طيوب النص

ثلاث أغنيات من ليبيا

علي عمر التكبالي

.

أغنية من الشرق

“أونيس ولد الحاج عوض العقوري” صبي يطير فوق سطح الأرض.. نحيف كهريرة، خفيف كعصفور، مرح كأرنب… لا يكاد يضع قدمه حتى ترتفع لتحط الأخرى فينساب كملائكة في الفضاء.. تشعّ من عينيه رائحة بنفسجة مسائية، وتنذلق من فمه ضحكة تصافح الشمس التي تأبى إلا أن تحط كل يوم على بيتهم المتكئ فوق ربوة في “البيضاء” النائمة كدمعة فرح فوق خذ الجبل.

كل من في المدينة يعرف “أونيّس” الصغير.. الحاجة زهرة تطلب عونه لرفع شوال الأرز، وعمي إجويدة يرجوه أن ينفخ له عجلة الدراجة، وطفل الجيران ينتظر أن يرجع “أونيّس” كي يلعب معه.. حتى مدرّسة الفصل كانت تحب “أونيّس” وتستعين به في قضاء أعمالها الصغيرة.. كان “أونيّس” أنس الدار، وفرحة الصغار، وتسلية الكبار.

في يوم غائم أرسلته أمه كي يحمل وجبة الطعام المعتادة لعجوز الحي.. أخذ الحمل وركب الهواء يغني مع القبرات للحب والأنسان.. مشى بضع خطوات وهو يصدح كبلبل من الجنة ثم سقط فجأة في الغدير بقعة من الدم الأحمر الفاتح.. لم يستطع دمه صبغ البركة لأنه لم يتكثّف بعد، ولم يكتس بالهيموجلوبين القاني.. مشى بضع خطوات وسقط.. تماما كما تسقط الأرانب التي يرميها المتوحشون بالبنادق… مشى بضع خطوات وسقط لأن قدميه كانتا أخف من الهواء فلم يتحمل الدفعة الثقيلة التي هصرت فؤاده.. أنكفأ الولد فوق خياله، وطفا فوق الغدير لحنا حزينا يغني في أذن قاتليه.

حين أتت سالمة إبنة الجيران الصغيرة كي توقظ “أونيّس” من النوم ليقابلا الشمس كما في كل يوم.. لم تفهم لماذا لم يقو على شيء غير الأبتسام.. حزنت كثيرا لصمت رفيقها وانتظرت الشمس لعلها تسري عنه، ولكن الشمس فزعت من صوت رصاصات طائشة…. ولكن سالمة لم تستطع نسيان صوت الغدير الذي ظل يغني في أذن قاتليه:

ليش الشفقْ

ينسكبْ

فوق الترابْ، وينصبغ بالحَمرْ؟.

وليش الليلْ

يسيلْ

فوق الدنيا وينْشطرْ؟.

وليش الشمسْ

في الصبحْ

غابت بلا خبرْ؟..

قالوا الشفق د م يسيلْ

على وجه الليلْ،

والشمس خدتْ الفجرْ

وعدّت في سفرْ.

سألت عنها “الوشون”

قالت خطْفوها الغجرْ،

والغالي..

طعنوه في الصدرْ

آهو قدّامك..

جذر شجره

بكرة تصير

غابة شجر!.

*

أغنية من الغرب

ما من أحد في المدينة القديمة لا يعرف “عليوة..” حتى القطط التي تمرح في الشوارع الضيّقة تعودت أن تتمسّح بقدميه الصغيرتين ساعة ينهش “فلّوق” الخبزة المطعم برائحة السمك .. كل من في المدينة الصغيرة كان يضبط ساعته على حركات عليوة.. في الصباح مع تمطي الشمس الكسلى يغدّ الخطى إلى الكتّاب في لباسه الليبي الموشّى بخيوط من الهند حاكتها خالتي “الصايمة” بيد مرتعشة، ولكنها لا تحيذ عن الرشم.. وعند الظهر يعود إلى البيت كي يرافق جده الضرير إلى المسجد.. تراه في الأيام الماطرة يقود جدّه بين الحفر المليئة بالماء الآسن كي يوصله إلى مبتغاه، ويرجع إلى الصغار ليغني للمطر وهي تمسح بأصابعها حيطان المدينة الحزينة التي تتلفع بالجير كي لا تتساقط من البرد:

يا مطر صبّي صبّي”

صبي على حوش القبي

والباشا ما عنده شي

غير خبيزة والششّي.”

بعد صلاة الظهر يحمل “عليوة” حقيبة كتبه الثقيلة على ظهره والمحبرة الزرقاء في يديه وينحدر مع زملائه من طريق القبة إلى مدرسة المدينة القديمة: “يا بواب حل الباب!..” يتصايح مع زملائه حتى يجبروا حارس الباب على فتحه قبل الوقت كي تمكنوا من ركل كرة الهم قبل الدخول إلى الفصل.

ثَ ثِ ثُ: ( ثورة) يصيح الأستاذ فيصيح التلاميذ وراءه.

