المقالة

شهادة الفاروق في شعر النابغة

من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي
من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي

خرج عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وببابه وفد غطفان، فقال: أي شعرائكم الذي يقول:

حلفتُ، فلم أتركُ لنَفسِكَ ريبةً … وليسَ وَراءَ اللَّهِ للمَرءِ مَذهبُ
لَئِن كُنَتَ قد بُلّغتَ عنّي سعايةً … لمُبلِغُكَ الواشي أغشُّ وأكذَبُ
ولَستَ بمُستَبقٍ أخاً لا تَلُمّهُ … على شَعَثٍ، أيّ الرّجالِ المُهَذَّبُ.

قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين

قال: فمن القائل:

اخَطاطيفُ حُجْنٌ في حِبالٍ مَتينَةٍ، … تَمُدُّ بها أيدٍ إلَيكَ نَوازِعُ.
فإنّكَ كاللّيلِ الذي هوَ مُدْرِكي، … وإن خَلْتَ أنّ المُنتأى عنكَ واسعُ.

قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين، قال: فمن القائل:

إلى ابنِ مُحَرِّقٍ أعمَلتُ نَفسي … وراحلَتي، وقد هدأتْ عُيونُ
فألفَيتُ الأمانَةَ لم يَخُنْها … كذلكَ كانَ نُوحٌ لا يَخُونُ
أتَيتُكَ عارِياً خَلَقِاً ثِيابي … على خَوفٍ تُظَنّ بيَ الظّنونُ؟

قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين! قال: فمن القائل:

إلاَّ سُلَيْمَانَ، إذْ قال المَليكُ له: … قُم في البَرِيَّةِ فاحْدُدْها عن الفَنَدِ.

قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين! قال: هو أشعر شعرائكم.

هو أشعرُ شعرائكم.

هذا ما قاله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن اقتطف من بستان الشعرِ أطيب الأبيات، مثالٌ وشاهدٌ واضح نستقي منه العبر وقواعد النقد الأدبي فلا عجلة في الحكم على الأعمال إلا بالنظر إلى الصورة الكاملة والتقييم النسبي فأخذ بعضاً من أجمل الأبيات الشعرية واكثرها تعبيرا واتزاناً فسأل من قائلها فأجاب من استمع للأبيات في كل مرة بأنها للنابغة أعاد الكرة للمرة الثانية والثالثة والرابعة فأجابوا أنها لنفس الشاعر.

فعندها قال الفاروق هو أشعرُ شعرائكم.

وهنا ليس غريبا أن يعطي الفاروق هذه الشهادة للنابغة والذي عرف كثيرا بعفة شعره فورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ارووا من الشعر أعفه، ومن الحديث أحسنه، ومن النسب ما تواصلون عليه، وتعرفون به. فرب رحمٍ مجهولةٍ قد عرفت فوصلت، ومحاسن الشعر تدل على مكارم الأخلاق وتنهى عن مساويها.


المصدر: [أبو زيد القرشي، جمهرة أشعار العرب]

مقالات ذات علاقة

ميول ديستويفسكيّة

ميسون صالح

مُدَوَّناتُ ما قَبْلَ التَّارِيخ

يوسف القويري

خشية الإغراق في النسيان

محمد دربي

اترك تعليق