نفق الضحك في مجموعة “الجنرال في محطة فكتوريا”
(بقليل من السخرية يمكننا أن نكابد هذا الخراب)
الكاتب والباحث علي مصطفى المصراتي أثرى مكتبتنا بعديد الكتب الهامة، بين توثيق وتأريخ وتحليل وإبداع، عبر إنتاج غزير يدل على مدى مثابرته وهمه بالثقافة الليبية وشؤونها، فالمصراتي الإنسان ليس نموذجاً فقط للتسامح والوطنية واللباقة، لكنه يتمتع بخفة ظل وسرعة بديهة وروح دعابة ترفعه إلى درجة الكتاب الجادين الذين تمتلئ سيرهم الذاتية بروح السخرية الذكية والنكتة الحاذقة، وفي جلساتنا كثيراً ما نسرد دعاباته الفطنة ونستمتع مراراً باجترارها، وما يجعلها مائدة للحوار كونها فضلاً عن شحنة الضحك بها لا تخلو من مغازٍ عميقة وإشارات لاذعة، سخرية المصراتي التي تكثف في حياته وتكاد ان تغيب في كتاباته _ عدا الإبداعية منها ـ توحي بكيان إنساني تواق للضحك بقدر المرارة في داخله، هذه المرارة التي تظهر جلياً في خطبه المرتجلة وهو الخطيب المفوه الذي لا تخذله العبارة، مرارة ممزوجة بالحماس والتفاؤل، معادلة المصراتي الصعبة التي بها يتنفس ويواصل العطاء، وهو من يقيم عادة مهرجاناً من المرح على هامش المهرجانات التي يحضرها، سخرية تختزل مواقف المصراتي ومحيطه الاجتماعي وسيكولوجية الشخصية الليبية التي كثيراً ما تتبدى مضحكة في أقصى درجات جديتها، حدثنا مرة المصراتي عن شاعر مدع أهداه أحد مؤلفاته، فقال له : اكتب لي إهداءً ووقع عليه، اعتذر الكويتب مبرراً ذلك بعدم حبه للتوقيعات على كتبه، فقال له المصراتي بسرعة بديهته، لابد أن توقع حتى لا اتهم بأنني اشتريته، وواصل حديثه عن شاعر آخر مزعج اصطدم به في زحام معرض القاهرة للكتاب، فقال له تركت لك البلد كلها فلم تزاحمني هنا، ثم أردف قائلاً لكنه أهداني آخر ديوان له، فبادره احد الحاضرين قائلاً : وهل وقع عليه، فرد فوراً : لا… بصم عليه..وعندما منعت رئاسة جلسة إحدى الأمسيات الشعرية شاعراً مضطرباً من إكمال مخطوطه كله في تلك الأمسية توجه الشاعر لائذاً بالمصراتي وهو يقول أنا اكتب شعراً موزوناً يا أستاذ على، فرد بهدوئه المعتاد في مثل هذه الموقف : المهم عندي ان تكون أنت موزوناً.
وكثيراً ما كانت بديهته الحاضرة مسلطة على أدعياء الكتابة، ممزوجة بحس نقدي مرح ولاذع في الوقت نفسه، منطلقة من إنسان محب للحياة وصريح إلى أبعد حد، سواء أكان متجهماً وغيوراً أو كان ساخراً، ورغم ذلك فإن المصراتي كان دائماً أكثر المرحبين بالأقلام الجادة والمثابرة ومشجعا لها دون حدود.