مََ م مُ: (معمّر) يصيح الأستاذ فيصيح التلاميذ: محمد، فيعيد الأستاذ في صوت أكثر حدّه ولكن “عليوة” وأصحابه يعيدون في صوت واحد: “محمد رسول الله.” يحنق المدرس ويضرب الأرض بقدميه فيدوي إسم محمد عاليا.

في المساء يعود “عليوة” وهو يسابق شمس المغرب كي يقود جده إلى المسجد ويحكي له بشقاوة الأطفال عما فعلوه بالأستاذ.. فينصحه جده بحكمة الشيوخ: “ولكن يا بني عليكم بطاعة المعلم فأن عصاته من الجنّة.”… “آما جنة يا جدي وهو يبّينا إنقولوا معمر وننسوا محمد!” فيضحك الجد حتى ينفر لغبه الخالي من الأسنان، ويقول: “ما شاء الله!.. والله حسبناكم مش فاهمين.”…. بعد سنوات حين أعلنوا عن هدية لكل من ولد في الفاتح من سبتمبر لم يذهب “عليوة” إلى هناك لأن فقيه الكتاب علّمه أن كل شيء سيمحى كما يمحو “لوحه” بالطين، وبقي يعيش مع أسرته على السردين وبقايا الخضار والنشا التي تدعمه الحكومة النائمة في تبن النعيم….. كان “عليوه” يأكل الفتات فيزداد هزالا، ويسمع الأخبار فيزداد إشتعالا.. وحين قالوا له أن صديقه “أونيس” قد صار شجرة حمل غصنا يافعا وخرج إلى الشارع صائحا: “يسقط الطغيان.”…. لم يسر “عليوه” بعيدا لأنه أقسم أن يغرس قدميه ياسمينة على باب الدار….. لكن تصوروا.. لقد سقط الغصن اليافع من يده وامتدّ جذرا يبحث عن الشمس، فتلاقى مع جذر آت من الشرق يبحث عن توأمه في “القوس..” دفعاه حتى سقط، وحلاّ في مكانه شجرة.

 *

أغنية من الجنوب

في الأرض الممتدة ما بين القارة والقارة حيث للشمس ألف محرقة ترمي فيها بجثتها طول النهار، وحيث للتراب طعم الجفاف لم يكن بإمكان “بركة” أن يغني للمطر أو يتنشق هواء البحر.. كل ماكان يراه يباب ويباب ويباب… لم يكن والد “بركة” من أعيان القبيلة، ولم تكن أمه أكثر من إمرأة تحمل “برسيل” تمر وحناء خلف ظهرها تبيعها لنساء الحي الموسرات…. حينما كان يسير وراءها ممسكا بذيل فستانها “القريشة” التي تغيّره مرة كل سنة.. كان يتساءل لماذا لا ترتدي أمه مثل تلك الفساتين التي ترفل فيها نسوة أمين اللجنة الشعبية، وأمين المؤتمر، وقوّاد الحاكم…. كان يسمع بالأشتراكية ويفسرها له الكبار بأنها العدالة في الرزق، فيتساءل ببراءة الأطفال: “ولكن لماذا أمي لا تستطيع ستر قدميها المشققتين بحذاء، ولماذا لا يملك أبي غير جبّة مهلهلة!”… “عليك بالصبر يا بني..” كان شيخ الحي يقول له وهو ينقي أسنانه من بقايا لحم الخروف الناضج الذي إلتقمه من مائدة أمين اللجنة الثورية…. ويتذكر بمرارة الصغير حين إضطر والده أن ينقل أخاه إلى المقبرة في قلّة من القوم لأنه لم يكن يملك ثمن علاجه في تونس أو في الأردن.. بكى في ذلك اليوم بحرقة موجعة وهو يسمع الجيران يغنّون لسيد القصر الذي عاد من أوروبا بعد أن أزال ثؤللا في عينه اليسرى.. لقد أقسم يومها على تحرير التراب الغالي قارة قارة…. في يوم من أيام فبراير الغائمة سمع “بركة” من تلفزيون الجزيرة الذي طغى على إذاعة “القنفود” البائسة أغنية لم يعهدها من قبل.. ألحان يعزفها صبيان لم يكملوا الأعدادية تقرع الفضاء فيوقظ صداها الموتى.. جرى “بركة” إلى شجرة مهملة تسف التراب الرطب واقتطع منها سلاحا ماضيا: غصنا يافعا رأى الصبيان في كل الربوع يحملونه.. قبّل أمه، خرج إلى الشارع يغني مع القبرات والبلآبل والزهور….. كما تتلاقى الرياح فوق الأكمات تلاقى بركة مع عليوة ومع إونيس وردّدوا في إصرار الصغار:

ثَ ثِ ثُ: ( ثورة)

مََ م مُ: (محمد)

من شرقيها لغربيها

جيناك يا حزينه

وأقسمنا ليها

ما نرجع إلا لما نفديها..

إحنا الجيل النابت

فوق وجنة الريح

قطرات مطر

من البحر

تسري مقبّل

باش ترويها.

إحنا اللي تعلمنا

في الصغر

إسم أمنا بلام يبدأ

ولام ينهيها.

عن موقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

ظلُّ الماء

عبدالسلام سنان

ديسمبر الماضي

قيس خالد

زجاج مكسور

مفيدة محمد جبران

اترك تعليق