دراسات

مقدمة كتاب: خراريف ليبية

كتاب خراريف ليبية

1

لدي هوس بالتوثيق. وَلملَمة َأشلاء هويتنا وذاتنا الْمتشظِّية.. هويتنا التي جرى ‎تهميشها بل وتغييبها على حساب القومية العربية أولاً.. ُثم على حساب كيانات ‎وفضاءات أخرى.. يقول المسيح عليه السلام: (ِبماذا ينتفع الإنسانُ.. إذا ربح ‎العاَلم كُلَّه وخسِر نفْسه؟).. لست ضد التكتلات والكيانات التي تقتضيها مصلحة أي ‎شعب.. بل قد يكون ذلك ضرورة.. بشرط الحفاظ على الذات والهوية.. ولا أرى تناقضا في ذلك.. فيمكننا الانضواء تحت أي كيان أو فضاء (عربي.. أفريقي.. متوسطي) ونحن ليبيون لنا هويتنا.

2

إنني أخاف الزحام إلى درجة الرعب.. وهذا ما يجعلني أتعامل مع المدينة بحذر.. ليس لأنني بدوي.. بل لأن الزحام يزعزع ذاتي.. يجعلني أقع تحت تأثير العقل الجمعي.. (مسلوبا من مزاياي الفردية) كما قال روجيه جارودي.. فأسعى للابتعاد لاسترداد هذه الذات.. وهذا ما جعلني أتحسس من أي انتماء.. بما في ذلك الانتماء للقبيلة.. الذي يفرض نفسه علي بحكم المولد في مجتمع بدوي قبلي.. ويشعرني بأنني شاة في القطيع.. الانتماء للقبيلة لا يشبع حاجتي إلى الانتماء.. الانتماء الوطني فقط هو الذي لا أشعر تجاهه بأي ديد للذات الفردية.. وفوق ذلك يحررني من الانتماء القبلي.. الذي يشدني دائما إلى الوراء.

عندما تأسس لدي الوعي بجمع تراثن ا.. وجدت نفسي في سباق مع الموت.. كثيرا ما سبقَني.. وقد أرعبني ما قرأته ذات يوم من أن الصحابة رضوان الله عليهم حين شرعوا في جمع القرآن الكريم في مصحف واحد بعد مقتل كثير من القراء في حروب الردة.. ففي معركة اليمامة وحدها ضد مسيلمة الكذاب استشهد سبعون من حفاظ القرآن افتقدوا آية لم يجدوها مع أحد.. وبعد طول بحث وجدوها مع حذيفة بن اليمان.. فقط مع حذيفة.. والسؤال: (ماذا لو مات حذيفة قبل جمع القرآن)؟ سيقال بأن الله قد تكف ل بحفظ كتابه.. “الحجر 9″: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.. ولكن ماذا عن تراث أمة ترك الله مهمة الحفاظ عليه لأبنائها؟ عندما تموت إحدى العجائز يقولون: (عجوز كبيرة.. ما تستحق بك ا.. مكملة عمره ا).. يا الله.. على من يكون البكاء إذن.. موت العجوز التي أكملت عمرها أكثر فداحة من موت الشباب.. موت الكبير اندثار مكتبة.. انطواء سجل تاريخي بكامله.. الكبير أرشيف يمشي على قدمين.. حتى قالو ا: (اللي ما عنده كبير.. يشري له كبير).

3

إنني أعجب من أولئك الذين يقولون (ليس لدينا تراث).. يفترض في من قال ذلك أن يكون قد بحث واستقصى.. وبذل غاية جهده حتى أطلق هذا الحكم على شعب بأكمله.. وجرده من أهم مقومات وجوده.. وكأننا نبتة شيطانية.. أو بذرة في الهواء.. لكن مثل هذه الأحكام لا تعدو كونها من باب إطلاق الكلام على عواهنه.. تراثنا من الكثرة والزخم والتنوع بحيث يحتاج إلى مؤسسات لجمعه.. ونظرا لافتقاد المؤسسة فإن الأفراد هم الذين يحاولون سد هذا الفراغ المخيف.

