النقد

الأبعاد الثقافية للنسق الرمزي وتركيب المعنى في نص إبراهيم الكوني

 .

عباس خلف علي

 .

يشكل النقد الثقافي اختراقا تاما للمقولة التي ترد على أن المعنى لا وجود له خارج اللغة التي كرستها مقولة أخرى، من أن المعاني لا يمكن لها إلا أن ترتبط نحويا ولغويا استنادا إلى صناعة اللفظ، بحيث بقيت الأفعال المتولدة أو الحركية في السياق أسيرة للدرس الأدبي ومفهومه العام المؤهل أو المسوق للجمالي/ البلاغي، وبذلك تصبح المركزية نصا والنص هو المركز، وعلى هذا الأساس يرى سعيد يقطين، أن مركزية النصوص وان كانت تتمتع بالدلالة والإمتاع والتأثير إلا أنها لا توسع من قدرتها في خلق نوع من المجازفة لاستمرار توليدها وهذا يعني انك في أفق الأفعال لا الأشياء التي تنضوي تحتها أو التي تخرج عنها. ولذا يقول الغذامي: بأخذ النص من حيث ما يتحقق فيه وما يتكشف عنه من أنظمة ثقافية، فالنص هنا وسيلة وأداة وليس الغاية القصوى كما يفعل النقد الأدبي، وإفساح المجال أمام التحري عن المضمرات يعني مطالب غائبة لم تزل تستدعينا لتحريرها من استلابها، وهذا ما تطرق إليه مفهوم – بودريلادو- عن التزييف في استبدال الحقيقي بما هو أكثر حقيقة، أي ثمة استجواب ومساءلة ترتكز طبيعتها على سياسات التمثيل التي تنحاز لا بل تعني المعرفة وطرق استكشافاتها، وظيفتها تجسير الهوة بين النص وأبعاده، وهذا المفهوم أو الاستنباط يتقارب مع ما عنته – ليندا هيتشيون – في كتابها عن المطابقة، بأن ما علينا فعله تقصي وفضح المتورطات من الأفعال الغائبة المتماهية في سياقات غير ظاهرة في النص.

وهذا ما يجعلنا أمام تصورات جديدة في فهم معطيات النص. لا أقصد التي ينتجها النص، إنما تلك المعطيات التي يحصل عليها التلقي بعد تحليل البنيات الثقافية اعتمادا على حرية التعبير في فضاء المعرفة، وبهذا الشكل لا يقمع النص كما يورد عند البعض أحيانا، لأن عملية تهميش المركز معرفيا والغوص فيما وراء السياقات أو ما تحت طبقاتها، يتم ضمن إستراتيجية التعقيب والبحث عن المخبأ في الأنساق المهيمنة التي ذكرها – غرامشي – في أكثر من موقع، والتي تعني في مفهومها الواسع، هو البحث أو الكشف عن علامات الهيمنة وعلاقاتها مع الطبقة. وبهذا الشكل يأخذ المتعين عرفا آخر خارج النص لا يتموضع في مكان محدد/ غير ثابت/ زئبقي، تكمن أهميته في البحث عن الكيفية التي افتريت على أصولها بالتالي كشفها وإظهارها وتعينها وتشخيصها.

فالأشياء التي يعبر عنها الكتاب (بكسر الكاف) والفيلم والتشكيل وغيرها من الأجناس الأدبية أو المقولات الأخرى لا يمكن أبدا ألا تحتوي بين جنبتاها أو لا تتضمن أنساقا مضمرة. فهي تعبير بالدرجة الأساس عن مكونات رابطة تشمل العرق، الدين، السياسة، الاجتماع، الاقتصاد. كل ذلك يتسلل أو ربما يتقولب في النصوص من دون تصريح، وتمتد هذه الشاكلة إلى ما لانهاية في الأنساق. ومن هنا يأتي مفهوم الهيمنة وأهميته في الإنتاج الثقافي لأن ما ينطوي عليه هذا المفهوم بغض النظر عن كشف علامات التسلط التي نوهنا عنها مسبقا، لديه القدرة على تحفيز طرق الاستجواب وإعلان المغزى بوصفه المنتج الحقيقي لدورة الأشياء في باطنها وظاهرها وعلاقاتها المتنوعة، بالإضافة إلى ذلك نعتقد بأن هذه الهيمنة لها تماثل وتقابل مع النسق الرمزي/ دلالة في حركة الصورة وتركيب المعاني، وهذه الدلالة كما يشير لها – فينست ليتش – هي محور بناء الكتابة التي تكشف بواسطة رموزها، المصاغة داخليا، متنكرة أحيانا لطبيعتها وتصرفها.

