فيما نحن، هنا في قناة الوسط، نعد لفيلم يتناول حياة الراحل خليفة الفاخري، وبينما نجمع أوراقه ونصنفها، انتبهت إلى أن هناك رأيا للفاخري قد يؤسس لدراسة عن شاعر العراق الكبير الراحل عبد الوهاب البياتي. هذا الرأي عبارة عن تقديم الفاخري للشاعر، في تلك الأمسية التي أعدها وأشرف عليها وقدمها لخليط من عرب ودنماركيين مهتمين بالشعر العربي، في كوبنهاجن يوم 13/ 5/ 1987. لقد ترجمت بعد تلك الأمسية عدد من دواوين البياتي.
هذه الرأي، بالإضافة إلى تحليله لعدد من قصائد البياتي، يبرز بشكل واضح اتفاق الشاعر والأديب على قناعتهما واهتمامها بالإنسان أينما كان. ولأن هذا الرأي، وبحسب علمي أنه لم ينشر كاملا، رأيت أن أقدمه لكم في جزئين، ولا أسقط منه سوى كلمات الترحيب بالضيوف أثناء التقديم
فمن بعد شكره لعدد من الأساتذة والمترجمين الدنماركيين، وترحيبه بالحاضرين، قال عن ذلك اللقاء: أنه “يثبت – من جديد- أن أي عمل إنساني فني يستطيع أن يربط الإنسان بأخيه الإنسان في أي مكان من عالمنا هذا المترامي الأبعاد” وتلك هي رؤية الفاخري الشمولية للإنسان.
قال الفاخري في كلمته:
“.. لكي أقدم لكم الأستاذ عب الوهاب البياتي، لا أزمع – في هذه العجالة – أن أحكي لكم عن إمكانياته الفنية، وسنوات التكوين، ومدى ما حققه في تطوير الشعر العربي، والمفاهيم العربية المختلفة الشمول، ولكنني أودُ – بإيجاز- أن أتعرض لعنصرين مُهمين للغاية في شعره وحياته اللذين- في الواقع- يشكلان عنصرا واحدا غير قابل للتجزئة.
هذان العنصران: الحب والثورة.
يتخذ الحبُ لدى البياتي، أبداً، أبعاداً شمولية مستمدةً من الكون بأسره. ويكبر هذا الحب لديه.. ويكبر باتساع السماء حين قُدر لإمكانياته الإبداعية والفكرية والعاطفية أن تسمو إلى المدى الذي أُهل له. . إلى الدور الذي كان بانتظاره. أعني أن يكون في زماننا هذا: الشاهد والمتهم والقاضي.
لقد كبر الحبُ بحيث أصبح المعشوق لديه مدينة، فوطنا، فشعبا، فعالما، فكونا متكاملا بما فيه من حياة وموت وبعث! فهو (لجوهر الحب الذي يكمن في العذاب والإبداع) يفني ذاته في تفجير طاقاته مثل الأنهار التي تنتهي غربتها في مقبرة البحر، تاركة على طول ضفافها عالما من الحقول والمراعي والغابات. يقول البياتي:
( متيم قلبي بكل شيء
بجسد الوردة، باللحم الطري الحي
بالموت، والبحر وروح الليل
ومعجزات الفجر ).
إن هذا الحب – إلى حد الوله – هو الذي يجعلُ الانسانَ مقدسا لديه، هو الذي يدعه يشعرُ بأن الأرض تتنفس تحت قدميه، ثم يدفعه بالتالي إلى رحيل أبدي مسعور بحثا عن (عشتار) والبطل الأسطورة، والمدينة الفاضلة في النفس والملكوت. وذلك ما يجعل البياتي يحدث نفسه:
( أحس بالعصارةِ الحيّة تسرى في عروق الأرض
وبالظلامِ الحي
ينبض في نواةِ كل شيء
وبالحضارات التي تقوضت واستسلمت للموتْ
وبالربيع غارقاً بالصمتْ
وبالوحول – في انتظار الشمسْ)
إن الالتحام بالعالم كان من شأن الرواد الصوفيين على الدوام، لكنما البياتي، عبر رحلة الأزمان والدهور على جياد اللهب، والعودة إلى رحم الأرض، والانبثاق من جديد، والاغتسال في ضوء الشمس، والتفاعل مع نبض عروق أمنا الأرض، ومعانقة الحياة في التطلع إلى عيني طفلٍ باسمتين، والعيش في خيام اللاجئين تحت المطر والغارات، وعذابات النفي والرحيل، والموت والبعث من جديد.
إن البياتي – المحب الأعظم – هو الذي يشعرُ ويدركُ على نحو اليقين، أنه قطرةُ في هذا النهر الكبير الصاخب، وأنه لا يستطيع الانفصال عنه، ولا يريدُ ذلك، بل لا يتبادر هذا إلى ذهنه على الإطلاق، إذ إنه يقول:
(توحّدَ الواحدُ في الكلِ
والظّلُ في الظلِ
وولِدَ العالمُ من بعدي ومن قبلي).
إن هذا التلاحم، التلاحم، هذا الحب الجامَحَ المشرئب أبداً الكامن مثل النار في كل الأشياءِ، الحامل على كتفيه كل الحضارات والأزمنة السابقة واللاحقة، العالق في أهدابِ عيني لاجيءٍ مشرد مثل دمعتين متخمتين دافئتين، المزمجر في بركان صدر إنسان مناضل، المتعاطف بحزن جليل متكابر مع الأخوة الشهداء في كل مكان، الراحل في قطارات الليل عبر الجليد بحثاً عن شمس الله التي ستُشرقُ في كل العيون عن نبع الحياة الرابض في وجه الخيانات، وبيع كرامة الإنسان الخالق من الموت نشوراً.
– بقية الكلام في العدد القادم –