اتصلت به مرة لأدعوه لمحاضرة للدكتور نجيب الحصادي، فقال أنا مرتبط في الوقت نفسه بمحاضرة لأحد الأصدقاء الذين أجلهم كثيراً ولكن د. نجيب أولى، ومع نهاية المحاضرة صعد المصراتي إلى المنصة وألقى كلمة مؤثرة قال ضمنها : أنا سعيد اليوم لأنني تشرفت بحضور محاضرة بما تعنيه الكلمة من معنى، ويحضرني الآن حادثة في مصر عندما حضر طه حسين محاضرة لعبد الرحمن بدوي للمرة الأولى، وقال في نهايتها : الآن أقول أن فيلسوف مصر قد ولد، وأنا بدوري أقول أن فيلسوفاً ليبيا قد ولد، يحب المصراتي الجدية والتعب في كل ما يقدم، ولا يتورع أن يتهكم صراحة على كل استسهال وادعاء، ورغم هذه الروح المرحة إلا أن المصراتي وجد نفسه في قلب مسؤولية توثيق ضخمة لثقافة وتاريخ اجتماعي تتداوله الشفاه أو الوثائق غير المحققة، فانبرى لهذه المسؤولية الضخمة، متنقلاً عبر هذه الأرض الوعرة، ليشيد مكتبته الموسوعية، ولينقذ ما أتيح له من التاريخ، وليبعث شخصيات ثقافية واجتماعية وتاريخية فاعلة من رماد النسيان، كل هذه المسؤولية جعلته منكباً على عمل شاق بعيد عن روح الفكاهة في داخله، التي جعلت أدب الكثيرين على قمة مراتب الإبداع الإنساني، لكنه سرق أوقاتاً من هذه المسؤولية، ليلوذ بالسرد، والقصة خصوصاً، كذريعة للالتفات إلى ذاته التي كم زجرها في خضم تأصيله لذات المكان الجماعية، وبقدر ما كانت القصة متنفساً للروح الساخرة في داخله، بقدر ما كانت على علاقة وشيجة بمسؤوليته تجاه المكان ومشكلاته، ومن ثم مخزناً أدبياً لمئونته الأخلاقية تجاه قضايا مصيرية، حدد منها موقفه منذ البداية، كالهوية، والحرية، ومفهوم الوطن، وقيمة الإنسان السامية، التي ما انفك يسعى للجهر بها في كل محفل، إضافة إلى بث روحه المتسامحة في داخل هذه النصوص، التي تعكس إلى حد كبير استعارة المصراتي الكلية تجاه الواقع،لأن المصراتي الإنسان حاضر بكثافة في قصته..والتي لا تنبري لمغامرات تجريبية أو التهويم بشحنات شعرية، لكنها تخلص لتقليد ليبي شعبي في السرد، حيث الولع بالتفاصيل، ووضع الشخصية المحورية تحت مجهر، وبث أرائه الصارمة بين قوسين في جمل اعتراضية بما يشبه الحكمة أو المثل الشعبي، وحيث التشبيهات الساخرة ولكنة التهكم الموزعة على الحكاية، وحيث النهاية التي يرسم ملامحها عبر تطور القصة، وهي مكونات تقليدية للسرد الشعبي، تعكس ولع القاص بالتأصيل لكتابته عبر الأداة والخطاب.. ومن هنا سأحاول أن أتلمس نَفَسَه الساخر في مجموعته القصصية الجنرال في محطة فكتوريا، محاولاً تحديد كنه هذه السخرية التي تتشربها مرسلات أخلاقية كبيرة تشكل بامتياز شخصية الكاتب، الساخر في أقصى درجات جديته والجاد في ذروة سخريته.
تحوي المجموعة أحدى عشر قصة، تتسم جميعها بالبنية التقليدية للقص الأفقي، الذي يركز في مجملها على الانفراد بالشخصية الأساسية وعصرها في مونولوج الراوي لرسم ملامحها بدقة.
المكان وزمنه
ـ تجري أحداث قصتين “الجنرال في محطة فكتوريا” و “المظاهرة” في مدن أوروبية،
ـ قصص ” سلطان بي ـ أخلاق انتخابية ـ اقتراح حضرة النائب ـ حكاية جاسوسة ـ شاكوش شنة قلعة ـ العملة من وراء البحر ـ شيخ محلة ـ بديعة ومصفف الحرف ” تجري أحداثها في ليبيا.
ـ “عمك في باريس” القصة الوحيدة التي تجمع بين المكانين، حيث تنتقل من قرية في أطراف الصحراء الليبية قرب واحة من الواحات إلى باريس ثم قرية فرنسية نائية.
الزمان: الفترة الممتدة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى ما بعد مرحلة الاستقلال وهي مرحلة تشكل الكيان الليبي وتأسيس الدولة.
يلتقط المصراتي شخصياته من كوميديا الحياة الاجتماعية، وينحاز ضدها من البداية عبر وصفه الدقيق لها، منطلقاً من تكوينها الجسدي المضحك، وموغلاً من ثم في تكوينها الثقافي والأخلاقي، مما يجعلها صلصالا طيعاً يشكله السارد كما يريد، مفضياً في نهاية كل قصة إلى مرسله الأخلاقي، الذي يشير بسبابته الساخرة إلى نماذج تجسد أنساقاً أخلاقية مستشرية، ضمن أنماط تحاول ان تضع نفسها في الطليعة، محمولة على قيم يبتذلها القاص بحدة: الادعاء، الجهل، الانتهازية، عبادة الطوطم، الالتواء القهري إلى الماضي، وهي نماذج تتوزع بين العمل السياسي والاجتماعي، وغالباً ما نجد الفنان في مواجهة هذه النماذج ولكن بخجل، وأحيانا ضحية لها.
