ظلام نفسه الداخلي المعتم. فتوقف وفر مسرعًا من هذه العتمة التي تشمله، ومزق القناع؛ لأنه قناع الزيف والخداع والكذب الذي يرتديه كل يوم، وكل لحظة في انفصال عن الحقيقة والصدق، حتى قرر أن يُقدم استقالته: “وفر إلى زنبقته الحزينة، لتكمل معها مشوار الحياة القصيرة..”.(42). وتتوالى الأقاصيص من “هجرة”(43)، و”الطوابير”(44) اللتان تنتهيان بالموت سواء بطلقة رصاصة طائشة أثناء وقوفه في الطابور، أو في البحر أثناء محاولة الفرار، والهجرة من البطالة، والفقر والبؤس. وتلك الغربة المقيتة التي عانى منها سواء في الغربة المكانية الفعلية، وهو يكمل دراساته العليا أو في وطنه، فسعى إلى الهجرة والسفر بأي ثمن ولو كان على قارب متهالك في البحر أودي بموته(45).
في قصة “ذاكرة” نجد رمز التذكر واسترجاع ما فات في جميع مراحله العمرية. هي حياة كل إنسان سواء كانت هذه الذكريات سيئة أو العكس، وسط ناس كنا نحبهم وسط أماكن بينهم في منزل العائلة، في مكتب، في مطبخ، في حديقة، في سنوات العمر السابقة من الطفولة والصبا والشباب وصولًا للشيخوخة. وعندما نصل إلى تلك اللحظات القريبة من الاحتضار، والزوال، والتلاشي نتوق لتذكر تلك الذكريات في حضور المختبئ من اللاوعي العقلي له: “كانت ذاكرته تؤنسه في وحدته”(46)- “وعندما وصل إلى أعتاب السبعين نزل في محطة فقد تلك التفاصيل، فأصبح يعيش بلا دفء ولا ماض… اغتراب عن كل شيء…”(47).
وأخيرًا :”فأصبح يبكي كل يوم، وينتظر المحطة الأخيرة”(48).
أما قصة “دروس” فعنوانها يفصح عن استلهام لحكمة الحياة والموت بدروس مزقتها تجارب الألم والأوجاع والتجارب القاسية. فالألم بمعناه الواسع في تلك الأقصوصة هو الرمز والبطل. الألم من الماضي وخيارات الماضي الموحشة، وقسوة ممن أحببناهم، لكنها أيضًا ليست مشاعر مطلقة على الجميع، لأنه الزمن الذي يُوحي لنا بالصبر، وتعلم الدروس، ومحاولة البقاء، والحياة مهما كانت الأمور على سوئها وآلامها. فهكذا أخبرته دروس الألم التي هي لسان حال القصة قائلًا بكل حكمة وبصيرة: “ربت الألم على كتفي بحنان، ثم قال: هل فهمت الدرس؟ لم أستطع الإجابة، فودعني سريعًا، ثم عاد من حيث أتى”(49).
قصة “سؤال” أي سؤال بالضبط. أهو سؤال عن كيف يكون هذا الحزن هائل وضخم هكذا؟! أم كيف تمر الأحزان؟! وكيف تذهب عن أرواحنا؟! إنه سؤال متعدد التأويل باختياره الحزن بطل رمزي “سألتني أمي ذات مرة عن “الحزن”. ما كل هذا الحزن الذي تحمله يا ولدي؟، فأجبتها دون تفكير: صديق قديم زارني مدة ثم غادر… فرحت أمي تلك الليلة، ونامت سعيدة”(50).
قصة “لا شيء” في كل قوانين الحب، والعطاء والتضحية التامة والعظيمة، لتجسد الكمال مثل تعبير الأمومة، تلك الأم التي هي تخليد كامل، وتام، وعظيم في التعبير عن الدفء، والحنان، والكينونة، والميلاد، والوجود، والحقيقة المطلقة مهما بعدنا وشعرنا بغربة الأماكن، ورحلنا لأقاصي الدنيا، وعندما نعود إلى تلك العظيمة ستكون هي ملأ كل الوجود من المكان والزمان والتعاضد. وتناجيها القلوب كما يُناجيها بطل قصتنا بكل جوانحه: “أرجوك يا أمي! انتظري قليلًا، أنا قادم إليك، سأترك كل شيء هنا، وأعود لدفئك، فلا تغلقي الباب في وجهي…”(51(.
قصة “هروب”، الهروب من التقليدية والنمطية والمألوف والمعتاد حيث يهرب بطل القصة من زوجته وطفله. إنه هروب ليس من الأشخاص في حد ذاته. إنه هروب مغاير. هروب من العادي، والمتاح، والملل، والرتابة، والتشظي، وعدم الانتماء، لمتاهات لا قيمة ولا جدوى منها(52(.
يتضح لنا كما أشار المرجع السابق أن وظائف الرمز تطبيقًا على شواطئ الغربة هي: “أن الوظائف التي يمكن أن ينهض الرمز بأدائها في النص الأدبي تتطابق مع الوظائف التي يهدف النص إلى تحقيقها”(53). إضافة إلى كون النص يكون بناؤه بالاعتماد عليه”(54)- “غير أن ما يتماز به الرمز من صفات نتيجة قدرة التأثير في النص الأدبي، وتجعل من وظائفه تتجلى بوضوح فتكون تبعًا لذلك تأخذ اتجاهين رئيسين، يمكن إجمالهما؛ بالوظيفة الأدائية (الكشف)، و(الوظيفة الجمالية)(55).
