دراسات

(الحاجِّية) عتبةٌ تستدعي الذكريات الحداثوية

الراحل علي فهمي خشيم والكاتب يونس الفنادي

(الحاجِّية) كتاب الدكتور الراحل علي فهمي خشيم الصادر سنة 1974م عن دار مكتبة الفكر، وفي طبعة ثانية عن مجمع اللغة العربية بطرابلس سنة 2008م، يعد من الكتب التي لامست وجداني كثيراً وهزّت كياني وأثارت شجوني بداية من عتبة عنوانه الأولى التي رحلت بي إلى ذاك الفضاء المكاني المستوطن في ثنايا فكري وحياتي مزداناً بالعديد من الشخصيات والأسماء والأحداث والأعلام والمعالم.

ف(الحاجِّية) هو موقع جغرافي في سوق الجمعة يقع على امتداد طريق العمروص المنقيت. وكلمة المنقيت تتكون من مفردتين باللغة الانجليزية هما (Main Gate) وتعني البوابة الرئيسية، وهو طريق بري معبد ومرصوف يتجه شرقاً صوب البوابة الرئيسية لقاعدة هويلس الجوية الأمريكية (Wheelus Air Base ) في سوق الجمعة، حيث ينطلق من منطقة “أبي ستة” و”قهوة لاندرو” غرباً إلى “الدوالي” و”جامع العزوني” و”المنصورة” شرقاُ حتى يتوقف أمام سانية “الحافي” وسانية “بوعقرب” وسانية “الرقيبي”.

وقد شهد هذا الطريق سباق السيارات الذي نظمته قاعدة هويلس الأمريكية في منتصف الستينيات من القرن العشرين المنصرم، أما في بداية السبعينيات فقد شهد ليلاً مرور الدبابات والآليات العسكرية المجنزرة المستوردة عبر ميناء طرابلس البحري لتخزينها في القاعدة العسكرية التي استبدل اسمها إلى (عقبة بن نافع الجوية) عقب سبتمبر 1969م ولاحقاً سميت قاعدة “امعيتيقة الجوية” تخليداً للطفلة البريئة “امعيتيقة الزليتني” التي توفيت إثر سقوط إحدى الطائرات الأمريكية عليها في سانية “الدالي” القريبة والمواجهة لسور القاعدة من الناحية الغربية.

و(الحاجِّية) هي كذلك نقطة العبور الأساسية لأهالي الشط والساحل القادمين بحراً من الشمال باتجاه الجنوب لوسط “سوق الجمعة” أو حي “العمروص” عبر مركز تقاطعها المسمى (الأربع شوارع) الذي تتمثل أبرز معالمه المكانية في دكانين صغيرين للمواد الغذائية للمرحومين “مسعود الخويلدي”، و”الشارف عبدالوافي الزائدي”، ومطحن للحبوب والغلال ورحي القمح والشعير، ومخبز “كوشة”، ومعملين للطوب الإسمنتي لكل من المرحومين “الحاج عمر علوان” و”الحاج الدوكالي الزائدي” تفصل بينهما مدرسة عمرو بن العاص الابتدائية التي افتتحت سنة 1966م ودرستُ بها جميع سنوات المرحلة الابتدائية، وهي عبارة عن منزلين لعائلة “بشيّه” تم تأجيرهما لوزارة التربية والتعليم ليكونا المدرسة الأولى بالمنطقة. وبالاضافة إلى المنزلين المدرسة توجد على امتداد الطريق الاسفلتي في (الحاجية) عدة فلل ومنازل يسكنها جنود وضباط أمريكيون يعملون بالقاعدة الجوية تعود ملكيتها لعائلات “شبيط” و”العالم” و”بن حامد” و”الرماش” و”الزائدي” وغيرهم.

كما توجد في (الحاجّية) وتحديداً على ناصيتي تقاطع طريق الأربع شوارع محطتي إنتظار حافلات شركة النسر للنقل العام للركاب التي كانت تسير رحلاتها في ربوع مدينة طرابلس كافة، عبر شبكة مواصلات برية دقيفة المواعيد، من بين خطوطها خط (العمروص/ المنقيت) الذي ينطلق من ميدان 24 أغسطس أو “السويحلي” لاحقاً، وحتى آخر محطاته أمام البوابة الرئيسية (المينقيت) للقاعدة الأمريكية. وتقع محطة الذهاب في (الحاجِّية) للقاصدين وسط المدينة عند تقاطع الأربع شوارع وتحديداً تحت سور مدرسة عمرو بن العاص، بينما محطة الذهاب شرقاً باتجاه القاعدة الامريكية فكانت أمام قطعة أرض فضاء موقوفة لجامع سيدي عقبة العتيق، وخلفها منزل يملكه إمام الجامع الشيخ الفقي “امحمد المصراتي” رحمه الله.