السخرية كاستعارة
ـ في قصة “الجنرال في محطة فكتوريا” يطرح القاص كاتباً ليبياً سائحاً يلتقي في لندن بفتاة بوهيمية ذات انشغال فني، متعاطفة مع الشرق، في مشرب بمحطة فكتوريا، وهناك يلتقي مصادفة بعجوز جنرال سابق من مخلفات الحرب العالمية، مضطرب نفسياً ومتجمد في لحظة زمنية أثناء فترة الحرب، ومتمسك برتبته العسكرية بشكل هستيري، فيدخل في حوار عدمي معه، ليكتشف في النهاية انه عم الفتاة التي دبرت اللقاء عمداً، والتي ستعده بأن ترسل له نسخة من كتابه ذكريات جنرال الذي يعكف على كتابته… يسرد المصراتي هذه الحادثة بأسلوبه الخطي السلس والمباشر، مجسداً فحوى هذه الشخصية المحورية بإرثها التاريخي المرتبط بزمن الحرب.. شخصية متأزمة تتماهى مع الرتبة القديمة، وتحنط زمنها التاريخي في تلك الفترة.. وتبرز هنا المعالجة الساخرة للقاص بمستوياتها المتداخلة والمركبة، عبر الرسم التفصيلي لأبعاد شخصية الجنرال، الذي مازال يتنفس بأمجاد الماضي وهو ثمل في مشرب مزدحم، فالجنرال شخصية ساخرة تتحرك داخل سياق سردي ساخر، يؤكده السارد مراراً بدس العبارات الطريفة داخل الأحداث المتوالية، التي تتضمن عبر مرسلات السخرية المواربة خطاباً أخلاقياً تجاه مسألة الحرب والاحتلال، وتجاه مسألة الآخر ضمن نقاش غير متصل يحكمه المكان والزمان.
الجنرال الذي أستأنس المكوث في الذاكرة يحاول ان يتلفظ بأمكنة غابرة من بلد السائح الليبي، بينما الفتاة الفنانة المحايدة لا تنفك تهز رأسها مع ابتسامة خفيفة بها شيء من السخرية، وهو الموقف الذي سيلائم القارئ طيلة قراءته للقصة.
في قصة “المظاهرة” : مواطن ليبي يخرج للفسحة في شوارع إحدى بلدان أوروبا الواقعة على شاطئ البحر المتوسط، فيجد نفسه وسط مظاهرة ضد القواعد الصاروخية للأحلاف الأجنبية، فيندمج في هذا الطقس المثير، مسترجعاً من ذاكرته صورا غابرة لمظاهرات شارك فيها في بلده على الضفة الأخرى للمتوسط.
في هذه القصة يمكن القبض على طاقة السخرية عندما تكون استعارة كلية، فهذا التقصي المتوالد الذي يصف بحماس جمال العصيان، يضمر في داخله وعبر الولع بسرد التفاصيل سخرية مكبوتة من مجتمعات جاءت منها الشخصية المحورية لا تجيد توظيف الزحام، مقارناً في عديد الأمكنة بين ما يحدث هنا وما يحدث في بلده.
ومن قلب الاندماج داخل هذه الجموع المتراصة كجسد واحد، وبعين قانصة يستمر الراوي المتماهي مع الشخصية في إطلاق تعليقاته الساخرة وسط هذا الحشد الجاد (لأن سفارة بلاده بها سفير وجهه كالقنفود).. (لا يريد لطعة على جوازه وإن كان حضرة السفير يستحق لطعة على قفاه).. (لماذا هذا الصنف من البشر وأصحاب المهنة ـ يقصد الشرطة ـ غالباً أو دائماً أقفيتهم غليظة ملظلظة سمينة ومترهلة).. (سقط الحذاء الملعون قبل أن تسقط الحكومة المطالبون بإسقاطها) مثل هذه التعليقات التي تحمل روح المصراتي الساخرة نجدها مبثوثة داخل قصصه كلها، وعبرها ينحاز إلى الجمال في مواجهة كل قبح من شأنه أن يهدد الحرية أو القيم الإنسانية التي يرافع عنها عبر كل مشروعه المدون.
