ميرا خليفة الفزاني
على عظم الكارثة الانسانية والبيئية التي لا يعلم عنها الكثيرون ، ويتجاهلها الاكثر ، فتحت الاعين على ملف كان يتردد على مسامعنا ، لكن البعض لا يدرك حجم الكارثة .
هنا نجد صراخ صامت بكل حذافيره ، فمتى نجد وقتا للحديث عنها ، وسحبها من الثقب الاسود لتجاهلها ، ووضعها على طاولة التداول …. للحقيقة تعجز كل الكلمات وتصمت امام المأساة ولا تجد غير اعتصار القلب ألما تعبيرا عنها .
ما نحتاجه هو ايقاد للشعلة ، والحفاظ عليها متقدة باستمرار ، فاليد الواحدة تتعب من حملها ، والحنجرة الوحيدة ستبح ان داومت على الصراخ .. البحث عن تجدد الدماء في تلك المنظمات حتى لا تصاب بالتعب ، والإنهاك ، والملل ، وتبقى تهابش لتطلق صرختها ببيان للذكرى فقط .
لعل المنادي يجد أذن تسمع ، وقلب يعي ، أغلب الاسماء التي تسكن خاصرة الصحراء لا أجدها غريبة عني ، فطالما وجدتها في سحر تانيس وهسيس رحيل الرمال عبر الرياح في دروب الصحراء ، ولم يخطر ببالي انهم يغتالون حتى حبات الرمال ببلادي ويشنقونها حتى الموت ، ويغدرون بألوانها الساحرة ظهر الكوكب ومركز الاشعاع .
لعل قلوبنا تعي ونطرح ما تراكمت عليه اغبرة الاهمال والتناسي للحديث والافعال .
في ركن ما ، بزمن سابق قرأت عن هذه التجربة لكن لم اجد توابع اجرائها ، او لنكن صادقين مع انفسنا اولا ، لم نتابع استفحالها وفداحة الجرم فيها ظنا منا ببعد المسافة والزمن ، لم نكن نعتقد انها اقرب إلينا من حبل الوريد .. نحتاج لهز ذاكرتنا لتساقط ما علق بها من ادران الاهمال والتجاهل .
لعلنا نجد القلب الذي يعي ، والاذن التي تطرق السمع ، لكن الحرب على العصيان ، يشغل ويشتت الهمم .
اضاءة جانب كان مجهولا .. لعلي ساتناوله من جهتي ، واحفز غيري للعمل به ، فقضيتنا واحدة ، هي الوطن ، والانسان ، وحب ذرات الصحراء ، وان كانت لاتعرفني ، ولم يحصل لي للتعرف عليها الا من خلال أهلها .. اهل الطيبة والهدوء البسام .. والاساطير التي تاخذنا .. الامل باق .
على مر التاريخ الاستعماري سواء بافريقيا القارة التي يهملها اهلها ، او اسيا القارة التي يتصارع اهلها دائما ، فرض السيطرة والامتداد الطاغوطي ، سواء بالسلاح ، او الشركات المتعددة الجنسيات ، دائما يكون من القارة العجوز التي تحاول ان تبعث في جسدها الحياة ، بامتصاص دماء وثروات قارتنا السمراء .
بين سرقة الثروات ، نجد تنامي القواعد التي تجعل من مهابطها طريقا جويا لنقل ما تنهبه .. وتجعل رحلة المهاجر الغير شرعي تعيسة لا بعد حد .. سيناريو يشعرني انها فترة اختبار ، لكي لا يصل لاحضان القارة العجوز الا القوي المعافاة ، وكأنها تجعلهم يمرون من خلال مصفاة ، يدفعون اعمارهم ثمنا للمرور .
دائما فرنسا هي العابث الاكبر ، ولا نقول انها اصابع اتهام فقط ، بل الامر أثر وضحايا … الغريب انهم يوهموننا بترسيم الحدود ، ولكنها لعبتهم المفضلة ، لإيقاعنا في سرابها والتخلي عن الجار وإسقاط حقوقنا المتمازجة … سواء برابط الارض او الدين او اللغة او الدم .