أ- الوظيفة الأدائية أي الكشف: تتمثل في إمكانية الرمز من تحمل الرؤى والأفكار، وتجسيدها في النص الأدبي، وخلق الإيحاء القادر على توفير إمكانية التأويل بما يخدم تلك الأفكار. بمعنى أن (الرمز) تشكل طبيعة الرمز الإيحائية ومجاورته لعناصر أدبية أقرب إلى طبيعته المشحونة بالدلالات، كالشخصية والصورة، وأدوات أسلوبية؛ كالكناية، والتشبيه، والاستعارة، والمجاز إلى جانب اختلافه عنها جميعا”(56(.
ب- الوظيفة الجمالية: تشكل الوظيفة الجمالية للرمز أحد عناصر إغرائه الكبيرة، فإضافة إلى إمكانيته في تأدية وظائف أدائية تكشف الرؤى والأفكار، فإنه يمتلك مميزات تدفع إلى استخدامه. وصفتا الكثافة والاختزال تمنحانه قدرة التأثير بوساطة الشد الانفعالي اللذين تحققهما هاتان الصفتان، ويجعل من النص الأدبي بؤرة تنظيم تتجه العلاقات إليها ويتفرع منها، ما يشذب النص من الترهل ويدفع به إلى التركيز، وهو ما يشد ذهن المتلقي ويجعله أكثر قربًا من النص ويؤدي إلى خلق التماسك الداخلي في النص، ما يجعل من الصدق الفني الإقناع متحقق الوقوع أو أكثر احتمالا من ضده..”(57(.
بذلك تحقق “شواطئ الغربة” تلك التقنية الرمزية بدلالاتها الإيحائية القادرة على استحضار هذا الخطاب التأويلي المتعدد الرؤى لينصب في مصدر أساس، وهو الرمز وفنياته الإبداعية في المجموعة كاملًا، “إذ إن الرمز باستحضاره من مرجعياته أو بنائه على وفق ثنائيات التضاد، يكون قد نقل الزخم الدلالي، والشحنة الانفعالية من ذلك المصدر وصياغتها بما يلائم أغراض استحضاره، فيكون بذلك قد استثمر تلك الخواص وصورها بالصبغة التي تخدم تلك الأغراض”(58(.
هوامش المصادر والمراجع:
- انظر المرجع: الرمز في الخطاب الأدبي/ دراسة نقدية/ حسن كريم عاتي/ الناشر: الروسم للصحافة والنشر والتوزيع/ الطبعة الأولى 1436ه= 2015م/ دار المؤلف للنشر والطباعة والتوزيع، ص8.
- المرجع السابق: ص7ـ8./ هامش داخلي 1- مقدمة في النظرية الأدبية/ تيري ايغلتن/ تر: إبراهيم جاسم العلي. دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد 1990/ ص69.
- المرجع السابق: ص8.
- المرجع السابق: ص9.
- شواطئ الغربة: ص8-9.
- شواطئ الغربة: ص8-9.
.7 شواطئ الغربة: ص9 . - شواطئ الغربة: ص11-12 .
- المرجع السابق: ص9.
- شواطئ الغربة: ص12.
- شواطئ الغربة: ص15.
- شواطئ الغربة: ص16.
- المرجع السابق: ص9.
- شواطئ الغربة: ص42.
- شواطئ الغربة: ص42.
- المرجع السابق: ص9.
- شواطئ الغربة: ص18.
- شواطئ الغربة: ص18.
- شواطئ الغربة: ص20.
- شواطئ الغربة: ص20.
- شواطئ الغربة: ص22.
- شواطئ الغربة: ص 26.
- المرجع السابق: ص10.
- شواطئ الغربة: ص34.
- المرجع السابق: ص10.
- المرجع السابق: ص11-12.
- المرجع السابق: ص 13.
- المرجع السابق: ص13.
- شواطئ الغربة: ص46.
- شواطئ الغربة: ص48.
- شواطئ الغربة: ص50.
- شواطئ الغربة: ص52.
- شواطئ الغربة: ص56.
- شواطئ الغربة: ص58.
- شواطئ الغربة: ص 58.
- المرجع السابق: ص14.
- المرجع السابق: ص 59.
- المرجع السابق: ص33.
- شواطئ الغربة: ص60.
- شواطئ الغربة: ص64.
- شواطئ الغربة: ص64.
- شواطئ الغربة: ص66.
- شواطئ الغربة: ص68.
- شواطئ الغربة: ص62.
- شواطئ الغربة: ص68.
- شواطئ الغربة: ص72.
- شواطئ الغربة: ص72.
- شواطئ الغربة: ص72.
- شواطئ الغربة: ص74.
- شواطئ الغربة: ص76.
- شواطئ الغربة: ص78.
- شواطئ الغربة: ص80.
- شواطئ الغربة: ص74.
- شواطئ الغربة: ص74.
- المرجع السابق: ص 75-76.
- المرجع السابق: الفصل الثاني: الرمز وما يتصل به، ص47.
- المرجع السابق: ص75-76.
- المرجع السابق: ص75.