في قصة “عمك في باريس”.. يسافر مصباح بعد أن دبر ثمن التذكرة بصعوبة من واحته إلى باريس، للبحث عن عمه شريف، الذي رحل مع ديغول بعد أن نال إعجابه أثناء خدمته له في معسكره بفزان، وانقطعت رسائله التي أوحت لعائلته أنه يعيش في بحبوحة ثرياً في فرنسا، ويتعرف مصباح على مزيان الماروكي الذي يتعاطف معه ويقوده في رحلة بحث طويلة عن عمه، ليجده في قرية فرنسية نائية شيخاً معدماً يقوم على حظيرة خنازير.
يلجأ المصراتي هنا إلى لعبة المقارنة الحضارية بين الجنوب المتخلف والشمال المتحضر كأسلوب مفتوح للسخرية والإضحاك طالما تناولته المسارح والأعمال السينمائية والدرامية العربية، ويسرد هذه الأحداث بطريقته المعتادة والسهلة، وبشغله المضني على التفاصيل التاريخية والوصفية التي تهيئ المتلقي من البداية للنهاية المتوقعة، لا تحمل هذه القصة صراعاً له أبعاده الدرامية، ولا تتوخى أي نوع من الإنفاق الأخلاقي إلا عبر صوت هامس يدين مبدأ الاغتراب وترك الأرض والجذور، لكنه من خلال لعبة المقارنة الفكهة التي تقود العمل يسرب القاص مستوىً آخر من معالجة الهوة الحضارية، التي تجعل ما تفرزه الحضارة الغربية من مشاهد تشكل ترفاً، هي في مجتمعات التخلف ضرورة، ويتبدى هذا التساوق في شفقة مصباح على الفتاة التي تمشي حافية بينما هي تتبع نوعاً من الموضة، وفي تساؤله بشأن الذين يأكلون في مطعم على الشموع : (آش هذا.. ما عندهم ضو !) وغير ذلك من المشاهدات، ومن تدخلات الراوي، التي تتلمس تلك المسافة في اللاوعي، وتطرح مسألة الهوية والآخر في الوعي، وهو خطاب مزدوج يقف وراء ارتباك الشخصية وقبولها الواسع للسخرية.
في قصة أخلاق انتخابية.. لوحة كاريكاتير ضخمة، تُرسم بعناية ودقة لإبراز تكوين الشخصية المتسلقة، من خلال الجسد والسلالة وطرق التفكير والكلام.. حيث تتغير في يوم قائظ أخلاق عبد الملك الأصرم كلياً، بما يتناسب مع موسم الانتخابات وارتداء الأقنعة، ويضعه في سياق هزئي منذ البداية، عبر تتبع جولاته المكوكية في منطقته الانتخابية، وتتناسب حرارة المكان التي تزيد باطراد مع حرارة المرشح الذي يعاني من قصر القامة والترهل والمنبت المجهول، وتروج الأساطير حول ازدياد القيظ في المنطقة إلى درجة تَوقُع انفجارٍ قريب للشمس، فيخاف المرشح أن يحدث هذا قبل نجاحه في الانتخابات، وعبر هذا التداعي لا تنفك القصة تتهكم على الانتخابات كمبدأ حضاري يتمسخر في مجتمع متخلف، ويتحول إلى مهزلة بدائية، خصوصاً وأن الشخصية المضادة والتي لا يعنيها هذا الأمر في شيء، يتركها المرشح في نهاية القصة في أرض جرداء قاحلة، لتكتفي بالبصاق على سيارة الأصرم المنطلقة..
طقوس التعرية
إطلاق المصراتي للصفات النابية على شخصياته السلبية التي يتخذ منها موقفاً مسبقاً، بقدر ما يضعف من تقنيات القص، الذي من المفترض أن يبرز حيادية المؤلف، بقدر ما يعكس نهجه الأخلاقي الأصيل في تحديد مواقفه الأولية والثابتة، وهو منحى يتلاءم مع شخصية المؤلف في الحياة، وصراحته الجارحة، وحس التهكم العالي الذي به ينزاح إلى استعاراته المكثفة.. حيث الضحك هنا استعارة المرارة حين تشتد، والنكتة مجاز مرسل لموقف جاد تنقطع علاقاته السببية لتفضي مباشرة إلى نوع من الهجاء المر للذات “شر البلية ما يضحك”.
