الأمطار المنهمرة، تشبه امرأة تحمل شكاوَى لاترتيب بين أحداثها،هكذا كان شتاء تلك الليلة، حيث يألف الناس أحاديث النسوة اللواتي يشتكين كثيرا من أزواج لا رحمة في قلوبهم.
غزلان المرأة البضة الممتلئة، تلبس رداء مقلما، يميل إلى الصفرة والخضرة، قد جسدت قامة ظهرها بانسياب حتى تخالها راقصة تتثنى بلا شفقة على قلوب المولعين بحب اهتزاز الأجساد…انحنت مقدمة سفرة شاي بيدها اليمنى، وفي اليسرى طابة خبز التنور حيث تمهلت في تقطيعه بين مثلث ودائرة ومربع مختل الأوزان ازدحم مع قطع السفنز الذي قامت بتصفيته من الزيت على قطعة قماش بيضاء، فتمثل لها الزيت صورة طليقها الذي شبع من ركلها وضربها، وإنزال أقسى العقوبات اللفظية كلما عاد من الصحراء محملا بصيد وفير وحطب يحمله على ظهر الحمار الذي ورثه من والده، ووالده ورثه من جده وجده من الوالي العثماني الذي حدث عنه أنه أكرمه بقبضة من طز وبُر وشعير ودقيق حنطة على ظهر حمار أجرب .. فكان ذلك بمثابة العطية التي (ماوراها جِزِيّة)، كانت تترقب عودته لإرجاعها رغم أوجاعها، والندوب التي تظهر كقمر خسف في ليلة امتلأت بسحب تخللتها الألوان الحمراء والبنفسجية، هي كانت كذلك، فكل قطعة لحم في جسدها ميدان لمعركة حاسمة لايُعرف كُنهها ولامعنى موجب لإيجادها سوى شيئين اثنين تعرفهما حليمة عن قرب وبُعد.. ندوب ليلة المعشر، وأخرى يوم العودة من الصحراء، فهو كغول يتفرس في ضحيته لينفث شقاءه وتعبه في جسدها الناعم ويقيدها بضفيرتيها الطويلتين الكثتين اللتين كانتا محل حديث نساء الحي ومضرب الأمثال ، لمن تقيدها بضفيرتها .. تلك الليلة شحب وجهها ..فقد مر على موسم عودته من الصحراء قرابة أسبوعين ممتلئين .. وكافيين في أن يشتاق لرقصها..وغنائها.. فقد أجادت الغناء من أجله فهو طفل كبير لاينام إلا على صوت حُدائها وهي تبلبل للفارس المغوار الذي أحضر الذبيحة من الصحراء بعد أن افتكها من يد العفريت، الذي أرعب قلوب الرجال قبل النساء ..فقد شاع في الحي أن ذلك العفريت كان يمسك الرجل من صدره ويستل قلبه ويعلقه كالأسمال على أغصان الأشجار التي تذوب في الصيف فتصبح الصحراء قاحلة وتخضر محمرة بفعل دماء القلوب في الربيع .. هذه الخرافة ورثها أيضا عن جده الذي كان قائمقام في زمن ما .. دائما ما يستنشقها وقت احتضار السفر وعند العودة يباهي بها رجال الحي؛ ليعلمهم أنه الرجل الوحيد الذي يتمتع بالفحولة بينهم ؛ وهو من جَابَه العفريت في عقر داره؛ فوهبه شنبين مفتولين لايقطعهما السيف .. كلما مر على مجمع تنحنح؛ فتفسح له الطريق وتُخلى له الكراسي العالقة بفعل الزمن والمطر كخشب جسدته الأرض يلتوي على صدرها البض المرهف الطري .. بينما يختار جليسيه عن اليمين والذين عن الشمال عِزين.
قالت وهي ترشف ما تبقى من شاي بطعم الزعتر في الشتاء القاتل: إيه وين دياره؟ وكيف ينسى غواليه.
