هذه الأغنية من إنتاج منتصف الثمانينيات من القرن الفائت، تبدأ بإيقاع هو أقرب في وقعه إلى صوت سنابك أحصنة تجر خلفها عربة، وسرعان ما يمتزج بصوت رنين أقراص الدف الذي يلاحقه الناي في رحلة مغرية نحو طرب غير مجهول بالنسبة لي، لاسيما أن اللحن من صنع الفنان أحمد فكرون، وشيئا فشيئا تلتحم وتنصهر معهما وخزات ناعمة من آلة القانون والكمان اللذين لا يملكان سوى مرافقتهما، لتصنع هذه الآلات معاً موسيقى هادئة مؤذنة بتصاعد وتيرة حركة العربة في الشاشة الإلكترونية لتماوج النغمات، ثم يبرز صوت أحمد فكرون عاطفيا في مقدمة العمل، وهو يلالي:
ف الليلة ياللي عشقك نجمات
واحنا سهرتنا أحلى السهرات
في الكوبليه الثاني يفرد الملحن مساحة واسعة لآلة القانون في هذا العمل المحبك ليسنّ به قانوناً موسيقياً، يقول بأن ثمة أعمالاً يصعب تصنيفها على الموسيقى الشرقية والغربية، فكلا المذهبين يود أن تكون هذه الأغنية الابنة الشرعية له، غير أنه من المؤكد هو انتفاء السبق لأحد من الفنانين إلى قالبه الموسيقي البديع هذا، سواء على الساحة العربية أو العالمية.
هو حوار فني قائم ومتناغم بين الآلات، يود المطرب من خلاله تصوير هذه الحالة الشعرية:
حبك عديت بحوره عشقني فيك
وانتي أحلى م الصورة يا فرحي بيك
بم يفرح أحمد فكرون في مضمون هذا العمل؟ بل هذا لعمري أمر محير، فآلاته الموسيقية تتراقص على أنغام بعضها البعض ويخفت صوتها كلما تصاعد صوت إحداها حتى إن كل واحدة منها تخفض جناحها لحروف الثانية متى تألمت، وبوسع المستمع أن يلاحظ بأذنه ذلك عند الدقيقة 2:10 لما يعطف الكمان أو هو التشيلو على ألم أوتار القانون ويواسيها ويسقيه من ماء الحب لكثرة ما تألم.
وكتبت ف عشقك احلى الكلمات
تغنت أوتاري ردن نايات
النظرة الوحدة مشوار طويل
والكلمة الوحدة ثلاث حكايات
ومثلما تتصاعد الآلات، ترتفع معها أيضا عقيرة المطرب إلى منتهى سلم الطبقة الصوتية دونما نشاز بل بصوت متماسك لا يخلو من العاطفة الأولى، فهو من يحس بهذه النغمات لأنها الجامع لهذه الآلات وقد تغنت أوتاره بها كما يقول في الكوبليه السابق.
بعد هذا يطلق الملحن العنان لآلاته في مساحة واسعة لتعبر موسيقاه عما تريد وليقدم جملا موسيقية اسمية وتسمي اسم مضمون العمل وتعلن عنه فهو يغني لبلاده، كما ينضدها بجمل فعلية تفعل فعلها في إحساس المتلقي:
ورحلت ف حبك كل الرحلات
لبحور العشقى ومرسى الآهات
ياللي ف عيونك رحلة مشوار
توصلني دروبها لبلد البسمات
وهنا يحين الآوان لتنتهي رحلة هذه الأغنية على هذه العربة المتمهلة من مربضها الأول والمتصاعدة لكن ليس بتدوير مفتاحها وإنما بإيعازات عالية من صوته الذي تنصاع له كل الآلات المتزاحمة، بتكراره:
حبك عديت بحوره عشقني فيك
وانت أحلى م الصورة يا فرحي بيك
والدليل على انصياعها هو أن إيعازه يبدأ مدوياً وفي كل مرة ينخفض بنبرة مختلفة ومتفاوتة.
هذه الأغنية الساحرة، تعد قالباً موسيقيا وغنائيا جديدا، لم تألفها المسامع، وأذكر ذات مرة بأنني سألت الفنان أحمد فكرون وأنا موقن بالإجابة “ألم تضع لحن هذه الأغنية أولا ثم طلبت إلى الشاعر نبيل الجهمي أن يصوغ عليه الكلمات؟” فأجابني مثبتا “بلى” وهذا هو ديدن فكرون إذ دائما ما نجده يبحث على قوالب موسيقية جديدة، فهذه الأغنية لا يمكن نسبها إلى أي لون قديم قد سبقها، ولا أظنُّ بأن هناك من عمل عليها واستفاد منها فيما بعد، هذا ما خلصت إليه بعد ان استمعت إليها ألف وألف مرة، فقد رافقتني طويلا.
يا فرحي بيك.. أغنية من زمن قادم، لا شرقية ولا غرببة
يا فرحي بيك.. أغنية وطنية بأحاسيس عاطفية.
____________________