قصة

ب ا ز ي ن

من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.
من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.

عين، عين زرقاء تستيقظ في موقد غاز، تحت بيض، حلم الدّجاجة بكتكوتٍ يُسلق. قدر، قدر كبيرة على النّار، عدس، بطاطا، ولحم، معًا في تناغم يُسبك. وفي زاوية قصيّة من المطبخ كانت فاطمة ملتصقة بشيء ما يشبه القدر ولكن أبشع بأذنين نافرتين، وانهمكت تدعك فيه بمغرف طويل؛ تعصّد في البازين. ولكن هذه الفلاحة لم تدم طويلًا حين قرّرت فجأة أنّها لن تستمر أكثر. تأفّفت كمدخنة قطار وهي ترشق ببربريّة المغرف في كتلة دقيق الشعير، وعقفت رأسها كحرف كاف متصل بحرف آخر، حتّى خرج صوتها مضغوظًا تهدّد أمّها الواقفة فوق رأسها : ” هذه آخر مرّة ندير فيها البازين “. مذهب التجربة البكر في العادة أن تكون ساذجة، وتجربة فاطمة مع هذه الأكلة الفريدة فاجأتها وتسببت في حزّ متحسس في وعيها، من كان يظن أنّ إعداد البازين هدّام ومؤلم إلى هذا الحد ؟، وربّما الحال من دونه أفضل. وقرّرت فاطمة أن تعود بالزّمن، وتمسح البازين، هذا الإزعاج كصراخ رضيع من على وجه البسيطة.

في الليل دخلت فاطمة حلم طويل، الحلم وحده المعجزة الممكنة لسليل آدم، الحلم يذكّرنا بالموطن الأصل، الجنّة، وفي الحلم تتحقّق الأشياء، وفيه نحن دائمًا بخير، وتنتهي أسوء الأحوال بإستفاقة لا يمكن أن تكون متأخرة، كما الواقع. وفي حلمها دخلت ثقب دودِي، تطرق أبواب الحقبات الزمنيّة وتسأل : ” تعرفوا البازين ؟ “، وهكذا إلى أن أجابتها آخر حقبة بنعم، كانت قد وصلت إلى ما هو أبعد بخمسة قرون، تلصّصت على الأسواق والبيوت، سرقت كلّ قدر ومغرف، عادت من الثقب الدودي بسرعة …. واستيقظت. فور لحظة الصحو، ركضت كنفّاثة صاروخ إلى المطبخ، شعرت بأنّ الحلم حقيقي، لذلك أرادت أن تتأكّد فتّشَتْ عن قدور بيتهم ومغارفهم، وعندما لم تجد شيء سألت الوالدة، وكانت ردّة فعلها بأنّها لم تسمع بهاتين الكلمتين من قبل. تسمّرت فاطمة فاغرة الفاه كصفر كبير، بصفر من الكلمات، صفر من الإحتمالات. أيعقل أن تكون الرّغبة وحدها، الرغبة الملحّة في الشيء ولا شيء غير الرّغبة تحقّقه ؟، وأنّ هذا كله من صنعها وبسببها. دارت الأيّام تموج بفاطمة كرحى، تسكن رأسها روح جرس كبير، يرقص طوال الوقت، تسمع فيه قرقعة قدور أبعد من خمسة أجيال غابرة، تمامًا في رأسها حيث خبأتها. وهذه المرّة وصل يوم الجمعة شاك في نفسه، يرتجف ويتعرّق كممسوس، لا يشعر بالثقة الكافية، لا يشعر بأنّه كما العادة. وأثارت ردة فعل أهلها في نفسها جدلًا كبيرًا. على هامش الخطيئة راقبت فاطمة النّتائج في مفارقة عظيمة، وكانت تبدو كملصق لشخصية ماروكو بعينين حلزونيتين جاحظتين، وبظلّ أزرق يمسح على النّاصية الخاطئة، وعلامات تعجّب كبيرة تتقافز حول رأسها : الأم كانت تفكّر في المطبخ، تقول : كنت ندير في حاجة مهمّة اليوم، حاجة علّمتها ليّا أمي من جدّتي من جدّتها من جدّة جدّتها، حاجة مهمّة لكن نسيتها، وتقول لزوجها : مش عارفة ليش سلقتلك الدّحي ودرتلك الحلبة مع العدس والبطاطا في الرّز. وكان الأب يأكل الأرز بيده على غير العادة، يقول أنا هكي كنت ندير في حاجة مهمّة، حاجة مهمّة لكن نسيتها. وبعد البقاء على هذه الحالة لفترة طويلة شعرت فاطمة بالذنب، وأدركت أن ذاكرة العقل من الممكن أن تُشوّش، أن تُفقد، أو تُبرمج بخوارزميات الحياة الحديثة والعصريّة، لكنّ ذاكرة الطين لا تنسى ما عُجنت به من تراث،يضمر المحتوى ولكن تظل الطّريقة، والأصيل لا ينسى أصله ومن يمحو الهويّة ينتهي به الحال إلى خلقها مجدّدًا.