الجهد الفردي كان على امتداد تاريخنا الطويل.. ورحم الله الأصمعي.. الذي قيل بأنه ذهب على ناقته مسيرة شهر من أجل الحصول على بيت واحد من الشعر! والذي ينظر إلى تاريخنا.. وإلى آلاف المجلدات في الفقه واللغة والشعر والتاريخ ومختلف المعارف.. يدرك همم أجدادنا في جمع هذا الكم الهائل من التراث الإ نساني.. على الرغم من شح وسائل التوثيق.. ويدرك قيمتهم للزمن.. كان في حسهم آلة حادة.. فقالو ا: (الوقت كالسيف).. حتى قال أحدهم وهو يكتب ما جمعه: (إنني أفضل سف الكعك على قضم الخبز).. قالوا: (لماذا؟).. فقال: (بينهما قدر عشرين سطر ا)! والأعجب أن كثيرا منهم كانوا عميان.. منهم على سبيل المثال لا الحصر ابن سيده.. وداوود الأنطاكي.. والترمذي.. والعكبري.. صاحب المجلدات الكثيرة.. منها إعراب القرآن في مجلدين! فماذا يفعل المبصرون؟

72 “: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من، في البدء كانت الح كاية.. “ص 71 طينٍ.. (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين).. حكاية الإنسان..

الإنسان حفنة التراب التي نفخ فيها الإله.. يشعر دائما بالحنين إلى الروح الكلي.. ولعل هذا أحد أسباب غربة الإنسان.. إننا نحس بالغربة ربما لأننا لا ننتمي إلى هذا العالم.. في داخلنا شيء إلهي.. هو تلك النفخة.. تلك الروح.

4

كان الإنسان منذ القدم مولعا بالحكاية.. قال العرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أليس في قرآنك سوى الحديث عن الجنة والنار؟ أليس فيه قصص؟ فأنزل الله تعالى سورة يوسف عليه السلام: {نحن نقص عليك أحسن القصص}.

تأصيل الهوية لم يكن الواعز الوحيد لجمع هذه الخراريف.. فهذه الحكايات هي التي أسست وجداني.. بل وجدان أجيال بكامله ا.. إنه نوع من رد الجميل.. ووفاء الدين لأؤلئك القصاصين الأفذاذ.. كنت أنصت بشغف على ضوء الفنار الخافت.. الذي يزرع ظلالنا المستطيلة المتكسرة على الأروقة المزخرفة.. تلك المهارة في القص جعلتني أحب الغول! وعلمتني كيف أتناول المأساة في قالب جمالي.. لم تكن تسلية ودرسا تربويا فقط.. بل كانت قبل هذا وذاك دروسا في السرد.

لم نكن نستمع.. بل كنا ننصت.. ولا يخفى أن الإنصات معنى فوق الاستماع.. كانت أعيننا معلقة بشفتي السارد.. بوجهه ويديه.. كان الكلام مصحوبا بإيماءات تمنحه الكثير من الظلال والعمق الذي يعجز عن إيصاله اللسان.. كانت نبرة الصوت تدعم المعاني أيض ا.. فالخراف لم يكن ساردا فقط.. بل كان ممثلا.. يتقمص شخصيات حكايته.. وقد أخذت هذه الخراريف من أفواه أصحاا مباشرة.. بلغتها المحكية.. وكنت أتمنى أن أنقل الإيماءات الجسدية أيضا.

عز علي أن أرى أطفالنا لا يجيدون فن الحكي.. حتى نشأت أجيال لا يعرف أحدهم كيف يخبرك ببساطة أنه ذهب إلى الفرن ولم يجد خبز ا! فيفأفئ ويتلعثم ويلف ويدور.. وتنقطع أنفاسه من أجل إيصال هذا الخبر القصير.. ومن أمثالنا: (العلل يفسده علاله).. أي أن السرد يفسده أحيانا سارده.. لذلك امتدحوا الاختزال وذموا التطويل الممل فقالو ا: (طول السلك يودر لبرة).. وإن كان هناك الكثير من الإسهاب والجمل الاعتراضية الإيضاحية في هذه الخراريف فهو مقتضى الضرورة.. فالمقام مقام تطويل..