طالع: ندوة خاصة تحتفي بتجربة الدكتور علي فهمي خشيم

(الحاجِّية) كانت مرتعاً لسنوات الطفولة والصبا والشباب، وحضوراً دائماً في حياتي اليومية سواء أيام المدرسة أو خارجها أثناء ممارسة لعبة كرة القدم في بعض فضاءات الأراضي الزراعية المنتشرة بالمنطقة، أو خلال المشاركة في سباقات الركض والعدو التي كانت تنظمها المدرسة انطلاقاً منها وحتى منطقة أبي ستة والعودة، أو أثناء مناسبات إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف أو العيدين وغيرها.

ومن خلال جميع هذه الشواهد لابد من التأكيد بأنه لا يمكن أن يمر اليوم دون أن تتردد كلمة (الحاجّية) على لساني أو في مسمعي، سواء عند سؤال العائلة (أين كنت؟) فيأتي الجواب (في الحاجّية)، أو عند طلب الذهاب لشراء بعض اللوازم من دكاني (الحاجّية) أو غير ذلك، ولكن رغم كل هذا الحضور المادي الباذخ للمكان، وترسيخه وتوطينه في الذاكرة، فإنِّ التفكير في تفسير أو مفهوم ومعنى اسم (الحاجّية) لم يكن يلقى أي اهتمام أو دلالات بعيدة في أفكارنا وتساؤلاتنا، ولا أتذكر أننا انشغلنا يوماً للتدبر فيه أو البحث عن معانيه والغوص في دلالاته القريبة أو البعيدة، لذلك فإنه منذ اللحظة الخاطفة الأولى التي وقع عنوان كتاب (الحاجّية) للدكتور الراحل علي فهمي خشيم أمام ناظري حتى تعلقتُ به، وفجّر براكين الأسئلة في فكري، وغصتُ بين صفحاته مسافراً أنقبُ في ثنايا محتواه، بحثاً عن إجاباتٍ لها تروي عطشي وتُسْكِنُ لهفتي، وتزيدني معلومات أخرى حول (الحاجِّية)، وهو ما يبرز أهمية وقدرة عنوان الكتاب، أياً كان، على الجاذبية والإغراء، والتحفيز للمطالعة والقراءة، وفي التراث العربي ثمة ما يشير إلى اعتبار العنوان أو النص الموازي هو السمة والعلاقة والأثر، الذي يُستدل به على الشيء، وهناك من يعتبر أنَّ العُنوانَ هو بدايةُ كُلِّ شيءٍ، وأنَّ مَا مِنْ أثرٍ مهمٍ إِلاَّ وله عنوانٌ يدل عليه.

الراحل علي فهمي خشيم وكتابه الحاجية

وفي كتابه (الحاجّية) يتناول المؤلف الراحل الدكتور علي فهمي خشيم ثلاث رحلات شهدتها البلاد الليبية هي (الرحلة الناصرية) و(الرحلة المنالية) و(الرحلة الفاسية) عبر ثلاثة فصول مستقلة مرقمة عددياً، تسبقها مقدمة شارحة لمحتوى وغايات الكتاب، ويتبعها فهرس للأعلام وأخر للأماكن ثم المصادر والمراجع. ويبيّن لنا الدكتور علي فهمي خشيم الغاية المرجوة من إصدار كتابه (الحاجِّية) فيقول (رأيتُ أن أَقْدِمَ على نشر بعض ما يتيسر لي الاطلاع عليه، ولم أرَ من أقدَمَ على نشره، من ثلاث رحلات قام بها ثلاثة من رجال المغرب، سجل فيها – كل بطريقته الخاصة – ما رأى أنه يستحق التسجيل عن هذه البلاد وهو في طريقه إلى بيت الله الحرام، تفصل بين أولهم وثالثهم مدة تقرب من قرن من الزمان).

وقد جاء ذكر حي (العمروص) بمنطقتي سوق الجمعة في كتاب (الحاجّية) في الفصل الثاني الذي يتناول (الرحلة المنالية) حين ضمَّن الصفحة رقم 132 ما أورده الرحالة عبدالمجيد بن علي الحسيني المنالي الزيادي الذي أقام بمدينة طرابلس سنة 1158م الموافق للعام التاسع الهجري ويقول فيه (.. وممن وقفتُ على ضريحه بالعمروص، قريةٍ خارجِ المدينة، شرقيِّها، يعمر بها يوم الجمعة سوقٌ عظيم يحضره أهل تلك النواحي، الشيخ العارف بالله سيدي محمد بن سعيد نفعنا الله ببركاته وولى علينا سحب رحماته).

