مفتاح وُلد في بنغازي، منذ قرن تقريباً، عام 1925. عبد الفتاح توفي في جدة، في 1 ديسمبر (كانون الأول) 2019. تربطني بآل “مفتاح” أواصر الميلاد…
فقد وُلدتُ وعشتُ في بنغازي، وربطتني صداقة ببعض من أهله، مثل الفنان سيد بومدين، المطرب والملحن والشاعر والمترجم، ثم المطرب أحمد كامل، والأصدقاء الأخوة: المناضل والكاتب أحمد الماقني، رفيق السجن نوري الماقني، وهم أبناء خليفة الماقني بومدين ونادي الهلال، ثم عمهم الشريف الماقني، المثقف رفيق شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي، وكأن آل بومدين آل ثقافة وفن ونضال…
تربطني بـ”عبد الفتاح” أواصر الآداب والحداثة، بخاصة مع إصدارات النادي الأدبي في جدة، مثل مجلة “جذور”، التي تُعنى بالتراث وقضاياه، ثم “علامات” في النقد الأدبي، ومجلة “نوافذ”، التي تُعنى بترجمة الأدب العالمي، وكان هذا “أثناء رئاسته النادي الأدبي في جدة، وهي المرحلة التي بات النادي فيها، مالئاً الدنيا وشاغلاً الناس والصحافة والمجالس، بصخب وجدل وحوارات لا تنتهي عن “الحداثة” و”البنيوية” وما بعد “البنيوية”، أو بحسب وصف رفيقه في رحلة النادي الأدبي، الناقد الأدبي عبد الله الغذامي، الذي يقول في مقال له بعنوان “صناعة الجمهور: نار الحداثة”: “لقد جاءت نار الحداثة، تلك النار التي أنضجت كل ما هو نيء في جسد الثقافة”. ويصف الغذامي شخصية أبو مدين بقوله: “الرجل على قدر عالٍ من تقدير المشورة والرأي، ثم الشجاعة في التنفيذ، مع الفصل التام بين ما يراه هو شخصياً وما يجب عمله، ولا يستبد برأيه الخاص في مشاريع عامة تهم الوسط كله، ولقد قبل أبو مدين الأسئلة، ورحّب بالتحديات وتحمّل التبعات. فكان العاملون معه، يشعرون أنهم مع رجل، فتح عقله للآراء وسمح لأفكار العمل أن تأخذ مجراها، وترك الحوار هو المتحكم في الموقف“.
وفي “حكاية الفتى مفتاح”، كتاب سيرته، يتبين شغفه بطه حسين والمتنبي، اللّذين شكّلا وجدانه ووجدان مثقفي جيله النابهين، أس حداثة الثقافة العربية المعاصرة.
وعند “حكاية الفتى مفتاح” سأقف، لأتبين قصة عبدالفتاح بومدين، من حين وُلد في بنغازي سُمي “مفتاح”، ولمّا غادرها إلى أخواله في جدة وعاش هناك، سُمي “عبد الفتاح”، وكأنها ولادة ثانية، أو البرزخ من الولادة إلى النشأة، من بنغازي ذهب شاباً في مقتبل العمر، وفي جدة عاش بقية العمر، إذ ولد الكاتب ما هو وليد اللغة، ما هي هنا اللغة العربية: لغة مسقط الرأس، لغة ميلاد الكاتب.
فتذكرت الشاعر محمد الفيتوري، من وُلد في الأسكندرية، ووالده مفتاح الفيتوري من مدينة زليتن الليبية التي أبي أصيلها. بالتالي، أنا والشاعر أبناء عمومة، لكن ابن “مفتاح” سيحمل جنسية أخرى، إذ عُرف بالشاعر السوداني، على الرغم من أنه حمل أيضاً في ما بعد الجنسية الليبية، وتوفي وهو يعمل في السفارات الليبية، وعلى الرغم من ذلك الشاعر محمد الفيتوري بقي الشاعر السوداني.
هل هذا يعني أن عبد الفتاح بومدين، الكاتب السعودي أصيل ليبيا، والشاعر محمد الفيتوري، هما أبناء اللغة الواحدة، ولهذا نُسبا إلى حيث نشأ الكاتب أو الشاعر فيهما؟
الغريب أن هناك شابين ليبيين نابغين في مجالهما، يكتبان بالإنجليزية، ويُنسبان إلى ليبيا في غالبية الأحوال، هما خالد مطاوع، الشاعر الأميركي الحائز على جوائز عدّة، كما هشام مطر الروائي الإنجليزي، الحائز على جائزة “بوليتزر” وغيرها، وهما أيضاً في بعض الأحوال لا يُنسبان إلى بلد.
أليس هذا مناقضاً لمقولة أن الكاتب ابن اللغة التي يكتب بها؟ على الرغم من أن ما يدفع النقاد إلى أن ينسبوا مثلاً هشام مطر لليبيا، ليست أصوله، بل إن مسروده والأحداث والقضايا التي يعالج ليبية، فيما أنتج حتى الآن، وكأن هذا يؤكد صحة قول أحد الكتاب الجزائريين، ممن يكتبون بالفرنسية: اللغة الفرنسية منفى نعيش فيه، أو كما قال.
من جهتي، النسب يطال الكاتب/ الشخص، لكن الكتابة لا جنسية لها، لكن يمكن نسب كاتب ما، لنمط وأساليب كتابة ما، مثلما الذي ينتح من “ألف ليلة وليلة”، كذا في إطار الرؤية والنظرة الفكرية، فقد ينسب مفكر لفلسفة الأنوار الفرنسية، لكونفشيوس، للرشدية (ابن رشد).
من هذه الثقافة والأفكار عابرة للحدود. أما أصحاب اللغة الواحدة، فثمة تجسير إضافي، يجعل ابن رشد في الأندلس والغزالي المشرقي، يدخلان في محاورة سلسة على الرغم من التناقض في الرؤية، وهذا مما عمّق مشتركهما، فنُسبا معاً للفلسفة الإسلامية.
عود على بدء، يؤكد عبد الفتاح بومدين، هذا الكاتب ورجل الثقافة الفاعل والإعلامي الخلاق، أن العرب كأفراد قبل، كانوا كما الثقافة العربية، يتنقلون من المغرب إلى المشرق والعكس، بيسر من دون حدود تحدهم، ولا بوابات توقفهم، بل ينسابون في أرض العرب مع الهواء، وكذا كانت الكتب والصحف، توزّع في طنجة كما في بنغازي أو جدة من دون رقيب ولا حسيب.
رحم الله مفتاح (عبد الفتاح بومدين)، المثقف العربي من أسهم في فتح النوافذ للحداثة والفكر الخلاق.
________________________________________
* عبد الفتاح أبو مدين (1925- 2019)، أديب وإعلامي وناقد سعودي، من رواد العمل المؤسسي الثقافي في السعودية، وكان رئيساً لنادي جدة الأدبي، أصدر جريدة “الأضواء”، وهي أول جريدة تصدر في جدة خلال الحكم السعودي، وصدرت له نحو 10 مؤلفات، وترجع أصوله إلى ليبيا، فقد وُلد في بنغازي عام 1925، وهاجر عام 1946 إلى المدينة المنورة، حيث نشأ وترعرع.
– المصدر: عبد الفتاح أبو مدين… “الطحنسي” الذي أشعل “الحداثة” ربع قرن، وائل أبو منصور، جريدة الشرق الأوسط، السبت 7 يونيو (حزيران) 2014.
اندبندنت عربية، الجمعة 6 ديسمبر 2019