5

ربما لأن المتلقي طفل في الغالب.. فيكون التعبير عن البعد والإيغال في المسافة بتكرار الفعل (مشى.. مشى.. مشى..).

هذه الخراريف تشربنا منها القيم.. فالشرير لابد أن يعاقب في اية الحكاية.. والطيب الخير ينال ثوابه.. ومن هذه الحكايات أيضا ارتبطت عندنا الصحراء بالتيه.. فدائما هناك صحراء للتيه.. ودائما هناك مدينة أو قصر يظهر فج أة.. وغالبا هناك عجوز.. وأحيانا هناك يهودي في المدينة على وجه الخصوص.. وولد السلطان لابد أن يكون مدللا.. حتى قالوا في المثل: (ولد السلطان اسمه احميدة).

هذه الخراريف أضفت هالة من الغموض والقداسة حول الرقم سبعة.. (سبع مطارق.. سبع سلاسل.. سبع برور.. سبع بحور.. سبع جرار دموع.. سبع مراوح.. سبع بنات.. سبع طيور.. سبع أيام.. سبع ليالي.. سبع رفاقة.. ذباحة نويقة النبي السبعة.. سبع معزى سود).. وهي مرجعية دينية.. لا حاجة للتدليل عليها من الميثولوجيا الإسلامية. والتأثر واضح في أحداث أخرى.. كقطع الأصابع من جمال (أم جليدة).. يحيلنا إلى قصة يوسف عليه السلام “يوسف 31 “: {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن}.

كذلك ضرب البحر بالعص ا: (جت للبحر ضرباته بالع صا دار لها طريق).. يحيلنا إلى نجاة موسى عليه السلام وبني إسرائيل من فرعون “طه 77 “:{فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا}.

ووضع الطفل في صندوق وإلقائه في البحر في حكاية (زهوة الدني ا).. يذكر بقصة موسى عليه السلام “طه 39 “:{أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل}.

6

وحكاية (حدود العجب) بما تحمله من مشاهد الرحلة الرمزية تجعل الذهن ينصرف تلقائيا إلى قصة الإسراء والمعراج. هناك أحداث تنبئ برؤيا مس تقبلية.. كالاستنساخ مثلا: (دارتا الحوتة ثلاث عويشات.. عويشة خذها القاضي.. وعويشة خذها الحاكم.. وعويشة لصلية خذها الحنش). هناك شيء من تاجر البندقية (شايلوك): (مسك اليهودي وقال له: ما نطلقك نين ناخذ مسيار من جلدك.. من إصبع كراعك لاعند قباعة راسك).. ربما هذه الحكاية سابقة حتى على مسرحية شكسبير.

يلاحظ تشابه في بعض الأحداث مع بعض الحكايات الأجنبية.. ففي خرافة (الثيران السبعة: (هذاك اليوم وينما هفتت عليه مسك ا.. وتما يتلمس فيه ا.. وهو يلقى فيها هذيك لبرة.. نتش لبرة.. ردت الحمامة هي أمه).. وفي الحكاية الفرنسية (البرتقالات الثلاث): (كانت ابنة الملك تمشط شعر رفيقته ا.. فوضعت في رأسها دبوسا فتحولت إلى حمامة).

وفي خرافة (حدود العجب): قال لها الصياد: (حسوفة يا غزالة.. قتلت اغزيلك.. والله ماني عارفه.. لقيته في جلوبة.. نفداه لك.. اطلبي اللي تريديه ا).. قالت له: (جيب لي حدود العجب).. وفي الحكاية الفرنسية (البرتقالات الثلاث): (رمى الأمير الكرة فكسرت إناء الزيت الذي تحمله العجوز.. فأراد أن يعلن عن أسفه.. فقالت له: (أيها الأمير لن تكون سعيدا حتى تجد البرتقالات الثلاث).. فالعقوبة في الحكايتين كانت تتطلب العثور على شيء غريب تكفيرا عن الذنب.