ونلاحظ أن المؤلف الدكتور علي فهمي خشيم قد وضع معياراً ثابتاً وموحداً في استعراضه للرحلات الحجية الثلاثة يبدأ بذكر اسم صاحب الرحلة أو عنوانها أولاً، ثم توثيق تاريخ الرحلة ومدتها ثانياً، وثالثاً النقل والاقتباس الحرفي من المرجع دون أي تصرف بالتعليق أو الإضافة أو التدخل أو غير ذلك، وفقاً لما أوضحه لقارئه حين خاطبه قائلاً (والذي بين يديك الآن أجزاءٌ مستخلصةٌ من رحلات ثلاث.. أقول “أجزاء” لأنها في الأصل رحلاتٌ كاملةٌ، منذ يوم الرحيل إلى يوم العودة الحميدة، إلاّ أنني انتزعتُ من كلٍّ منها ما يتصلُ بليبيا وضممْته إلى سواه، لتشكلَ جميعُها صورةً واحدةً متكاملةً، ذلك لأنَّ نشرها كلَّها يحتاج إلى جهدٍ كبير ومئاتٍ من الصفحات).

ويقدم المؤلف بعض الشروحات والتوضيحات بشكل أكثر شمولاً حول الرحلات وتوثيقها وأغراضها وظروفها فيقول (لم يكن من المعهود – إلا فيما نذر- أن يتهيأ رجل للسفر ويشد رحاله إلى بلد بعينه، يقصده رغبة في معرفة أحواله، فقد كان السفر قطعة من العذاب حقاً، ومن هنا كانت زيارةُ بيتِ الله الدافعَ الأقوى إلى أنْ يأخذ المرء نفسه بعناءِ الرحيل، وينسى في سبيل هذه الغاية كُلَّ نَصَبٍ وَيَهُونُ عليه كُلُّ صَعْبٍ. وكان الأمر أوضح ما يكون بالنسبة لأهل المغرب، أدناه وأوسطه وأقصاه، وكان العلماء منهم، والمهتمون بـأحوال غيرهم من الناس وتسجيل ما يشاهدونه من مظاهر، ويلاحظونه من ظواهر وأعلام سواهم، أو من يأتي بعدهم بحالة الطريق، وتبيان مسالكه وصعوباته ومهالكه، يحرصون على تسطيره فيما يسمّى “الرحلة” وقد يطلق أحدهم إسماً يختاره على هذه “الرحلة”، بيد أنها تشتهر عادة باسم “رحلة فلان” أو “الرحلة الفلانية”)

وحول الطريق المستخدم في هذه الرحلة يقول (أما الطريقُ الذي يسلكونه – معروفةٌ دروبُه ومعالمُه – فيبدأُ من ساحلِ المحيطِ الأطلسي غرباً وينتهي عند مكة والمدينة، يقطعه الحجاج في شهور متطاولة على ظهور الإبل، يضغنون وينزلون فيها مئات المرات. وهو أثناء هذا قد يتخذون طرقاً مختلفة، تشق الصحراء مارة بالواحات اختصاراً للطريق بالسير في خط يكاد يكون مستقيماً، أو تحاذي الساحل طلباً للعمران ومواطن المدنية والاستقرار، وهذا الأخير هو الذي صار فيما بعد طريق الحاج أو كما يعرفه أهل ليبيا: “الحاجّية” وهو ما اتخذته عنواناً لما بين يديك.)

الرحلاتُ الثلاث في كتاب (الحاجّية):

لم يوضح الدكتور الراحل علي فهمي خشيم أسباب اختياره لهذه الرحلات الثلاثة فقط دون غيرها من الرحلات العديدة التي مرت بليبيا موضوعاً لكتابه (الحاجّية) مكتفياً بذكر مصادر النسخ التي نقلها منها سواء من تونس أو القاهرة، وهي:

1 – الرحلة الناصرية، لأبي العباس أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي، قام بها عام 1121-1122 ه، وقد اقتبس المؤلف منها الأبواب التالية:

أ – ذكر وصولنا لطرابلس – حماها الله – من الأغيار

ب – ذكر رحيلنا من بلد طرابلس (حماها الله)

ج – في طريق العودة

د – ذكر خروجنا من طرابلس وارتحالنا منها، أمّنها الله آمين.

2 – الرحلة المنالية، لعبد المجيد بن علي الحسيني المنالي الزبادي، قام بها عام 1158 – 9 هجرية، وتضمن اقتباس المؤلف منها الأبواب التالية:

أ – ذكرى دخولنا مدينة طرابلس حرسها الله وبارك فيها.

ب – ذكر الرحيل عن بلاد طرابلس.

ج – ذكر المعاطن الشهيرة التي لا يستغني الحاج عنها غالباً.