إن دائرة الصمت التي يضع فيها المصراتي نهاية قصته “أخلاق انتخابية” سيخرج منها في قصة “اقتراح حضرة النائب ” باقتباس شخصية النائب الفطحل الذي وصل إلى البرلمان والذي يخرج من دائرة الصمت في هذه المرة(ويرفع إصبعه الذي بجوار الإصبع الذي يبصم به والإصبع الآخر الذي يستعمله في زمارة المقرونة في غناء الأعراس والموالد ) ولعبة الأصابع التي يتوقف عندها تحضر بكل دلالاتها من إدارة اللعبة في مسرح للعرائس، إلى ان الإصبع التي تبصم يمكنها أن ترتفع في قرار سياسي يحدد مصير مجتمع بأكمله، تشكل هذه القصة استطراداً لقصة أخلاق انتخابية، عبر وضع الشخصية هذه المرة تحت مجهر المصراتي في بؤرة من السخرية المكثفة، ومحاصرتها داخل عدسة مكبرة لتسليط غدة ضحك القارئ عليها والتشفي منها، ومن ثم الوصول بهذه الشخصية إلى مآلها الحتمي، نكتة المصراتي التي يصلها عبر إصبع الشخصية في نهاية القصة، حيث مداخلة النائب على حديث لعالم نفسي يتحدث عن جريمة الانتحار المتفشية وتأثيرها على المجتمع، وإذ يطالب النائب بإنزال حكم الإعدام بالمنتحر، يسرب القاص حكمه المتماهي على الشخصية التي(جلست وساد القاعة صمت رهيب ولو كان أبو حنيفة موجوداً لمد رجليه).
في قصة “حكاية جاسوسة” يبدأ وصف الشخصية لخلق انطباع القارئ مسبقاً عنها : (له وجه خنزيري وبطن كبرميل اللفت وعيناه تبصان كحرباء متربصة) وهو موظف في إحدى المؤسسات الدولية رغم وصوله لأرذل العمر كان لا يكف عن مطاردة النساء، والأجنبيات خاصة، ينتهز فرصة ذهاب “دانت” المهذب الذي يكره الاستعمار ويتعاطف مع مطالب الحرية وحقوق الإنسان ليقتحم شقة زوجته مارجريتا لاوس السيدة المثقفة الفنانة وهو ثمل، وللتخلص منه تستدرجه ليخلع ملابسه وتخرجه آخر الليل عارياً في الشارع، ليتهمها فيما بعد بالجوسسة لصالح الاستعمار.
إن التعرية الرمزية التي اشتغل القاص عليها في نماذجه السابقة، يجسدها هنا بشكل مباشر، لمركب إنساني شائع تراكمت على جلده طبقات من الجهل والادعاء والانحطاط الغريزي، والذي لا يني حتى وهو في قمة عريه وهوانه يماحك في بطولاته (وقف العريان المرتعد أمام زوجنه زاعماً لها أن لصوصاً اقتحموه وكتفوه وضربهم وشج رأسهم) وهكذا تدخل الشخصية بإرثها مختبر القاص لفض طبقاتها بمحاليل سخريته وتحديد مكونات هذا المركب التاريخي وتعريته.الذي ستنتهي به القصة وهو يبحلق في كومة ملابسه وهو مازال يؤكد لزوجته أن اللصوص الملاعين أرسلوا له ملابسه نكاية به.
في قصة “شاكوش شنة قلعة” يطرح المصراتي شخصية مختلفة لا يخفي تعاطفه معها : رفعت أفندي الشيخ المحتفظ بشاكوشه الذي كسر به باب شنة قلعة وكيف استطاع بهذا الشاكوش أن يهزم جنود الحلفاء عندما أرادوا تطويق اسطنبول، يصبح هذا الشاكوش (ركيزة حديثه ومحور أسماره ومنطلق ذكرياته) يحدث الجميع عنه وهو يلوح به في وجوههم، ويخوض المعارك للاحتفاظ به وعدم استخدامه في أي غرض آخر، وعندما يسافر إلى الحج يضيع الشاكوش، فتضطر العائلة لتصنيع شاكوش مثله عند الحداد، ويعود ليلوح من جديد به، وهو يتحدث عن قيمته التاريخية، حتى يترك وصيته بعد موته احتفظوا بشاكوش شنة قلعة لا تفرطوا فيه ) رغم تعاطف المصراتي مع الشخصية إلا أنه لا يعتقها من وضعها في سياقه الساخر، مؤولاً وسواسها القهري تجاه لحظة مجد غابر بانتسابها إلى طوطم ماضوي يغمض عينيه عن كل راهن، بل وعن حتى مجرد تمييز شاكوشه الأصلي من المزيف، لأن الشاكوش ليس موجوداً في يده بل في رأسه، مسبباً هذا العمى المنهجي تجاه كل شيء سواه، لا يكن المصراتي بغضاً لهذه الشخصية بخلاف الشخصيات الأخرى، إلا أن انتقاده لجمودها لا يعبر عنه سوى بوضعها في متحف تهكمه المليء بالنماذج الدعية والملوية العنق إلى الوراء.