7

وحكاية (حمد وحمد وحمد) لها نظير في الأدب العربي القديم.. وهي حكاية مشهورة تتحدث عن ثلاثة إخوة يتمتعون بالفراسة.. وإن كانت الحكاية الشعبية أكثر عمقا ودلالة.

بعض هذه الحكايات كانت للأطفال من سن الثالثة.. كحكايات (بوصيبانة.. والغول.. وبير اقليتة).. فحكاية (بير اقليتة) تمتدح الصدق وتذم الكذب.. حتى ينال الكاذب عقابه في النهاية.. لكن كان هناك شيء قبل ذلك لا يقل أهمية.. كانت تقدم نوعا من المعرفة لطفلٍ لم يتجاوز الثلاث سنوات.. تعلمنا منها أصوات الحيوانات.. فالجمل يرغي.. والحصان يصهل.. والكلب ينبح.. إلخ.

وحكاية (الغول) تعلمنا منها زيادة الأعداد وتنقيصه ا.. فحين يعطون الغول في الليلة الأولى العنز السابعة تقول الراوية: قعدن ستة.. وحين يعطونه في الليلة الثانية العنز السادسة تقول الراوية: قعدن خمسة.. أو تسألن ا: (كم يبقى؟).. وهكذا كنا نتعلم العدد تصاعديا وتنازليا: نعد الليالي من واحدة إلى سبع.. وننقص المعزى من سبع إلى واحدة. الأهم من هذا وذاك أننا كنا نصدق كل هذه الأحداث.. لم نكن نسأل عن الجدوى.. اللعنة على هذا السؤال.. لا يطرح سؤال الجدوى سوى التجار.. إن لم يكن للفن جدوى سوى المتعة فيكفيه ذلك.. عندما قالوا لنا في المدرسة بأن الغول شخصية وهمية.. أزعجني ذلك إلى حد البكاء.. أحسست بفداحة الخسارة.. خسارة كائن كنت أترقبه كل ليلة.. يضفي الكثير من التشويق على الحكايات.. ويزرع الخوف في عيون الراويات.

8

يقول تودوروف: (عندما يخطئ سارد م ا.. أو يكذب.. فإن نصه لا يكون أقل أهمية م ما لو كان يقول الحقيقة.. فالشيء المهم هو أن يكون النص قابلا للقبول من جانب المعاصرين.. أو يكون م نتجه قد اعت بره كذلك.. ومن هذه الزاوية فإن فكر ة “الزائف” ليست لها أهمية هنا). المعول عليه في السرد هو الصدق الفني.. وليس الصدق بمعناه الأخلاقي.. عندما يبدأ أحدهم حكاية ما مؤكدا أنها حكاية حقيقية واقعية.. فإنني أهيئ نفسي لسماع حكاية مملة.. مهما كانت براعة السارد.. يقول الروائي النيجيري غينوا اتشي بي: (ليست هناك قصة غير حقيقية).

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (امرؤ القيس أشعر الشعراء).. لو كان المقياس أخلاقيا لما قال ذلك.. فامرؤ القيس بالمعيار الديني والأخلاقي كان كافرا ماجن ا.. يصف حتى الممارس ة الجنسية في قصائده بشكل فاضح.. الفن لا يأخذ شرعيته من خارجه.

