محمد نجيب عبدالكافي
رحلاتي عبر ليبيا – جبال أكاكوس
أعود إلى حيث أنهيت الحديث السابق لأذكر أننا كنّا تحت جبال أكاكوس جنوب غربي البلاد، في مكان يسمّى تادرارت بلسان أهل المنطقة، أقرب نقطة لنا، آهلة حقا، هي مدينة غات. تادرارت تعني “جبل” وهي غنية ثرية بالرّسومات التي تعود إلى اثني عشر ألف سنة قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وكثير من علماء الآثار يعتقدون أنها تعود إلى ما بين 12 ألفا و300 قبل الميلاد. أيا يكون تاريخها، فهي سجل تاريخي لا يزال يحتاج إلى من يتصفحه ليستخرج منه ما لا يزال مجهولا من مسيرة وحياة المنطقة وما كانت عليه حضاريا وزراعيا – أي اقتصاديا – واجتماعيا. كنت، والشمس لم تبزغ بعد، أستعيد ما سبقت لي قراءته عن الرسومات الصخرية عامة وإذا بالشيخ حمدان يناديني بصباح الخير، وما أن وقفت قربه حتى أخذ بيدي مشيرا بالسرعة، فسرت معه بل هرولت لأن خطاه كانت طويلة وسريعة. صعدنا ودرنا فنزلنا لنصعد من جديد، ثمّ أخذنا في النزول إلى أن بلغنا سفح إحدى تلك الهضاب فتوقف وسألني إن لاحظت شيئا. جوابي نافيا جعله يبتسم ويقول: ومع هذا فأنت أمام كهف، وقبل أن أفوه بكلمة، انعطف قليلا وانحنى فرأيت فوهة الكهف التي تفرض الركوع كي يدخله من أراد. أردنا فدخلنا، ويا لجمال ما رأيت! حيوانات ومشاهد صيد وغيرها تلمع ألوانها كأنها رسمت حينها. خرجنا وأخذنا طريق العودة، غير الذي أتينا منه، فهذا أقصر وأسهل ولا صعود فيه إلا بالقرب من الكهف. لاحظ الشيخ سروري، فأكد لي أنه لم يفش بسر الكهف لأحد وشكرني على مرافقة الفريق، مقترحا وجوب فرض مثل رفقتي على كل من يأتي في مهمة يحث أو دراسة، لأن ذلك أضمن من عدة أوجه، حسب رأيه، ورجاني في ختام حديثه إبلاغ المسؤولين اقتراحه، إن كان بإمكاني ذلك، فوعدته ووفيت بوعدي. لا حاجة لوصف سعادة رئيس الفريق وما بذله ومساعده من تفسيرات وتعليقات بعد دقيق المشاهدات والدراسات وعديد الصور.
– غات
ثلاثة أيام والأعمال الدراسية متواصلة، والنفوس في غاية الرضا والانشراح .شددنا الرّحال بعدها فقطعنا المرحلة الأخيرة لندخل درة ضائعة في الصحراء اسمها غات. دخلناها بسلام وأنزلنا المسؤولون بمسكن الحاكم الإيطالي أيام الاحتلال، فاسترحنا وأزلنا الغبار وما تبعه وخرجنا نكتشف ونتعلم. عيّن لنا مسؤول الأمن بالمنطقة مرافقا من التوارق البارزين – كان ما يعادل شيخ القبيلة – فكان معنا مثال الأدب وسمو الأخلاق. انشرحت له وبادلني المشاعر، فزادني اطلاعا على حياة التوارق ونظامهم الاجتماعي. لكن الأأكثر فائدة هو تلقيني بعض الكلمات من اللسان التارقي مثل: متّى حاليك – تاصبيح – وخير منه تعليمي حروف أبجدية اللغة أي التافيناغ، عالم آخر مليئ جمالا وتاريخا وثقافة، نجهلها ويا للأسف، فحبذا لو نظمت رحلات للشباب الليبي، خاصة طلاب المدارس والجامعات، حتى يطلعوا على ما يحويه وطنهم من ثروات بشرية وطبيعية وثقافية، فيزدادون معرفة ويقوى اعتزازهم بتربتهم وجذورهم فيأخذون مكانهم المستحق بين الشعوب. غرائب كثيرة اكتشفناها، وعادات وتصرفات أخرى عرفناها، ونماذج جديدة لمسناها من النبل المتواضع والكرم “الفقير”، والشهامة الملثمة، والكثير الكثير الذي يستحق أن يعرف ويحترم. قبل أن نغادر أطلعونا على حرس الحدود. ظنناه يستعمل سيارات الصحراء فإذا به على متن “سفينة الصحراء” جمل المهاري الجميل الشهير، يسطف ويسير، في انضباط كراكبه شرطي الحدود.
رحلة لا تزال ذكراها راسخة بالذاكرة، وفوائدها أثرت معلوماتي وثقافتي الطبيعية والبشرية فالحمد لله.
بالذاكرة المزيد من الارتسامات فلي عودة إن طال العمر.