وهكذا تتداعى معظم الشخوص من ذاكرة القاص في مجموعته، مداوراً بها حول ثيماته المطروحة، محللاً أزماتها ومصفياً حسابه معها، عبر تثبيته لأرسولاته الأخلاقية، ومعالجته لسيكولوجية التخلف والجمود، ومسرباً حسه النقدي تجاه الاحتكاك بالآخر الغربي، كما في قصة “العملة من وراء البحر” التي يعرض فيها صاحب بازار لبيع المنحوتات والمشغولات الشعبية والذي ينتظر باخرة سواح، وعندما تصل ويمتلئ درجه بالعملة الصعبة، يخبره جاره تاجر العملة أن العملة كلها مزيفة، فيبصق خلف الباخرة التي تصفر وترسل عبر الأفق دخانها.
كما سيعود لنبش مفهوم السلطة والتشبث بها عبر قصته “شيخ محلة”، مستبطناً شخصية عبدالله المزراب، شيخ محلة لضاحية من أطراف المدينة، يهيمن على كل شؤونها الصغيرة والكبيرة منذ نصف قرن، حيث هو الوحيد الذي يفك الخط، متمسك بموقعه وسلطته المطلقة، وتقوم قيامته عندما يعرف أنهم يخططون لبناء مدرسة في محلته، ورغم بلوغه التسعين عاماً إلا أنه سيخاف من الأولاد الذين سيتخرجون منها (يكبروا ويقروا وتطير مشيخة عمك المزراب) ويحس برائحة المؤامرة من شيخ محلة مجاورة فيعمل على نقلها إلى محلته منتقماً منه، وليعود في النهاية إلى زوجته لتغسل رجليه بالماء الساخن.. تصل السخرية ذروتها في حالة انمحاء الإحساس بالزمن لدى الشخصية المتعلقة بالسلطة، كما أن الملاحظة التي سيخرج منها من مشاهدته لحفلة سيرك بمحلته هي أن الإنسان حيوان مدرب، حكمة الدكتاتورية التاريخية. كما تذهب القصة في طرحها الرمزي من خلال ربط السلطة بالمعرفة، فهيمنة الشيخ التاريخية وسلطته مهددة بالطريق العام وسيلة التواصل والانفتاح على الآخر، والمدرسة وسيلة المعرفة.
يختم المصراتي مجموعته القصصية (الجنرال في محطة فكتوريا) بقصة “بديعة ومصفف الحروف” وهي حبكة مختلفة عن القصص السابقة، فهذه القصة تبتعد عن فضاء السخرية والضحك الذي اشتغل عليه في باقي نماذجه، وكأنه يقدم هنا الشخصية البديلة التي ينتمي إليها، مصفف الحروف العاشق لعمله والمنكب عليه بإتقان، وفوق ذلك صاحب الأصابع الملطخة بالحبر التي تمر عليها الكتب والجرائد ودعوات الأعراس والحفلات، الأصابع المختلفة عن أصابع النائب، التي عبرها تصل المعرفة والخبر والإبداع إلى عيون الجميع، وعبر قبوه المظلم يضئ المدينة والمحيط بأكمله بالكلمات والسطور، التي يصففها حرفا حرفاً، وتمر على المصفف وهو مندمج في عمله تعزية فينهار ويسقط، حين يقرأ اسم حبيبته السابقة بديعة في صفحة الوفيات، ويدخل في حزن عميق وتداع لذكرياته معها عبر قراءة رسائلها المقتضبة، بما يشبه قصيدة ريتسوس جمال الطبقة الكادحة يكشف المصراتي أعماق المصفف الكادح بكل ما فيها من أحاسيس ورومانسية مكثفة، حتى يطرق باب حبيبته للتعزية فتفتح هي الباب وتقابله بنبرتها التهكمية القديمة، ورغم أن القاص لا يفسر الالتباس الذي حدث، ولا يطلعنا على مصير التعزية التي صففها له رفاقه في المطبعة، إلا أنه لا يخفي انحيازه لهذا النموذج الذي يضعه كأيقونة أخلاقية في مواجهة الشخصيات المحورية لباقي القصص، ورغم أني لا اعرف إذا كان ترتيب القصص؛ خاضعا لعامل زمني، أو رؤيا خاصة بالمؤلف، أو اعتباطيا، إلا إن هذا التكليل الختامي كان سليلا لجينة الاستقصاء السردي، الذي وسم معظم القصص، وهو ناتج لقراءة واحدة لهذا الدفق الذي أحاول هنا فض ممكناته البوحية، عبر استنطاق لرموزه، يشبه إلى حد حادثة النواة التي بعثتها بديعة في إحدى رسائلها إلى المصفف، والذي بدوره سأل عن مغزى النواة أصدقاءه من الشعراء واللغويين والدينيين، وذهبوا في تفسيرات معقدة وبعيدة لرمز النواة، ليكتشف أن ما تقصده لقاءً قرب النخلة التي في طرف البلاد، لكنه لم يعرف ذلك إلا بعد أن فات الميعاد. ويغريني أن اقرأ هذه الحادثة كسخرية نقدية تجاه النقد المكابر الذي يدخل النص في دائرة من التآويل المنهكة، لنكتشف في النهاية أن كل هذا الاستنطاق يبعدنا عن مغزى قريب، ولكنه بجمال موعد مع الحبيبة قرب النخلة.