على كل حال ليس الغول شخصية وهمية.. فحياتنا مزدحمة بالغيلان.. ابتداء من غول الفقر والغلاء الفاحش.. مرورا بغول الاستلاب والتغريب.. انتهاء بغول العولمة.. وماذا عن الغول المدجج بحاملات الطائرات والصواريخ والقنابل الغبية؟

الغول تجسيد للشر.. إذ لا يمكن محاربة شيء لا يتجسد.. الغول يأتي في صورة كلب أحيان ا.. أو رجل.. والغولة تتجسد في صورة امرأة.. قد تأخذ اسما مألوفا.. كالغولة في حكاية (نقارش) اسمها (فاطمة).. وتنادى: (عمتي فاطمة).. هل هو نوع من (استئناس المتوحش؟).. وجعل الغرائبي مألوفا؟

تأتي أهمية التحية وقداستها من كونها تشكل نوعا من الأمان.. حتى ضد الغيلان.. فالغول يقول لمن ألقى عليه السلام: (لو ما سلامك سبق كلامك.. ما تسمع غير طقيق عظامك).. فلا بد من خطوط حمراء في اتمع.. تقف عندها حتى الوحوش!

9

لاحظت من خلال جمع هذه الخراريف اختلاف الروايات من منطقة إلى أخرى.. على الرغم من قرب المسافة.. وهناك اختلاف في النهايات أيضا.. هل هو تدخل الرواة؟

أم هي طبيعة النقل؟ فحين ينقل الكلام يزاد فيه و ينقص.. وإن كان الغالب هو الزيادة.. الخراريف نصوص مروية شفاهي ا.. لم تكتسب حالة الثبات بالتدوين.. إنها نصوص (تتغير) مع كل رواية.. إذ من المستحيل أن تتطابق روايتان لحكاية واحدة.. سواء لراويين مختلفين.. أو حتى لنفس الراوي.. وهذا حدث للقر آن الكريم أيض ا.. فقبل التدوين كانت كل قبيلة تقرأ بلهجته ا.. كانت هناك سعة للنص القرآني.. وعند جمع القرآن قال عثمان رضي الله عنه إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة أهل الحجاز.. فقد نزل القرآن بلغتهم.. فحدث تقييد.. لكن بعد تدوين القرآن أصبحت القراءات المتعددة المعروفة نوعا من التعويض عن هذا التقييد.. لأن التدوين بقدر ما يحافظ على النصوص يقلص سعتها أيضا.

الحكايات نصوص متحررة وليست ثابتة.. يقول (يان فانسينا) في كتابه (المأثورات الشفاهية) ص 118: (يمكن التفرقة بين نوعين من المأثورات.. فهناك مأثورات ذات شكل ثابت.. حفظت عن ظهر قلب.. وتم تناقلها كما هي.. وهناك مأثورات ذات شكل متحرر.. لم تحفظ عن ظهر قلب.. ومن ثم فقد نقلها كل شخص بطريقته الخاصة.. والقصيدة مثال للنوع ذي النص الثابت.. أما الحكايات فهي مثال للنوع المتحرر.. إن كل كلمة في القصيدة تنتمي إلى المأثورات.. أما كلمات الحكاية فهي جهد يسهم به الراوي.. وإن الخطوط العريضة العامة للحكاية هي التي تنتمي إلى المأثورات فحسب). الزيادة في نقل الكلام لا تعني الكذب.. بقدر ما هي عائدة إلى شخصية الراوي.. وإلى خلف يته الثقافية.. وأحيانا تعود إلى نوع المتلقي وطبيعته ومستواه.. يقول الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه : (نحن قوم عرب.. نزيد في الكلام وننقص..: ولا نقصد بذلك كذبا).. يقول (يان فانسين ا) في كتابه (المأثورات الشفاهية) ص 120

10

(إن كل ر اوٍ يضيف عادة بعض اللمسات الخاصة به).. وقد تبين لي صدق ذلك من خلال سماع الحكاية الواحدة من عدة رواة.. ولم أكن بدوري مجرد ناقلٍ حرفي لهذه الخراريف.. بل كنت راويا.. أضفت لمستي الخاصة أيضا.

أذهلتني الراوية (سدينا آد م كامل).. فقد كانت لا تستعمل الفعل (قال) إلا نادر ا.. بل تأني بالحوار مباشرة.. كما أنها لا تستعمل واو العطف إلا للضرورة القصوى.. فسردها جمل متلاحقة.. كم أكره حروف العطف.. فهي تجعل الكلام متهدلا.

