جلس على النطع جلسته اليومية المعتادة.. أخذ يطرق على سندانه.
إلى جانبه.. على دفء النطع.. قِطَّة جاثمة.. تفتح عينيها مع كل طَرْقة.
(كم من المسامير دقَّ في أحذية الآخرين!؟).. سؤال يطرحه على نفسه مِراراً.
ألِفتْ يدُه المطرقة.. ألِفتْ ركبتُه الانثناء.. اعتاد ظهره على الانحناء.. ولم يَعُد أنفه يُنكِر رائحة الأحذية.
بدأ ــ كعادته اليومية أيضاً ــ يترنَّم بالأغنية الشعبية المأثورة عند الخرَّازين:
مازلت نشْكي بمشْكاي … وعنِّي الدباير غابَـــــــتْ.
ومازلت نخْرِز بمشْفَـــاي … عَلَيْ ركبتي نَيْن عابَـتْ.
ومازلت نَمْسَح بيَمْنــاي … عَلَيْ لحيتي نَيْن شابَتْ.
ثُمَّ توقف فجأة.. عن الغناء.. وعن الطَّرْق.. رفع رأسه.. ملأ صدره بالهواء.. برزت عروق رقبته.. اتسعت عيناه.. و.. صرخ.. صرخ بأقصى ما يستطيع الصوت البشري أن يفعل.
خرجت الصرخة.. صعدت.. تلوَّت.. انداحت عبر شوارع قريتنا.. تنْزلق فوق الجدران المُتقشِّرة.. من تحت زوايا السقوف.. تقتحم الأبواب والنوافذ.. تتسرَّب من خلال الشقوق..
توقفت الملاعق قبل أن تصل إلى الأفواه..
صرخ الجنين الذي كان مُتعسِّر الولادة..
نضجت الأرغفة في التنانير..
في الغُرَف الخلفية تكوَّرت النهود .. انشدَّ اللحم المُترهِّل..
تمزَّقت شِباك العناكب المنصوبة في الزوايا العُليا..
هَرَّت الكلاب.. دسَّت ذيولها بين أرجلها..
شيخ قبيلتنا ــ الذي كان يُعاني من عُسْر الحاجة ــ اندلق كل ما في بطنه فجأة..
في مسجدنا توقفت حَبّات المسابح عن التتابع.
فاضت الصرخة خارج قريتنا…
أطْلع الموتَى رؤوسهم.. استندوا على الشواهد..
توقفت قوافل النمل.. اكتظَّت النياسب بالقَشّ..
تفتَّحت البراعم..
تشقَّق البَيض.. برزت مناقير العُصَيفيرات..
تحرَّكت سطوح البِرَك الراكدة.. ارتسمت فوقها الدوائر المتلاحقة.. لقلقت أطرافها المُوحِلة..
ثُمَّ.. سكن كل شيء…
تابع الطَّرْق على سندانه برتابة.. والقِطَّة الجاثمة على دفء النطع.. تفتح عينيها مع كل طَرْقة.
(1997)