صالح سعد يونس
(( كانت جيوب أبى منتفخة دائماً, ولم تكن فيها قطُّ حلوى لى!! ))
غادة السّمان – ليل الغرباء
(1)
إنه اليومُ الأخيرُ من أيام الدراسة وجميع الأطفال فرحون لأنهم سيقضون فترة العطلة الصيفية بأكملها فى اللعب.. وحده يوسف لم يكُ مسروراً بين زملائه فعاد إلى البيت يجر خطواتٍ ثقيلةٍ متمنياً لو يطول الدرب أكثر فأكثر!.
دخل إلى المنزل ليجد أخاه الأصغر ينتظره بشغفٍ ولم يعطه الفرصة لتبديل ملابسه حتى فشده من يده وهو يقول كما العادة:
-هيّا.. سوق سوق.
بعد الغداء لم ينم والد يوسف كما تعود بل جلس يدخن بعد أن طلب من ولده أن يبدل ثيابه ويمشط شعره.. وعلى الفور ذهب الولد وفى عينيه يتراقص فرحٌ عارمٌ.. إنه سيخرج.. ليس مهماً إلى أين المهم أنه سيخرج ولكن لم يطل الانتظار ليعرف فقد التقطت أذناه الخبر اليقين حينما سمع أباه يقول لزوجته:
-جهزى ليوسف ثيابه.. سآخذه إلى أمه.
خرج الصبى خلف أبيه ممسكاً بحقيبته وهو يتحاشى النظر إلى عينى زوجة أبيه التى كانت واقفةً عند الباب ممسكةً بولدها الذى ملأ البيت صراخاً ودموعاً.
فى الطريق توقف الوالد عند محلٍ لبيع الخضار.. نزل بينما ظل الطفل ينظر إلى عددٍ من الأولاد وهم يلعبون الكرة فى باحةٍ صغيرةٍ بجوار المتجر.. وفى الخلف تماماً يظهر صبىٌّ فى مثل عمر يوسف يجاهد ليتعلم ركوب دراجته فيتعثر حيناً ويسقط حيناً ثم يمسك بالمقود وهو يدفعها بكلتا يديه وجذعه حيناً آخر.
حضر الأب محملاً بأكياس الخضار والفواكه.. وضعها على الكرسى الخلفى ثم جلس بمقعده ودفع معشق السرعات إلى الأمام فى حين ظل يوسف يرنو إلى ذلك الصبى بعينين مملوءتين بالتمنى!.
كان الجو حاراً والسيارة تطوى الطريق خلفها باتجاه الضاحية
الجنوبية للمدينة.. وكان الطفل ذا الثمانية أعوامٍ ينظر من خلال الزجاج إلى جانب الطريق فتترائى له المزارع والبيوت المتشابهة.
إنزلقت المركبة مسرعةً مع ذلك المنحدر ثم أبطأت من سرعتها وهى تصعد.. قريباً ستصل إلى أعلى التلة وستبدأ بالإنزلاق مجدداً مع المنحدر الثانى حيث سيرى يوسف بوضوحٍ منزل جده فى نهاية الطريق.. خلال ذلك جاءه صوت أبيه:
-إسمع يا يوسف.. سأتركك عند أمك أسبوعاً.. أسبوعٌ واحدٌ فقط ثم سآتى لآخذك فلا تزعلنى منك.. إذا بكيت أو سببت لى حرجاً فأنت تعرف.. لن آخذك لأمك مجدداً.. هل فهمت ؟.
-نعم فهمت.
قال ذلك وهو يتفحص وجه أبيه ولكن ابتسامةً من فم الأب شجعته على البوح بأمنيته:
-بابا.. اشترى لى دراجة.
-حاضر..عندما تعود ستجد الدراجة فى انتظارك.
قال الأب ذلك دون تفكير وكأن العبارة كانت جاهزةً على شفتيه!.
