عبدالرحمن شلقم
الليبيات اللاتي عشْن في خمسينات وستينات القرن الماضي، كان لهنّ إمام اجتماعي وثقافي نادر، فتح لهن أبواباً جديدة لدنيا جديدة، عبر برامج اجتماعية إذاعية متواصلة… خديجة الجهمي، الأستاذة التي تعلمت في المدارس الليبية المصرية، وعادت إلى ليبيا، وأطلقت ثورة اجتماعية هادئة. طرحت قضايا مركزة على التحولات، التي شهدها المجتمع الليبي بعد التوسع في مشروع التعليم ودخول البنت الليبية مجال العمل، وتغير التركيبة الاجتماعية، من حياة الريف إلى الحياة الحضرية. السيدة خديجة الجهمي – رحمها الله – كانت عقلاً تنويرياً فريداً، امتلك الجرأة والقدرة لطرح قضايا كان الجميع يتهيب الاقتراب منها بسبب الموروث القديم.
تعددت مساهماتها العبقرية في الإذاعة والصحافة، في الأغنية والمقالة. اقتحمت البيوت متحدثة عن العلاقات الزوجية وتربية الطفل في عالم جديد، مركزة على ضرورة مراجعة نسق العلاقة بين الزوج وزوجته والأب وأولاده، وخاصة البنات، وكذلك التعايش بين الجيران، وقبل كل ذلك ضرورة التحاق المرأة بكل مجالات التعليم. واجهت الجهمي حرباً ضروساً من التيارات المحافظة، وشنّت عليها حملات باسم الدين والقيم الاجتماعية الموروثة. من النوادر التي سمعتها حولها، أن أحدهم نصح جاره بإدخال ابنته إلى المدرسة، ردّ الأب قائلاً؛ لم يبق إلا أن أشتري لها جهاز راديو كي تستمع إلى خديجة الجهمي.
كانت تكرر جملةً تقول؛ إن الحضارة قادمة لكم فاستعدوا لها، إما أن تستوعبوها، وإما ترتبك حياتكم كلها، ولا خيار لكم في ذلك. تصرّ على مراجعة كل شيء في الحياة؛ من نمط الأكل والملابس وأساليب الحديث والعلاقة بين الجيران والإفراط في تكاليف الزواج والمهر الباهظ. دخلت جميع المناطق الاجتماعية المسكوت عنها.
استطاعت تحريك البحيرة الساكنة بجرأة، لا تتهيب الهجوم العنيف والمتواصل، ومع الأيام شكّلت جبهة رأي عام نهضوي، شمل كل مناطق ليبيا. امتازت بلغة جذابة شدّت الجميع، جمعت بين لهجة الشرق الليبي الممتعة، التي تمتزج فيها الحكمة و«القفشة»، ولهجة الغرب الليبي الخفيفة الهادئة. أبدعت لغة إذاعية خاصة بها، أو لنقل لهجة ثالثة تصل إلى الجميع من الأمي إلى المتعلم، المرأة والرجل. كان الجميع ينتظر حديثها الشيق، لغة وموضوعاً.
القضايا جديدة وجريئة، وكذلك اللغة. «هدرزة» ليبية، أي «دردشة»، وكأنها في جلسة عائلية خاصة، تقوم بدور العجوز الحكيمة، دون أن تقع في وهم المعلم، الذي يملي دروساً أو الحكيم الذي يمتلك الحقائق.
ليبيا لم تعرف كوكبة النخبة عبر تاريخها إلا بقدر متواضع جداً، حتى الوسط الرجالي، فالتعليم غائب طيلة العهد التركي إلا في كتاتيب دينية قليلة، وفي عهد الاستعمار الإيطالي غاب التعليم في أغلب المناطق. الصحف قليلة، وفي طرابلس وبنغازي فقط، محدودة الطبع والتوزيع. كيف لبنت وُلدت في طين الاستعمار الإيطالي أن تذهب إلى المدرسة، وتنفتح على رحاب الفكر والثقافة، وتندمج في وسائل الإعلام، وقبل ذلك، يكون لها صوت مفعم بالرأي، ولها مشروع تنموي وإصلاحي اجتماعي؟!
ولدت خديجة الجهمي في بنغازي إبان العهد الاستعماري الإيطالي.