الكـيتـش الليبي
تتميز قصص المجموعة بالطول، وبالسرد الأفقي، ورسم الشخصية المحورية بدقة، والميل بها نحو الكاريكاتير الاجتماعي أو السياسي، وباستخدام اللهجة في الحوار.. كل الشخصيات المحورية تتشابه تحت ضغط السارد التصويري لها، مشدداً من روح الدعابة والنكتة اللاذعة.. يحاصرها بالأحكام المسبقة والوصف المطنب لتحديد ملامحها التي ترتسم داخل القارئ كركيزة للضحك، ومن ثم القصاص منها، والانتصار الأخلاقي لطرف الصراع الآخر، وللتمائم الانتقادية المدسوسة في جمل اعتراضية، تعمق الهوة الأخلاقية بين القارئ والنموذج.. وهنا يمكنني ان أصل إلى تلمس ما لمفهوم الكيتش الليبي، والكيتش هنا ليس بمعناه الأدبي الذي يرد في معجم النظرية الأدبية، ولكن بالمعنى الذي يقترحه بروخ : [ كتعبير عن حاجة الإنسان إلى ان يتفرج على نفسه في مرآة الكذب المجامل، ويتعرف فيها على نفسه راضياً رضاً عاطفياً يحيل بلاهة الأفكار إلى لغة العاطفة]1 أو كما يعمل عليه كونديرا في بعض أعماله الروائية، حين ينقله إلى الحقل الاجتماعي، باعتباره [نظرة محدقة محايدة ومرحة إلى كل ميثولوجياتنا الحديثة، إلى كل ما نميل إليه، ونتأقلم معه، ونقيم فيه]2. وهي شبيهة بالنظرة التهكمية التي يحدق بها المصراتي في شخصياته المنسوجة من الكذب والادعاء والتكيف الانتهازي مع كل الأوضاع، وهو المنحى الذي سبق وان ذكرته، والذي سيقودني إلى مبحث أخر يتعلق بإمكانية النظر إلى هذه القصص المتفرقة كعمل روائي، وسأجازف وأقول ـ دون يقين ـ أنها مجموعة قصص قصيرة تقليدية يمكن عبر تواشجها الموضوعي أن تتحول إلى رواية تجريبية، مثلما يجاور فنان تشكيلي مشغولات شعبية لتشكل في مجملها لوحة تجريبية.
تشكل المجموعة رواية في فصول تستدرب البناء السردي نفسه، ورغم انفصال الأحداث وتعدد النهايات إلا أن ما يربطها هو الثيمات المتداولة فيها، حيث بمجرد أن تخرج شخصية من دائرة الأحداث، تدخل شخصية أخرى كي تضيء ثيمتها من زاوية أخرى، ورغم تعدد النهايات، إلا أنها تفضي إلى مستودع واحد من السخرية، التي تحيل إلى منهج المصراتي في قراءته للوقائع، ومن ثم الذهاب بها إلى طقس تطهري، تنطفئ فيه الشخصيات السلبية تباعاً. فشخصية الجنرال المقيم في الذاكرة عبر عبادته لرتبته العسكرية، تضاء أزمتها من جديد في شخصية رفعت أفندي المتعلق بشاكوشه، وهذا التماهي المرضي مع لحظة المجد الغابر والمكوث فيها يشكل مشتلاً شاسعاً لعقول تحجرت وهي ملتفتة إلى الخلف، بينما العالم يمر من أمامها وهو ينظر إليها كفلكلور.. ومن الممكن تقصي هذا النزوع من زاوية أخرى عبر الشاب الباحث عن عمه “ذخيرة الماضي” في متاهة الحضارة الغربية، والتي لم تعطه في النهاية سوى حظيرة خنزير، في مكان لا يعني له الطاعة أو العلاقة بديغول شيئاً ما دامت هذه الذات تعاني من احتقان الذاكرة.