وتذكّرت كيف تكرّر هذا المشهد لسنوات أو لماذا أصلًا تعدّ المرأة الليبيّة البازين، نافس كانت، متعبة كانت، عاملة كانت، أو عجوز هرمة. إنّه طريقتنا لتذكّر الأوائل، وكم كان صمودًا أبيًا. وقرّرت أن تعكس الأحداث، أن تعبر الثقب الدّودي مجدّدًا، لعلّها تجد حوش بو سعدية لتالي شوية، تُعيد القدور والمغارف للحقبة الأولى، وكأنّ شيء لم يكن. ولكن ما لا تعرفه فاطمة أنّها وحين سرقت القدور، كان قد سقط منها شال صوفِي، وجده زعيم قبيلة ليبي مغوار، عرّفه على إحساس الكلاب وأطلقهم في الفيافي الفسيحة، للبحث عنها وزّع حرّاسه على الحدود وأقسم ألّا يهنأ له بال إلّا ودمها مسفوك على سيفه. حُرّمت عليها الرّجعة. وهكذا يتحوّل الحلم بدحض العراقة وتدنيسها إلى كابوس، إلى طرد، إلى إمتحان إلى دُنيا، وفي الدُنيا يضاء الطريق للإنسان بقدر ما يحكّم عقله. وتفجّر عقل فاطمة بالأفكار كشارع ليبي في موسم الميلود، فرقعة قويّة، فكرة قويّة اهتزّ لها جسد فاطمة كصفصافة عجوزة في الرّيح وهي: أن تصنع القدر والمغرف من البداية، وعلى غير المتوّقع، ساعدتها العلوم في إحياء التراث. صنعت إسطوانة من النّحاس بشكل هندسي وصنعت لها قاعًا دائريًا، ومن ما تعلّمته من مبادئ الفيزياء من صهر وطرق، لحمت القاع بالإسطوانة حتّى تخلّق القدر، وبتتبع الجدول الدّوري في حصص الكيمياء خانة خانة، وصلت بالمعرفة إلى أن تمسح سطح النّحاس السام بالقصدير الآمن. أخيرًا هذّبت لحاء شجرة زيتون شامخة، وشكلت مغرفًا قويًا . في زاويّة قصيّة من المطبخ، كان الجو مشحونًا بشكل غريب، الأم على الأرض ملتصقة بشيء ما يشبه القدر ولكن أبشع بأذنين نافرتين، تتعلّم أكلة جديدة عجيبة من عجائب ابنتها فاطمة، تدعك شيئًا عنيدًا .. تعصّد في البازين.

مقالات ذات علاقة

شيشا راقوبا

محمد دربي

الوحل

خيرية فتحي عبدالجليل

زنبا.. وأغنية الأولى

زمزم كوري

اترك تعليق