طيوب البراح

قُبيل المنفى

ميسون مفتاح

من أعمال التشكيلي عبدالقادر بدر


بق…
بق !
بق بق بق…
هل أغرق؟
أهذا هو الغرق؟
لم أظن بأنه مفزعٌ لهذه الدرجة

 أحاول التشبث ولكن أين يداي؟ كنت أنعي ما تبقّى من وطني على متن باخرة تعبر المتوسط وإذْ بطائرات مقبلة نحونا.

يقول القبطان الإيطالي بفزعٍ: إنهم الإنجليز.

في تلك اللحظات الأخيرة لا أعرف ما الذي انتابني، نشوة الانتصار بقصف الإيطاليين؛ الذين منذ اعتقالنا عند مغارات الجبل الأخضر بعد استشهاد شيخ الشهداء قد لاح بعيداً، أم انتهاء مصيرنا المجهول؛ الذي ساقتنا إليه القوات الإيطالية للمحاربة في صفها الهزيل مع قوات التحالف في حرب عالمية ثانية لاتسع طموحنا في وطن..

كل ما أحتاجه الآن هو أن أُجدّف في عرسٍ من الأشلاء، ولكن تتراءى لي مشاهد بعيدة تزاحم الظلام في عيناي… لحظات من فرح حين التحقت بفرسان المقاومة مع سيدي المختار، أم بهجتنا في تشتيت الطلائع الإيطالية مع بزوغ الفجر…

الفجر!

هل سأراه وينتزع هذا الظلام؟

لم يكن حالكاً بمثل تلك الليلة التي طغى عليها الأسى بجمع المئات من الشباب في مركبات الاستعمار  التي استقرت بنا في ميناء طرابلس ومنها لهذه الباخرة…

في تلك المركبة مرّت علينا جميعاً مشاعر قاسية رغم اختلاف رواياتنا، كانت تضم شباباً من مختلف المناطق إخوة وأبناء عمومة أصدقاء ورفاق كان لي منهم حظّاً يعانق المأساة بكلماته يجاهر بآخر ما قرأهُ من قصائد أحمد رفيق المهدوي الذي كان مولعاً به، وجدت في (منصور) متسعاً آوي إليه تدفئني شمس كلماته…

كانت طويلة تساندها الذكريات مرّت أول ليلة على متن الباخرة، بعدما أذهلتني الإمدادات العسكرية القادمة للميناء والتي كانت مختلفة تماماً عما عرفته في الجبل… كان دوي ارتجافنا يُرى قبل أن يُسمع، كنت أستند على (منصور) حين يحاول هزم ارتجافه بكلماته قائلاً:

ماذا لو انطفأت قناديل الشغف وشموع الأمان ولا جدوى من الكلام، هل عتمة القلب تنيرها الأيادي المرتجفة؟

كانت كل اللحظات المفزعة تنسدل بسرعة، أعتقد بأنها تسابق الظلام من جديد في عيناي، أخذتني لليالي المقاومة، حيث داهمني حينها حنين بائس بتُّ أطارده ويطاردني لأن الذكريات مع من رحلوا صادقة جداً…

كانت ليلة استشهاد رفيقي (علي) في الجبل الذي أراد أن يرى أبناءه وزوجته في المعتقل ولكنه لقي حتفه بعد أن خرج من الأسلاك الشائكة برصاصة جبانة من حراس المعتقل..

في تلك الليلة لم يمت (علي) فحسب ولكن ماتت معه أخبار (زينب)؛ خطيبتي في ذلك المعتقل والتي كان يحمل آخر رسائلها..

:عزيزي المبري.

ماذا لوكان الشوق فرساً وكنت أنت خيّاله؟

أكتب لك وأعلم أنك لاترد على كلماتي إلا بالقليل، ولكن متى سيبكي شعرك وستُحتضر كل قوافيك؟ لأنك مدين لي أيضاً بكل الكلمات التي تحرق جوفك لا تجعلها تموت لدواعي الشعور…

سأنتظرك وأنتظر صبحنا القريب، ولكنني إلى أن يتحقق، سأكتبك بطلي رغم أنف السلطات وبشاعة الحروب.

أخيراً

اعلم أنني أحبك بكل وجع الثكالى ودموع الأيتام.

يا ترى كيف سيصل خبر اعتقالي إلى زينب؟

زينب التي تخفي دموعها عنّي في كل مرة لتوهمني بقوتها وجميل صبرها، ماذا سيحل بأحلامنا التي بنيناها عند البئر؟

تتراءى تلك اللحظات لتزيح هذا الظلام ولكني أشعر بأن روحي تودُّ الصياح، تعاند الأمواج في صدري لتزيح عتمة الليالي الثقال…

المشهد الأخير يشبه الصّاخة.. هلع الأصدقاء وتهاوي الأمواج.. السماء الملبّدة بالغيوم..  صراخ القبطان وذعره من الإنجليز.. تشبث (منصور) بيداي وكأنني حيلته؛ الوحيدة.. وأخيرا صوت الصواريخ نحونا..

علمت الآن أين يداي التي لم أستطع أن أجدف بهما؛ إنهما يضمان رفيقي ومثواي الأخير.. أنا مطمئن الآن ولم تعد تغريني فكرة التشبُّث، حان الآن موعد الإفلات الذي ينهي الألم ويطرد المأساة، سأصيح الآن وأطفو لأرى النور… !

مقالات ذات علاقة

رسالات مُخلدة

المشرف العام

سنظل نكتب عن الحب

المشرف العام

الولد الذي لم يسمع كلام أمه

المشرف العام

اترك تعليق