شخصية الفلاح الذي بصق على سيارة المرشح وهي تغيب في ضباب الطريق، ستنهض من جديد في شخصية صاحب البازار في قصة “العملة من وراء” البحر لتبصق على الباخرة وهي تمخر عباب البحر بالسواح الذين ملئوا خزانته بالعملة المزيفة، وهما شخصيتان ضحيتان للتزييف، الأولى تمثل زيف الداخل والثانية زيف الخارج.
هذه العلاقة المتأزمة بين الجنوب والشمال بين الذات والآخر، والتي تعكس صدام أزمنة متفاوتة، لا يفتأ المصراتي يحفر في منجمها، وفي غياب أية إمكانية للتوازن، ستغدو محفوفة بالعري في قصة “حكاية جاسوسة” أو الزيف في “العملة من وراء البحر”، أو التهميش في “عمك في باريس”، لأن المجتمع الذي لا تتواصل معه إلا بعقل استهلاكي، وبمعزل عن إنتاج المعرفة، لا يمكنه ان يتيح لك سوى عري في العراء أو خزنة مليئة بالعملة المزيفة أو حظيرة خنازير.
وبنزع فتيل الأيديولوجيا عن كل هذه الأطروحات سنصل إلى أن السياق الثيمي الموحد لهذه القصص يتمثل في الولع بتقشير الشخوص التي تتملق القيم الإنسانية كي تصل إلى غاياتها اللاإنسانية، وانتسابها المرضي إلى طواطم الماضي المنتقاة من الذاكرة، والأهم من ذلك تشريح مفهوم الجهل حين لا يعني عدم المعرفة ولكن ادعاء معرفة كل شيء. وتظل هذه المحاكمة الدرامية عبر الاستجواب السردي لأزمات الشخوص التاريخية أداة المصراتي، لتعرية كل ما من شأنه تلويث الحلم الإنساني واللعب بطاقات الجموع، من أجل الاستحواذ المنهجي على وجداناتهم.
وضمن هذا الطقس التعروي يجابه الكاتب بنى التخلف بضراوة ساخرة.. التخلف الاجتماعي الذي يهيئ بيئة خصبة لنمو شخصياته المتأزمة، ورغم ارتباط شخصيات المصراتي بزمن محدد وأمكنة بعينها، إلا أنها نماذج متجذرة النوازع،مفعمة بالحركة وبطاقات التوالد، وممهورة بالكيتش المتواجد في كل مكان بوصفه ظاهرة مرتبطة بالوجود عبر الموافقة الحاسمة على كل ما ترسخ، وهو إذ يصب جام سخريته عليها إنما ليحاول زحزحة اليقين الاجتماعي الذي يتورم في مجتمعات التخلف، حيث الأقنعة صلبة ومحكمة، وحيث الاستجابة للزيف نوع من التصالح مع الذات الموكلة للأوهام، والمطيعة لكل ضروب التخييل والترويج الدعائي والحصار الشعاراتي، التي في مجملها تجعل الأكاذيب حقيقة من كثرة تداولها.
يمكنني الآن أن أقول بثقة أكثر إنها رواية المصراتي، التي يلاحق فيها أوهام مجتمعات العزلة، وأنساق تفكيرها، عبر هزوء لا يكف عن تفكيك هذه الكتل البشرية المحكمة الترسيم، التي أنتجها محيط عبَّاد للبدايات، أسير للقوالب.. مجتمع عجول، ولوع بالتعميمات، والحكم على الأمور قبل فهمها.
ـــــــــــــــــ
هوامش:
* 1،2 س.شير لايموفا ـ س.زينكين.. بلا غد : كونديرا بين بلزاك ودينون ـ ترجمة أشرف الصباغ ـ المجلس الأعلى للثقافة
* العبارات الواردة بين قوسين ( ) مقتبسة حرفياً من كتاب “الجنرال في محطة فكتوريا” علي مصطفى المصراتي. الدار العربية للكتاب.