المهدي جاتو
في كل يوم، يحمل حقيبته ويتجه إلى المدرسة، المدرسة ليست بعيدة لكن العلوم التي يدرسها هي البعيدة، كان يشاهد نفس الوجوه، في البيت، في الشارع، وفي المدرسة، حتى أيام الأسبوع كانت تتكرر والجدول الدراسي، وسياط الجلاد أيضا تتكرر، فما يبدأه الأب في البيت يكمله المعلم في الفصل، بسبب أو بدون سبب، والغريب في الأمر يبدو كل شيء طبيعي لكنه ليس طبيعياً ! للسياط على جسده الطري صوت، لكن العين لا تذرف بالدمع، فالعار كل العار أن يُفْتحُ الفم، أن يتكلم الفم، أن يبكي كما تبكي النساء، هذا ما قرأه في وصية الألم، ووجد أيضا بأن الألم الفظيع رديف اللعنة، لذلك يلاحق الروح كي يلحق بالجرم أقصى أنواع العقوبة. قطع شوط في طريقه إلى المدرسة وحيداً وهو يحمل أوزار الكتب على ظهره، وأحمال الهموم في صدره وهو يتساءل في كل لحظة عن سر الأيام التي لا تجلب له سوى الآلام، هنا تذكر همسات الأم في أذنه (( أكنز الذهب بالصمت وإياك أن تكنز الفضة بالكلام )) ابتسم وهو يعبر الطريق ويلوح بيده إلى زميله من بعيد رداً لتحية، ظلت الابتسامة المبهمة الحائرة عالقة، وهو يحللُ في ذهنه الوصية، فقال في نفسه وأين هو الكلام ؟ لقد تم مصادرة كل شيء، الكلام، والحرية، والزمن، أجل حتى الزمن أصبح ليس ملكه، بحثَ في ذاكرته عن أملاكه فلم يجد سوى الهواء.
ظلت عقارب الساعة تدور، لكنها في كل ثانية تسخر من الجسد الملدوغ بالسياط. اشتكى للأم فليس له سوى صدر الأم ليضع فيه همومه وما اعتراه من علّ لكن دون جدوى، فكلما بكت الأم ازداد إحساس الأب بالرجولة، والمدرس يكمل رسالة الأب.
وصل إلى صفوف العلم وأخذ مقعده كالعادة في كل يوم من الأيام الرتيبة المملة، أخرج من الحقيبة الكتاب أو بالأصح العدو الذي بسببه يتم إِلآمه من قبل الإرهابيين. فالكتاب أصبح له عدو، وفي الحِكم وجده خير جليس وخير صديق، انتهى اليوم الدراسي كمثله من بقية الأيام، عاد إلى البيت إلى السجن الرهيب، وجد إخوته متكورين من الخوف، ومارد الأحزان والآلام يقهقه عالياً، والأب يمسك بأداة الجريمة كالعادة، فنادى في نفسه بحدة بئساً لتلك التربية و بئساً لهذه الحياة التي تجعل الوردة والنسمة والبسمة حلم جميل تطمسه النقمة.
انضم إلى إخوته وكل منهم يحمل عدوه في يده ويقاتله في صمت، تأمل في جدران السجن ملياً، فوجد تساؤلات مكتوبة بخط اليد ((ما معنى الشمس..؟! ما معنى القمر..؟! ما معنى النجوم.. ؟! )) تطلّع في عيون إخوته بنظرة خاطفة، فقرأ فيهم الخوف وهو يكتب الآية (( بأي ذنب قتلت )).
مضت السنون أعواماً وأعواماً، تغيرت الشخوص لكن الألم ظل هو الألم لم يتغير.