من ستينيات القرن الماضي يتنامى وجع بمساحة امتداد رمالنا الطيبة التي تتمسح على حدود الطرق ، وهي تحمل بأذيالها اوجاع ، ولا تعرف منها فكاكا… فالسيزيوم يلعب لعبتة المتقنة ، ويسرق صحة طيبة اهل فزان ويفجعنا بسرقة بسماتهم ، ويكسر امزاد يوم اعلان الافراح هناك.
معاناة لا يلتفت لها أحد ، وكأن الامر لا يهمنا ، ولا يرتبط بمكان ، ولا زمان ، فنحن نعيش ونبلع حد السكين ، وان كنا لا ندري .
هناك حيث التمور اللذيذة والمغموسة بطيبة اهلها ، والمغروسة بقلب فزان بكل اطرافه ، فمن حدود القلب إلى القلب ، يتوجع البعض ، والبعض الآخر يموت لوجعهم .
اعتذر فحديثي من منطلق محاولة للتخفيف على عقلي الذي ينازع ليدرك حجم المأساة ، وليس تقليلا – معاذ الله – من حجم معاناة الوطن ، والمواطن ، والتأريخ وذرات الرمال ، تلك التي احاول منذ زمن ان ألاحقها في كتابات الكوني ، والاوجلي ، والامام … والسيد عابد مؤخرا .
ليبيا تتقاضمها فرنسا من جميع الجهات ، لكن الاوجع هو القضم الخفى السارق لأرواحهم دون علمنا ، فلا يتوجع لفقدهم قلب ، ولايشعر بأنينهم وزر ، ذاك هو الوجع الاكبر الساري بالجسد . ورم خفى ينهب حبات قلوب الامهات ويجبرهن على السكوت ، بل وإخفاض العيون المليئة بسيل الدموع والانين بصمت. ” رقان ” الوجع .
أيمكن ان نسند الرأس ونملأ محاجر العيون دما ودمعا ، لنستوعب هذه الاوجاع التي تتوالد وتتناسل بين الاضلاع ، وفي حنايا العقل ، ونصحو يوميا مستغربين لما كل هذا الهم المثقل الجاثم على انفاسنا ، وملف ضخم يجثم على قلوبنا يمتد لصحراء تختلط فيه اسوار الجيران ، وتتشارك حبات الرمال ، ولازلنا نتجاهله!!!
فالسبيل واحد وان تعددت الوجوه ، رمالنا وبسمات جنوبنا لاتقل اهمية عن بحرنا واخضرار ساحلنا .
قصة طويلة وغامقة تمتد من 1960 ، اذهبت ارواح ، وغيبت احباب اخرين ، واجبرت البعض على الرحيل … قصة بقدر بشاعتها توطن ارتباط الجيران وتجعل الجنوب يغوص باعماقنا اكثر ، فطيبة الاهل هناك ، وتكاثر اوجاعهم رغم مشاركتهم لنا لبسماتهم الفخورة بانتمائهم لنا ، وبهم وبحبات صحرائنا قصة تدخل فرنسا وقتلنا .
يجب أن ننظم ملفات شكوانا ، ونتعلمها جيدا ، ونحفظ لكل ذي حق حقه في عرض شكواه ، وتمازج معارفنا ، ووقوفنا بصفهم فهم اصحابها ، ومن وقع عليهم الضرر … ويجب ان نفهم انه تضمنا ارض واحدة ، وان تناثرت المسافات ، وسبحت بيننا اسماك الصحراء.
تدخلهم واجرامهم ممتد في اجساد اهلنا ، وسبب لهم كوارث ، نحن لم نسمع بشكواهم قبلا… وتجاهلتها فرنسا لعقود من الزمن ، نحتاج لتسوية بحجم المأساة التي تسببت بها .