من أعمال التشكيلية حميدة صقر.
قصة

مــــوت السّيدة “ف. م”

الصادق النيهوم

من أعمال التشكيلية حميدة صقر.
من أعمال التشكيلية حميدة صقر.

قالت السيّدة “ف. م.” .. من منطقة دكاكين حميد عندما وقفت بين يدي اللّـــه:
“مولاي, أنا ولدت رغم أنفي كعادة الأطفال.
وقطعت القابلة صرتي بأسنانها، ووضعتني في قدر من الماء الساخن، وتركتني أنضج مثل سلحفاة مسلوخة الجلد معلنة لأهل البيت أن نجاسة البنت لا يغسلها سوى ماء الدموع.
ثم بكت أمي طوال الليل لأنها أنجبت بنتاً، وزارها والدي في الصباح وركلها على بطنها وقال إنه يتمنى لو ماتت قبل أن تلد تلك الفضيحة، وعندما سرى النبأ بين جيراننا، وسمعت ما يقال في دكاكين حميد عن إنجاب البنات، بدأت أشعر بالعار من نفسي قبل أن تمضي ساعتان على ميلادي، وكانت دارنا متسخة مثل جحر خنفساء.
وكانت الأرض تطفح بالمياه وبقع الدم، وحبل النفاس يتأرجح في النافذة عبر العتمة ورائحة البخور والعجائز. ولقد خيل لي-فيما كانت القابلة تلفني في خرق القماط الخشنة- أنني هبطت من سمواتك العظيمة في طبق من المسامير.
وكبرت رغم أنفي كعادة الأطفال.
وكانت والدتي تعدني لأداء مهمتي في منطقة دكاكين حميد، وقد علمتني كيف أغسل الصحون بالعوين وأغسل جوارب إخوتي والحصران القديمة وأمسح البلاط والمرحاض يوم الجمعة وأوقد النار بعود ثقاب واحد….وعندما بلغت الثامنة من عمري عهدوا إلي بإعداد قهوة الصباح.
وبدأت أصحو قبل معظم الطيور.
وأوقد النار بعود ثقاب واحد، وأمسح البلاط ريثما يغلي ماء القهوة، وأغسل خرق الطفل الذي ولدوه بعدي، ثم أجر قدمي المتعبتين إلى المدرسة 
وأبحث طوال الطريق عن عذر مناسب أقوله لمعلم الحساب.
وكان ذلك المعلم لا يكف عن تقريعي، وكانت والدتي تدق عنقي كلما وجدتني أكتب واجب الحساب “.
ثم قالت السيدة [ ف. م ] بين يدي الله:
” كبرت رغم أنفي كعادة الأطفال.
وغطوا وجهي بقطعة قماش زرقاء وأعلموني أن النساء في ليبيا يخبئن وجوههن بالقماش الأزرق اتقاء لنار الحب. وقد أفزعني أن اكتشفت في اليوم التالي إن العالم بأسره صار أزرق اللون. الشمس والشوارع ووجوه المارة والتراب وولد جارنا الذي كان ينتظرني كل يوم عند مدخل الزقاق.
صار حبيبي أزرق اللون.
وقد رأيته يبتسم من وراء قطعة القماش وسمعته يقول لي إنني أصبحت عروسة زرقاء، وحلمت به طوال الليل. وفي الصباح رأيته يمد لي رسالة صغيرة،وكنت أنوي أن أشتمه كما تقضي التقاليد عندما خرج والدي من البيت فجأة ورأى ولد جارنا عند مدخل الزقاق.
ومنعوني من الخروج.
ضربني والدي حتى دق ضلوعي، وبكت والدتي طوال الأسبوع، وقالت إحدى جاراتنا إنني بنت داعرة مثل بقية بنات المدرسة. ثم منعوني من الخروج.
وبقيت في البيت رغم أنفي كعادة النساء.
كنت أمسح البلاط وأغسل الخروق وفناجين القهوة والجوارب، ثم بدأت أعد وجبات الطعام، ولم يعد ثمة ما تستطيع والدتي أن تفعله في بيتنا سوى أن تذهب إلى مكة المكرمة.