هناك قصدية في المحافظة على إيقاع ا لجمل.. ومنحها نوعا من الموسيق ا: (عطاته للعجوز.. زمقت العجوز).. بدل الاكتفاء بقول (زمقت).. أو: (لقي إبرة.. نتش لبرة).. بدل (نتشا).. والأمثلة على ذلك كثيرة.. سيلاحظها القارئ الكريم.

كثير من الحكايات تتضمن فقرات موقعة.. أقرب إلى الأناشيد.. قد تطول وقد تقصر.. منها على سبيل المثال: (كان كليته والا ريته.. طيحني في بير اقليتة).. (يا غوطا فيك نقاريش.. ما م الوحشة والواحيش).. (يا شايب يا ع جوز.. يا بق يرة ق ندوز).. (يا حمام ويا يمام.. أمي ورا والا قدام).

هناك ما يشبه النحت للكلمات.. بتغيير نطقها لصنع إيقاع في السرد.. فغراب يصبح (غربون).. وقراد يصبح (قردون).. وأرنب يصبح (رنبون).. وهكذا.

بعض الخراريف تزداد زيادة مضطردة.. تتناسل.. كحكايات: (أم بسيسى.. والعنز الجربا.. ونص انصيص.. وبوصيبانة).. إنها حكايات ذات ايات متعددة.. حكايات لا تنتهي إلا إذا شاء الراوي ذلك.. فهي مفتوحة على اللااية.. وهذا لا يعود إلى شخصية الراوي أو مستوى المتلقي.. بقدر ما هو راجع إلى طبيعة الحكاية نفسها.

11

ليس هناك مك ان ولا زمان محدد في هذه الحكايات.. وقليلا ما تكون هناك أسماء محددة.. بل يستعمل غالبا اسم الإشارة: (فيه هذاك السلطان.. هذيك المدينة.. هذاك المكان.. هذاك النهار.. هذاك الحوات.. هذيك الولية …).. ونادرا ما ترد الإشارة إلى المعتقد.. وهذا أكسبها عمومية.. إنها حكايات من الممكن أن تقع في أي زمان.. وأي مكان من هذا العالم.. ولأي أحد.

لوازم البدايات تكاد تكون واحدة: (فيه هذاك السلطان.. ما سلطان غير الله.. واللي عليه ذنوب يقول استغفر الله).. هذا إذا كانت الحكاية عن السلط ان.. وما أكثر السلاطين في خراريفن ا! وقد يكون مفتتح الحكاية هكذ ا: (سمعكم خير.. ووكلكم لحم طير).. وكثير من الخراريف تبدأ ذه اللازمة: (الله ينعل الشيطان).. أو: (الله يبعد الشيطان ويخزيه).. فالحكايات فيها شيء من القداسة لعلها قداسة الس رد نفسه تتطلب إقصاء الشيطان منذ البداية ولعنه.. من أجل إحلال البركة.. وقد تكون اللازمة في ثنايا السرد.. مثل: (إيوة يا سيوة يا اللي فيك التمر الواجد).. والحكايات تنتهي بلازمة أيضا: (ونا جيت جاي.. وهم عدوا غادي).. أو: (وهذا حده ا.. وارحم جده ا).. وللمتلقي لازمته أيضا: (مرحبة بك.. انتي خير منهم).

الخرافة هي الحكاية.. وتطلق على الحكاية الأسطورية.. في لسان العرب وتاج العروس (خرف): (الخريف: أحد فصول السنة.. سمي خريفا لأنه تخرف فيه الثمار.. أي تجتنى.. قال أبو حنيفة: ليس الخريف في الأصل باسم الفصل.. وإنما هو اسم مطر القيظ.. والخريف: الساقية.. والخريف: الرطب المجني.. وخرف النخل: اجتناه.. والخرافة: الحديث المستملح من الكذب).. ويبدو أن مادة (خرف) تدور على الري والقطف والا جتناء.. وهذا ليس بعيدا عن معنى الخراريف.. فهي نوع من الري والاجتناء أيضا.. وسمي راوي القصص والشعر كذلك.. لأنه يروي السامع المتعطش إلى السماع.