د – ذكر خروجنا من القاهرة متوجهين إلى بلاد المغرب حرسها الله

ل – دخولنا إلى طرابلس متوجهين إلى الغرب في حفظ الله

م – ذكر الخروج من طرابلس والسفر عنها إلى المغرب حرسه الله.

3 – الرحلة الفاسية، لأبي العباس أحمد بن محمد الفاسي، قام بها عام 1211-12 هجرية، وتضمن اقتباس المؤلف منها الأبواب التالية:

أ – ذكر نزولنا محروسة طرابلس.

ب – في طريق العودة ذكر خروجنا من قاهرة مصر متوجهين للمغرب إن شاء الله بالسلامة والعافية.

ج – ذكر نزولنا بمحروسة طرابلس في الإياب.

لقد اشتملت هذه الرحلات على العديد من الأبيات الشعرية في مدح طرابلس وأعلامها وشيوخها وشخصياتها مثل:

إِخْوَانُ صِدْقٍ في طَرَابُلْسَ سَعَــــــــوا لِلْمَجْدِ بِالإِدْلاَجِ وَالإِسْعــَـــــــــــــــادِ

أَرْزُوا إِلَى فِعْلِ الكِـرَامِ وَأَوْسَعــُـــــــــوا وَفْدَ الحَجِيجِ مِنَ النَّعِيمِ البَادِي

بَرَزُوا إِلى الإِحْسَانِ فِي أَوَجِّ العُلا مُسْتَوْجِبِينَ فَخَارَ صَدْرِ النَّادِي

فَاقَتْ صَنَائِعُهُمْ صَنِيعَ ذَوِي النَّـدِيِّ شَكَرَ الفِعَالَ رُوَّاحُهُمْ وَالغَـــــادي

فَهُمْ البُـــحُورُ الــــزاخراتُ لــــــــــــواردٍ عَذْبَ المَنَاهِلِ غَنِيَّةٌ لِلصَّــــــادي

وكذلك الإشارة إلى بعض اللطائف والغرائب والنكت والمناقب، مع التزام المؤلف بعدم التصرف فيما نقله من مصادره ومراجعه القديمة، وهو ما قد يعتبره البعض خسارة فادحة، وإن كانت لا تنقص من قيمة الكتاب وأهميته شيئاً، بل تفتقد إسهامات بصمته الخاصة لأن الدكتور الراحل علي فهمي خشيم موسوعة معرفية وذخيرة ثرية في حياة الشعوب والتاريخ الإنساني خاصة قديمه، وبلا شك كان بإمكان إضافاته أن تزيد الكتاب إثراءً، وغزارةً في معلومات تحمل طابعه، فترتقي وتعلو به أكثر بدلاً من تصنيفه ككتابٍ مجمع فقط، ومجرد وثيقة تاريخية عمل على حفظها بين دفتي كتاب. فيا تُرى لماذا أحجم المؤلف الدكتور علي فهمي خشيم عن التدخل في هذا الكتاب الذي ظل يفتقد إضافاته أو تعقيباته وتعليقاته وتحليلاته ؟

إن كتاب (الحاجية) للدكتور علي فهمي خشيم سيظل بالنسبة لي شخصياً ليس مجرد نافذة تمنحني إطلالة على الماضي البعيد، وترحل بي إلى دروب تاريخ الحج عبر طريقه البري في بلادنا، والذي كان ولازال لصيقاً بي مادياً ووجدانياً، وإنما هو كتاب حرَّك مشاعري ووجداني، وأيقظ ذكرياتي الماضوية بمنطقة (الحاجية) بحي (العمروص) في سوق الجمعة فجعلها تتعزز بمكانتها في كياني، وتتعاظم وتسمو بأهمية دورها، لما له من صلة دينية واجتماعية وسياحية برحلات الحجيج خلال عصور وأزمنة طويلة غابرة شهدتها، وبالتالي ظلت مخيلة شخصيات، وأسماء، وأحوالِ أقوامٍ عديدة من المغرب العربي ماثلة تدب وتتحرك أمام عيوني فتشيعهم بأخلص الدعوات والدمعات، وتمد لهم بعض سقايات الماء لتروي عطشهم وتبلل رمقهم، وتهديهم شيئاً من الزاد لتهزم به جيوش جوعهم، فلعل ذلك يهوّن عليهم عناء السفر والترحال، ويخفف مشاقه في الظروف كافة، ويثيبني الله أجر ذلك في الغايات المأمولة، كما في الوقائع المشهودة جراء تقديم كتاب (الحاجية) والتعريف به وإجلاء قيمته المعرفية وإيضاحها.

مقالات ذات علاقة

الرقابة في ليبيا.. أدبية اجتماعية دينية

إنتصار بوراوي

التناص مع القرآن في الشعر الليبي

سالم أبوظهير

الإطار الزماني والمكاني في القصة القصيرة

المشرف العام

اترك تعليق