رهزتها المرأة التي تقعد بجانبها قائلة : هو طلقك .. لو يبيك ..ما طلقك وحذفك عند أهلك وحتى غطا راسك ما فكر يجيبه لك، وتبيه توة يرجع ويردك ؟ “إنتِ” تحلمي !!
أحست حليمة بغصة، تذكرت قول جارتها : الرجل اللي يضرب مرته لا مكانة لها في قلبه ..هو يبغضها. جارتها كانت امرأة مطلقة، تزوجت ثلاث مرات وفي كل مرة يتم تطليقها بعد أن تُشبع ضربا وركلا وزوجها الأخير علقها من شعرها في جذع زيتونه ..حتى مرّ عليها السيارة وافتكوها ، ووجدنها النسوة في الرمق الأخير من الحياة فأسعفنها بقدح حليب وتمر، وحملنْها على ظهر البعير وسرن بها في الفيافي مع السيارة، وحينما استفاقت من غيبوتها وعادت إلى رشدها دلتهم على الحي، وحينما دخلت على إخوتها، دفعوها وسمعت أباها يقول : مالها غير زوجها “ترجعله” مالها مكان غير بيت راجلها . لكنها اندفعت خلف ظهر أمها باكية شاكية ، أخبرتهم أن زوجها هذا لا يحترم أهلها، وكثيرا ما يعيرها أن أهلها يتاجرون بجلود الغنم ولا يملكون الغنم؛ فهم مفلسون ويربحون من ورائه . فاستشاط والدها غيظا وظهرت معالم عزة النفس على وجهه وأقسم ألا تعودن إليه إلا بمهر مضاعف ونوق بيض يتبعها حوارها..
لكنه لم يتبعها ولم يقتفِ أثرها ويئست منه كما تيأس النساء من أعمارهن.
مر موسم الحصاد، كادت لتُبدي به لولا نسوة حولها يشددن من أزرها ويذكرنها أنها لو ظلت في ضلالها القديم، ستأكلها ضباع الحي ويفترسنها الأهواء، ولربما بلغ من أمرها شأن يجعل أخاها يعلقها تحت قمر ليلة شاتية لتكون فريسة للذئاب التي لاتكف عن النباح ، سكتت وفي قلبها أزيز.. هي لم تنجب منه، ولم يفكر أيضا في العيال.. تذكرت المرأة التي تدور على البيوت تبيع اللبان والمسك والقرفة للبنات . والمكاحل والمرايا. لعل لديها الطب من عياء القلب، اقتنصت فرصة مرورها على دار الحاجة سلطانة ، نادتها خفية واختبأت وراء الباب حتى لا تراها النساء فيثرن حديثا ضاحكا حولها، (هم) لا يقدرون المطلقات .. ويعاقبونهم بالسجن في البيوت والحرمان من الزينة والبخور والعطر .. لهذا حاولت ألا تظهر أمامهن أنها طلبت في إثر أم الزين بائعة العطور اقتربت أم الزين من باب البيت الطيني وانحنت برأسها لتدخل بهدوء بعد أن سلمت ونادت على أهل الدار، فاندفعت حليمة كأنها لم ترها سوى لحظتها قائلة : يا مرحبا بالعمة ام الزين تفضلي الدار دارك. انتاب زوجة أخيها ذعر من موقف حماتها الطليقة، وكتمت غيظا في قلبها .. وضعت طفلها الذي انتهت من تحليق شعيراته حتى صار رأسه كرأس القرعة الملساء مطلقا العنان لعينيه الموغلتين في العمق واضعا أصبع الوسطى في فمه يلقمه كما يلقم حوت سمكة صغيرة ، قالت المرأة : تشربين لبنا أو شايا؟
ابتسمت أم الزين : والله زمان عن الشاي الأحمر الطيب ! فردت حليمة مصرفة زوجة أخيها عن المجلس : اذهبي يا زنوبة واعملي الشاي الذي أحضره أخي من الميناء الذي يحضر البضائع من الهند.