المكان له تداخل خاص مع الزمان. مدينة بنغازي لها كيان وتكوين فريد. إذا أردت أن تتعرف على كل ليبيا بجميع موروثها الاجتماعي ومزاجها المركب وفنها وكيمياء حياتها الأفقية والعمودية، اذهب إلى هذه المدينة التي تحتضن التقاليد القديمة، وتلك التي يبدعها الناس بلا توقف، وينسجون نمطاً فريداً من التواصل، حيث تتحول المقاهي إلى نوادٍ تشتعل بها حلقات نقاش لا يغيب فيها شيء من الماضي أو الحاضر. هناك السياسة والشعر والأدب والنكات و«القفشات». شخصيات لها طبوغرافية إنسانية خاصة، تحولت إلى معالم في حياة المدينة وتكوين مزاجها. أسماء لا ترحل من وجود الأرض والناس، وإن غادرت أجسادها سطح الدنيا. الألقاب التي يحملها كثير من الأفراد ترسم الخريطة الليبية الاجتماعية، بل التاريخية والثقافية… المدينة المربد، شعراء الفصحى، الشعر الشعبي، الكُتاب والأدباء والتمثيل المسرحي والأغاني التي ينساب فيها الإيقاع الليبي من كل أنحاء البلاد. مجتمع كامل بكل تلويناته في مدينة واحدة. المزاج الهادئ جداً والناعم بلا حدود، يصرخ ويبتسم ويقهقه في ذات الوقت.
خديجة الجهمي حياة للحياة سيدة صنعها مخاض ليبي عجيب لا يتكرر. كان نسيج عقلها وقلبها من خيوط ليبيا، التي سرت في حلقات الحياة، التي صنعها الاستعمار الإيطالي الرهيب. والهجرة والفقر ومعركة الحياة الطاحنة، كانت التربة التي احتضنت البذرة وأورقت خديجة. عاشت في أكثر من مكان وعصر. في كتابه «سيرة بن غازي» أفرد الكاتب الليبي أحمد الفيتوري صفحات، رسم فيها «بورتريه» لخديجة الجهمي. سار معها منذ بداياتها، ورافق تنقلاتها في العائلة، وعبر الحدود ووقف عند محطات أساسية ساهمت في تكوين شخصيتها وكتابة سطور عقلها وكيف جعلت منها أثقال تجربة الحياة عقلاً فصيحاً يدخل بيوت الليبيين ضيفاً ينتظره الجميع في وقت كان فيه الراديو أداة التواصل وصوت المعجزة التي لا يصدّها حائل.
يكتب الفيتوري في «سيرة بني غازي» عن الجهمي؛ ولدت من امرأة أمة أو جارية في بنغازي سنة 1921 من أب ولد يتيماً بعد أن ضاع والده في الصحراء. ويضيف؛ هكذا وجدت، واجتمع فيها الوحيدان، أم أمة سليلة العبودية وأب يتيم سليل الفقد. دخلت خديجة المدارس الإيطالية ببنغازي وتعلمت العربية أيضاً، سكنت في بيت متواضع، قررت أن تبحث عن أبيها الذي هاجر إلى الإسكندرية وعمل في مطبعة إحدى الصحف المصرية. التقت به بعد وعثاء سفر من بلد يحتله الإيطاليون إلى آخر تحت هيمنة البريطانيين. هناك التقت بعدد من الأدباء والشعراء، بينهم بيرم التونسي، تعلمت فن الحياكة. عادت إلى بنغازي شابة يافعة، وعاشت ما تعانيه البنات من دونية اجتماعية لا ترحم. يورد الكاتب خرائط الحياة العامة في المدينة التي يختلط فيها الإيطاليون واليهود والعرب في الأفراح والأتراح والمدارس والأسواق.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهزيمة الإيطاليين، وخروجهم من ليبيا، عاد كثير من رجالها إلى البلاد، لكن والد خديجة لم يعد، واستمر بقاؤه بالإسكندرية. نُقل عنه: «ليش نروح؟ على شان بنتين زرق، ما عادش نبي بنغازي». تقول خديجة: «فزعت بعد وقع هذه الكلمات في أذني، وكتبت له شعراً…
شور والدي ما هوش كيف العاده – لا يريد حوشه ولا يريد بلاده – ما هوش كيف الماضي – هللي مدللني وساد أغراضي – زعم يا عرب حرجان ولا راضي – اللي خاطري عنده طريح وساده».
من لوعة غياب الأب، ولدت الشاعرة خديجة، التي ستقدم للبلاد عشرات الأغاني تحت اسم «بنت الوطن». بعد عودتها من مصر مع والدها، عُرضت عليها وظيفة مذيعة، ترددت، لأن المجتمع يرفض مثل هذا العمل، ولكنها قبلت في النهاية، وقدمت برنامجاً إذاعياً تحت اسم «أضواء على المجتمع» استمرّ مدة 18 عاماً.
كانت خديجة الجهمي كتلة نخبة كاملة، أرادت أن تعيد تأهيل المرأة الليبية، تخرجها من البيت إلى المدرسة والعمل، أن تساهم في شحن المرأة بالثقة الذاتية، ألا تكون رقماً خاضعاً بل تابعاً، أسست أكثر من مجلة للمرأة والطفل، ونادياً نموذجياً للأطفال، بعد انتقالها إلى طرابلس. حققت نجاحاً لم يقترب منه غيرها من حشد النخبة، التي ظلت تخاطب ذاتها، بلغة لا يفهمها العامة، ولا تجذب البسطاء والأميين.