12

هذه الخراريف كانت تحكى في الليل.. في بدايته على وجه الخصوص.. أحيانا يعلن عن ذلك قبل حلول الليل: (عمتكم أم الخير الليلة تريد تخرف.. الحاضر يعلم الغايب).. يسري الخبر في النجع.. من بيت إلى بيت.. تنقله الحناجر من سفح إلى سفح: (عمتي أم الخير الليلة تريد تخاااااارف).. وقد نحول الإعلان إلى نوع من ا لفرح.. فنجعله على إيقاع التصفيق (الكشك): (أم الخير.. تريد تخرف).

الخراريف بعد وجبة العشاء.. يجب إسكات الجسد أولا.. وإزاحة أي شاغل أمام المخيلة.. كانت الخراريف تحظر في النهار.. حتى سنوا ما يشبه القانون أو التابو: (اللي يخرف في النهار بوه حمار.. واللي يخرف في الليل بوه اجميل).. ولا يخفى الفارق بين الجمل والحمار.. وإن كان الحمار قد ظلم تاريخيا واجتماعيا.

لعل السبب في جعل الليل زمنا وبراحا للخراريف هو طبيعة الحياة في اتمع البدوي.. فالنهار للعمل.. تقول (فاطمة غندور) في مقدمة كتاا (يا حجاركم يا مجاركم) “ص 7″ عن الحكايات الشعبية: (مسرحها الليل.. وكأن الجماعة التي قسمت زمنها اليومي إلى نهار وليل.. تدلل على تعايشها مع واقعه ا.. وخلقها للتوازن الحياتي.. فالنهار للعمل والكد.. لا فراغ فيه ليملأ.. فيما مثل الليل المتنفس الوحيد للانشغال بما يستأنس له.. ولإطلاق العنان للمخيلة المنفلتة المحلقة في عوالم لا مشروطة.. أمكنة وأزمنة وكائنات).

بالطبع لا يستطيع الراوي أن يحكي كل ليلة.. كان في النج ع عدة رواة.. يتناوبون.. أحيانا يطلب منا أن نحكي.. نحكي ما حفظناه.. فكنا نتسابق إلى سرد الخراريف.. كانت أم الخير تشرف على طقوس الحكاية: (سقم قعدتك.. وسرح رقبتك.. وبلا كثرة تلفت).. وحين أشرع في السرد تلاحظ أم الخير: (بالراحة.. عليش مستعجل.. الليل طويل.. ما تطرد فيك شي قوم.. املا فمك بالكلام بلا هذربة.. وسوق العلل سوق).. فأعود إلى نقطة البداية.. و(املا فمك بالكلام بلا هذربة).. يعني أن أحرص

13

على مخارج الحروف.. وأن أعطي كل حرف حقه في النطق.. و(وسوق العلل سوق).. يعني ألا أنسى وأستدرك كل مرة.. وكانت تقول: (الخرافة كي الغلم.. والخراف هو الراعي.. الراعي الكويس تبقى غلمه متلاحقة.. والراعي العطيب تبقى غلمه سايبة هتايا)!

الخراريف ارت بطت عندنا بالنساء.. فالمرأة هي الراوية في معظم الخراريف.. امتلكت سلطان الحكاية.. سلطة القص.. فكلمة (القص) توحي بالسلطة.. لأن معناه التبع.. كتتبع الأثر.. “الكهف 64 “: {فارتدا على آثارهما قصص ا}.. أو القص بآلة حادة.. وهو معنى أوضح للغلبة والسلطة.. هل هو نوع من التعويض عن سلطانها الغائب في مجتمع ذكوري؟ كما فعلت شهرزاد.. حين تحولت من محظية إلى راوية تشد السلطان من أذنيه كل ليلة.. يصغي حتى يدركه الصباح.. فالسرد رديف الحياة.. وانقطاعه نهاية له ا.. فالمتلقي عند شهرزاد جلاد.. فهذا هو الأصل في السرد.. وبعد شهرزاد أصبح السرد لجلاد مفترض ! فأي حرص على السرد حين تدرك أن المستمع يتربص بك.. وقد لا تعجبه حكايتك.. فيقتلك في نهايته ا.. أو في أث نائها.. وهو قتل ليس بالضرورة أن يكون ماديا.. يكفي أن يتثاءب!