أزاح الطفل وجهه ليرى بيت جده يقترب بسرعةٍ وفى عينيه
وفى كل أسارير وجهه فرحٌ غامر.
بدأ عبد الكريم بإنزال أكياس الفواكه والخضروات واللحم والأرز وغيرها من السلع.. لقد كان رجلاً كريماً ينفق المال بلا حساب.. وربما ساعدته وظيفته كونه كان مديراً لأحد فروع شركةٍ محليةٍ كبرى.
تناول مع نسيبه السابق كوباً من الشاى ثم خرج ليجد قالوناً من اللبن المعرعر فى انتظاره عند عتبة البيت.
( 2 )
إنقضى الأسبوع ولكنه كان بطيئاً فيوسف ما لبث يكف عن الحلم بدراجته الجديدة ويحدث أخواله الصغار عنها.. كان مشتاقاً للعودة ليلعب بدراجته.. ستكون حمراء.. أو ربما خضراء.. ليس مهماً المهم أن يعرف كيف يقودها.. لن يكون كذلك الولد الذى يتعثر ويسقط كل حين.. سيتعلم سريعاً.. ولكن أخاه سليمان لن يتركه يهنأ وهو يشده من يده ويبكى ويصرخ كما العادة ويقول:
-هيا.. سوق سوق.
وسينهكه وهو يدفع به سيارته فيما هو جالس بمقعدها فاتحاً فاه وقهقهاته وصراخ الفرح يندلق من حنجرته.
لم يأت أبوه فى الموعد رغم أنه استيقظ باكراً وبدل ثيابه ومشط
شعره وجلس بعد ذلك أمام منزل جده يرنو إلى قمة التلة حيث سيرى سيارة أبيه تهبط مسرعة.
انقضى ذلك اليوم.. يومان آخران.. وفى مساء اليوم الثالث سمع زعيق أخواله وهم يتراكضون باتجاه الطريق.. خرج مسرعاً ليرى عربة أبيه تسير ببطءٍ فوق الطريق الترابية والأولاد حولها يتراكضون.
دخل سريعاً فرحاً وهو يقول لأمه:
-أين حقيبتى ؟.
-إصبر يا وليدى إصبر.. لم أنت مستعجل هكذا هل مللت منى بهذه السرعة ؟!.
لم يرد على عتابها وبدأ فى تبديل ملابسه وتمشيط شعره ثم حمل حقيبته وهم بالخروج.. غير أن أمه قالت له وهى تشد الحقيبة:
-إصبر قليلاً.. ألا تريد أن تودعنى على الأقل!.
تراجع.. سمح لوالدته بأن تطبع على خدوده قبلاتٍ حارةٍ ثم التقط حقيبته وخرج مسرعاً.
ضحكت الأم على الرغم من أن قلبها قد بدأ يضطرب فى
جوفها فهى لم ترتو بعد مع أنها كانت تنام متأخرة كل ليلةٍ وهى تحضنه وتلثم خديه وتحيط جسده الصغير بكلتا يديها.
إنطلقت السيارة فيما بدأت السماء تكتسى باللون البرتقالى.. كان يوسف يجلس بالمقعد الأمامى يلوح بيده لأخواله الصغار وهم يتراكضون حول المركبة وخلفها حتى بلغت الطريق الرئيسى.
كان يجيب على أسئلة أبيه باقتضابٍ شديدٍ وهو يراجع الخطوات التى سيبدأ بها تلعم قيادة دراجته الحمراء.. أو حتى الخضراء.. المهم أنها أمنيةٌ تتحقق.
توقفت المركبة.. نزل مسرعاً.. أدار عينيه فى كل أركان الفناء الأمامى.. لم تك هنالك دراجةٌ حمراء.. ولا حتى………..
فقط كان أخوه سليمان يجلس بسيارته الحمراء ذات العجلات
الأربعة وهو يرفع يده صائحاً بشغف:
-هيا هيا.. سوق سوق!.
البيضاء – ليبيا – 2020.1.13