بالقاسم السحاتى
نفدت أنبوبة الأكسجين من المريض المقابل.. كنت أشاهدُه يُلوح بيده مختنقًا.. محاولا إزالة الكِمَامة من على وجهه.. وقتها كنتُ ما زلت عاجزا عن الحركة والكلام.. بعد تناول الأدوية المُرهقة للوعي.. اكتفيت بمحاولة إصدار أنين ضعيف من الحنجرة.. للفت الانتباه إليه…
وعند ما استيقظتُ كان سريرُه فارغًا ومُرتبًا بشكل مُنظم.. وجسمي شبكة عنكبوتية من الأسلاك والأنابيب.. بعضها يُصدر خريرًا لمجرى مياه بعيد.. وصوت طنين متقطع يصدر من كل الاتجاهات.. كنت أحسدُ أصحاب السيارات التي أسمعُها تُصدر أبواقًا.. أتخيله يستعجل الوصول إلى بيته.. وفى انتظاره طفل صغير ينتظر هديتَه.. وعند ما يدخل يخبئ يده التي فيها الهدية خلف ظهره.. والطفل واثق أنه لن يأتي إلا بها.. كما كان يفعل ابني…
حين لا تخضع الدموعُ للعجز.. تنساب بسلاسة.. لا تتأثر بأدوية ولا بمرض.. وهذه الغصة التي تخنق حلقي كلما أغمضتُ عينيّ.. وغُصتُ في ذاكرتي أرتشفُ الوجع العتيق.. وأنا أشاهد فقاعات الفرح المنفرط وهي تنفجر.. يدهشني صمودي رغم التهاوي.. محطات كثيرة توقّف بها العمر ورفضت المغادرة.. واصلت الرحيل بإصرار وأنا أجهل ما ينتظرني.. أتوق للفرح.. جُلتُ بذاكرتي وأنا مستلق بثقل وجعي على بساط الروح.. روحي المتشظية.. أستذكرُ سيرةَ عُمر.. تساقطت أيامه من على شرفات القهر.. يعتصرني الألم وأنا أصافحُ وُجوهًا لن تصافحها يدي.. مثقلٌ بحنين يتثاءب بهم جميعا.. وبي أنا.. ذاك المسكون بأحلام مبتورة…
كل ما حولي شواهدُ صنعتْها الخيباتُ المريرة.. أفترشُها وأنا أرثي الأيام الغابرة.