أحست زنوبة بمَكْر حليمة ودهائها ..لكنها انصرفت مكرَهةً ..
بثت حليمة حديثا للمرأة مسِرّة على تخوف ..كانت أحزانها وأشجانها أنها احتملت الرخيص والغالي من أجله، وأسرت إليها: أنْ لولا ضفائرها ما استطاع أن يقهر العفريت ويحضر الدقيق والتبر للقرية والناس .. !
أهدتها عطرا ، وكحلا..قائلة: تعطري وتكحلي كل ليلة خميس. واذكريني! إذا جنّ الليل ..
خرجت تحمل صرتها وتتمتم بكلمات تشبه الدعوات.
دخلت حليمة مخدعها بعد أن ارتاحت من السر الذي كاد أن يقصم ظهرها نامت ليلتها كميتة بلا أنفاس، لم تر شيئا كعادتها في منامها، استغربت عند شروق الشمس هذا الذي أصابها وذلك البرود الذي دخل قلبها ومسح كل مافيه وقعد!
كان الليل مسفرا.. والنجوم ثاقبة، وصوت صرير الحشرات وهي تتكافأ يشق المكان بينما رجيع الصدى يفتك بالخيال فيعكر صفو الذكريات .. سمعت فجأة أصوات الرجال من أهل بيتها أن أشعلوا النار وضعوا القدور عليها، هرعت النسوة كعادتهن عندما “يلْفي ” أحدهم على الأهل دونما موعد سابق ، فإنهم يقدمون الزاد والطعام دون سؤال أو استغراب .. ويسمونه ضيف الملائكة ؛ حيث ضيف الفجأة لا سؤال عنه ولا وراءه إلا بعد أن تنقضي فترة الألفة والاستئناس-هكذا- درِب الناس آنذاك واعتادوا من شؤونهم هذا المزاج؛ حتى تغلغل في أفئدتهم قبل عقولهم .
قال الشيخ : ها قد جاءكم سفير الصحراء يحمل الدقيق والتبر فلا تسألوه حتى يضع الأوزار عن ظهر بعيره ويأكل من طعام القوم . أطعموه واسقوه وهيئوا مجلسه وأهنئوا مرقده ..
كان طويل القامة، ملثم الوجه ، يظهر بعض من شنب وجهه الأشعث ..
لم يبادرهم بالتحية إلا أن أشار بكفه العريض . نظرت حليمة عن بعد في تقاسيم شخصيته؛ لكنها شعرت في داخلها أن هذه القامة مألوفة معهودة أو تكاد.. كررت في نفسها ليته هو؛ لكنت الآن أباهي به العواذل واللائمات الحاسدات. قالت بعد أن كسرت عينيها الكحيلتين: من هذا اللافي .؟
دخلت مخدعها بعد أن جاش بفؤادها البرود ثانية وهي تقول: ليتني لم أهبه ضفائري وليتني تركته للعفريت -وليت -الذئب الذي حفر عند رأسه لم أدفعه.. قاطعها صوتٌ يناديها: يا امرأة : زوجك يراجعك ..فهل ترجعين.؟
أسقط في يدها.. خرجت دون أن تضع نصيفها، حملها على بعيره … أسر إليها: أنتِ هبة للعفريت إن لم تكوني كذلك؛ سيقطع رقابنا جميعا.
قطع الفيافي عائدا لوحده بعد أن انتزع شنبه وغمس رأسه في الطين ثلاث مرات وبترت أذناه؛ فهو لم يعد يسمع ويرى. تحسس الأماكن، وقع في بئر. ظل صداه يتردد معلنا ندمه؛ لم تكن حليمة أما لولدين بل صارت أمة، تحمل وترث ضفائرها نسوة اقتلعن أظافر أزواجهن؛ حتى لا يكبر الوحم عند فم العفريت.