شهرزاد الليبية فعلت ذلك أيض ا.. في الليل تستحوذ على الاهتمام.. يتحلق حولها المريدون.. ذكورا وإناث ا.. ليس الصغار فقط.. رأيت عمتي أم الخير بنت عقيلة ينصت لها الرج ال أيض ا.. إنه موقع استعلاء أمام الرجل.. في مقابل مواقعه الاستعلائية الكثيرة.. ولعل الجنس هو أكثر مواقع الرجل استعلاء وسادية!

لماذا تقتل المرأة رجلا وتلبس جلده؟ ! هل هو مجرد انتقام ساذج؟ أم محاولة التلبس بالذكورة في مجتمع يعلي من شأن هذه الذكورة.. ويقصي الأنوثة.. ويعدها ضعفا؟

14

في خرافة (بقيرة اليتامى): (هذاك النهار جاعوا وعطشو ا.. قالوا: يا بقيرتنا قتلنا الجوع والعطش.. زبلت لهم تمر.. ودرت لهم حليب).. يبدو هذا نوعا من التعويض عن الأمومة.. فاليتامى يعيشون مع زوجة الأب القاسية.. كان التعويض الأنسب هو الإدرار.. لارتباط الأمومة بالحليب.

كيف تنتشر الحكاية من منطقة إلى منطقة.. ومن بلد إلى بلد؟ لم أقف عند هذا السؤال كثير ا.. فانتشار الحكايات يبدو سهلا.. يكفي أن يستمع إلى حكايتك شخص مسافر.. ثم يرجع إلى بلده لتجد أن حكايتك قد سافرت أيض ا.. كذلك تجارة القوافل.. ولعل تجارة الرقيق كانت من أهم عوامل انتشار الحكايات.. فعبيد أفريقيا نقلوا معهم حكايام إلى شمال أفريقيا وإلى الأمريكتين وأوروبا.

والآن.. بعد غياب طقوس الحكاية.. وكثرة ا لبدائل.. كالقنوات الفضائية.. الغنية بالصوت والصورة والألوان.. ناهيك عن الراديو والهاتف النقال وشبكة الإنترنت.. ألم يعد للحكاية الشعبية مكان؟ لماذا لا تستخدم هذه الوسائط الحديثة في نقل الخراريف صوتا وصورة؟

جمعت هذه الحكايات من منطقة الج بل الأخضر.. تحديدا من منطقة (وادي الكوف) وما حوله ا.. ولا أدعي أنها تختص ذه المنطقة.. لكنها منتشرة في كل مناطق ليبيا الشاسعة.. مع الاختلاف في الروايات واللهجة. بقي أن أقول إن ما يهمني هو الجمع والتوثيق.. وسأترك الدراسة والتحليل لغيري.. أنا الحاصد فقط.. متمثلا قول الله سبحانه وتعالى على لسان يوسف عليه السلام.. “يوسف 47 “: {فما حصدتم فذروه في سنبله}.

15

ختاما.. أشكر كل الراويات والرواة.. الذين أمتعوني أولا بسردياتهم.. وأدين لهم بالفضل.. فهم وعاء ذاكرتنا وحفاظها.

مقالات ذات علاقة

(الحاجِّية) عتبةٌ تستدعي الذكريات الحداثوية

يونس شعبان الفنادي

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (3).. الإضافة والنعت وآليات الاتّساق

المشرف العام

المعالم الاجتماعية التباوية

امراجع السحاتي

اترك تعليق