وقد ذهبت إلى هناك وماتت في طريق العودة بضربة شمس. وكانت والدتي لم ترَ الشمس إلا في مكة المكرمة”.
ثم قالت السيدة [ ف. م ] بين يدي الله:
” مولاي أنا تزوجت رغم أنفي كعادة النساء.
جاء نجار من الزقاق وطلب يدي في المربوعة، وقد سمعته يتحدث ورأيته عبر ثقب الباب وكرهته كما يكره المرء قملة. وعندما نام بجانبي ليلة الجمعة وأحرق عيني برائحة قدميه بكيت من الغضب حتى طلع 
الصباح.
ثم مسحت دموعي وطفقت أمسح البلاط وأغسل الخرق والجوارب, والحصران وأعد وجبات الطعام خمس مرات في اليوم. وكان النجار يغرقني بالحب ويتسلق صدري كل ليلة مثل قملة.
وكنت أعرف أن الحب في دكاكين حميد مثل غسيل الحصران مجرد واجب من واجبات الزوجية “.
ثم قالت السيدة [ ف. م ] بين يدي الله:
” وذات يوم يا مولاي فسد العجين في بيتنا واضطررت أن أطل برأسي عبر الباب لكي أبحث عن طفل يحمل خبزنا إلى الفرن، وقد رآني جارنا الخراز ووشى بي عند زوجي فدقّ ضلوعي بعصا المكنسة، ودعاني امرأة عاهرة وربطني بحبل البئر طوال النهار. وعندما ذهبت إلى بيت والدي أعادني إليه في المساء وقال لي إن عصا النجار من الجنة.
وعدت أمسح البلاط وأعد وجبات الأكل وأطارد الصراصير بفردة الحذاء وأغسل الخرق والصحون وأنجب الأطفال وأخيط الأزرار المفصومة وأترك النجار يعضني في عنقي عندما يعتريه الشبق خلال الليل”.
ثم قالت السيدة [ ف. م ] بين يدي الله:
“مولاي، أنا قضيت في دنياك خمسين عاماً من نسخة واحدة.
وعلت وجهي التجاعيد وانحنت ركبتاي في نهاية المطاف، وطفق شعري يتساقط من أثر الرطوبة. وذات يوم وجد زوجي شعرة في صحن العشاء، وضربني بحزامه الجلدي حتى أسال دمائي ثم ربطني في حبل البئر. وعندما ذهبت إلى الطبيب في الصباح ضمد جراحي ورثا لحالي وقال إنني مصابة بالروماتيزم والسل وقليل من السرطان.
ثم متّ رغم أنفي كعادة النساء.
واكترى زوجي فقياً قرأ عند رأسي (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ألف مرة مقابل عشرة 
جنيهات ووضعوا جثتي في قدر من الماء الساخن”.
ثم قالت السيدة [ ف. م ] بين يدي الله:
“مولاي، أنا جئت إلى دكاكين حميد في قدر من الماء الساخن. وخرجت في القدر نفسه دون أن أحمل من دنياك سوى آثار الحزام الجلدي وعصا المكنسة.
مولاي، أنا لم أرَ من دنياك الزرقاء سوى البلاط وصراصير مرحاضنا وفردة الحذاء.
ولم أسمع شيئاً سوى شخير النجار ونهيق بغال العربات والإذاعة الليبية.
مولاي، أنا قضيت في دكاكين حميد خمسين عاماً من نسخة واحدة. ودفنوني بعد ذلك في المقبرة التي تقع على بعد مئة متر من بيتنا, فهل أرسلتني إلى الدنيا لكي أمشي فيها مائة متر داخل نعش؟
وضع الله يده على رأس السيدة [ ف. م ]
وأمطرت السماء بدموع امرأة.
___________________________________________
فـــرسان بــلا مـعركــة – 1 يونيو 1968

مقالات ذات علاقة

ابنـتي وأنـا

عزة المقهور

“برنيه” تدخل “المبروكة” …

فهيمة الشريف

جرح المدائن البعيدة

جمعة بوكليب

اترك تعليق