نموذج المطابقة:

يمكن أن يوفر لنا طبيعة الرمز في نصوص إبراهيم الكوني ما نحتاج إليه في تضاعيف الصورة الدالة، نأخذها من راسب القاع لطبقات النسق التي تختلف دائما عما هو ظاهر فيه، هذا الاختلاف يجعلنا نؤكد على حقيقة غير خافية لدارسي عالم الكوني وهي أن رموزه في النصوص الروائية مفرطة في بعدها الجمالي، ولكن في بعدها الثقافي تتجاوز هذا المنحى، اذ أن طقوس الطوارق متشابهة في أعماله وهي تتحرك على وفق ما ترسمه تداعيات الصورة الذهنية المتشكلة مسبقا عما تمثله مفردة الصياغة التي يستخدمها مثل الخرافة، الكرامة، الغيبة، الدهشة، المعجزة، الجن، هذه المكونات وصفها – ديمتري ميكولسكي – بأنها تمثل لصحراء الكوني عروق ثابتة تتجه نحو القداسة.

ومفهوم القداسة لا يختلف في نظر – مرسيا الياد – عن هيبة التصاق الموروث في أذهان الناس ومدى تأثيره على تفكيرهم ومشاعرهم وتشكيل بعد مثيولوجي مقترن بالطقوس ذات المعاني والدلالات الذي يتشكل دائما كبعد لتصور غائب حتى يكون له شأن وهو كثيرا ما ينشأ عند الجماعات الدينية ومن قبل اتخذه الإنسان وسيلة لصيانته من التدمير والشتات من خلال رسوم الجدران التي تحدث عنها هنري مورو في موضوعة تكيف الإنسان مع البيئة. الطوارق لا يختلفون عن هذا المفهوم في معتقداتهم المكانية، يقول هيرورودس: ممن سكن قلب الصحراء، شعب قوي وعظيم يدعى – القرامنت – هؤلاء مثل الرمال المتحركة، يعتمدون على الصحراء في مشمولاته ومحمولاته. لغتهم – التماحق – وهي لهجة برية خاصة بهم، يرتدون الرجال من دون النساء اللثام، يفضلون المخيمات البعيدة المنزوية عن المدن، وبحكم هذا الانعزال اكتسبوا عادات وتقاليد وأصبحت لهم حكايات شفاهة متوارثة على شكل تمائم، يجري لها طقوس.

بينما الكاتب لم يكن يوما واحدا ممن قاس معانات الطوارق، يقرأهم من مدن فارهة، يكسب عاداتهم وتقاليدهم ويتشكل كجزء منهم وفاءا للانتماء، أي أنه يخضع النص للإستراتيجية المملكة التي رسمها لمستقبله الإبداعي، الصحراء، هذا المكون يحتاج إلى فهم قوانين عدة تتمثل فيها نواحي تاريخية، اجتماعية، سياسية، دينية، ولكي يأخذ البعد الإنساني شكله الجمالي في النص. إنهم لا يعيشون في منطقة واحدة، ومن أجل تماسك الجميع، لابد أن يكون ثمة محرك يدفع مشاعرهم للالتفاف حول رمز يقرب ما بينهم، نلاحظ ما ورد على لسان – أسوف – هذا التأثير الطقسي وهو يؤكد على رابطة الدم «هذا هو العهد، حضن القربان وميثاق الدم واللعنة سوف تلاحق من تسول له نفسه أن يخون رباط الدم.. فلا يوجد في الدنيا أقوى من رباط الدم وليس هناك جريمة أبشع من خيانة هذا الرباط» (نزيف الحجر ص 111- 112)، كما أن الطوارق يعتقدون كثيرا بالصخور والكهوف وبعض الأشجار البرية ومما جاء في تاريخهم الذي لا نشك أن الكوني كان واحدا من الذين استفادوا منه مدركا ومتفحصا لماهية الحادثة التاريخية التي يمكن أن تكون فخا للمبدع. وبدل أن ينتج منها مادة أدبيه يمكن أن تصار مادة تاريخية ولهذا كانت رؤيته تجسد أبعاد العمل الفني الذي يستثمر فضاء المكان، في الإيحاء والدلالة والرمز، أي أعادة صياغة بناء الحكاية بشكل يوازي الصورة الذهنية المتوارثة عنها: فهم أي الطوارق، يضعون لكل شيء بعدا طرسيا واسما حركيا غير قابل للتحريف، وكما يعتقدون أن الكاهن الأكبر أو الأعظم – متخندرش – كتب نبؤته التي لا تخلو من طقس روحاني.. فتحريك الصورة عند الكوني عبر هذا المتحول من الطقس تتخلله إشارات تحريفية قائمة على بعدين رمزيين هما:

الأول ثابت في النسق النصي كحقيقة وارتباط كوّنها الوعي المنتج لها.

الثاني بعد استراتيجي يمتد إلى العلامة الثقافية المحجوبة أو المتماهية في السياق العام..

فوجود الكوني نعتقده لم يكن متواريا بين هذين البعدين، فهو واضح التأثير كذات عضوية بزمنه وتاريخه ومجتمعه، وانتمائه الطارقي لا يعني بالضرورة انتمائه للقبيلة، أو الانتساب لها، وإنما أتخذ منها ذريعة لكشف ملابسات الواقع المرير وانكساراته، ومن ذلك يتضح لنا أن نص الكوني نص ارتدادي، أي انه يستبيح الأصوات التي يستثمرها بدهاء ومكر، ويتظاهر بتعاطفه الأنثربولوجي على طبيعة تضاريس المكان كوحدة خارجة عن إطار الحياة الاجتماعية، وبذات الوقت يمكن أن تحيل هندسة العمل الروائي إلى مواقف أخرى، تحدث بمعزل عن سياقات النص، لها أغراض متعددة الوجوه كالنظر إلى التاريخ الانتكاسي القمعي وهزال الواقع وانعدام مظاهر الحياة فيه.

بحيث يروي النص مظاهر الواقع، أي الطوارق هم من يمثل هذه الحقيقة، والصحراء تكون معلما لموروثاتهم المتناسلة في حكايات الجن/ الكرامة/ العطش/ التعاويذ/ التصوف/ الخرافة، لازمة تتكرر باستمرار بوصفها تمثل التصور الذهني المسبق للحقيقة وليس للنص كمدونة.

رواية – من أنت أيها الملاك:1

وهي كرواياته السابقة الجوهر الفعلي لها موضوعة الصحراء وبيئتها الغريبة التي تدفعنا إلى ارتداء اللثام، كما يقول مسَي بطل الرواية، كي تستطيع أن تحافظ على هيبة الموروث الذي انطلقت منه، ولكن هذا الإجلال والتقديس لم يكن ساكنا أمام متغيرات الظروف وتقلباته وإن بدت في الظاهر تلك الهيبة محصنة ولا يجوز للغرباء المس أو الطعن بها، تكتشف الخرافة الملتهبة بالوجود والفناء، وقد يكون اللثام يعكس العزلة والصمت لتختفي اللغة في تعاويذ غير مسموعة مترجمة إلى إيحاء مشفر بقداسة التأمل. أي أن الحوار المتأصل في ابن الصحراء يجهله الدخيل عليها، فهو يجيد قراءة الروح عبر التمائم ويمارس في طقس خاص يتميز بتاريخ معقد تعلم منه النبوءة و الأعراف والتقاليد والأسرار وكيف يتمسك بها من دون تفريط أو مهادنة إنها الصرامة في مواجهة الأخطار المحدقة أو المحتملة أو تلك التي تحاول اختراق الصحراء.

الكوني يمدنا بهذا العالم من دون أن يخالجنا شك أن الكرامة، الغيبة، الدهشة، المعجزة، الجن هي من مؤثرات الصحراء وعوالمها، أي إن تلك الأعراف التي التزموا بتقاليدها إنما هي أعراف مقدسة وعلى هذا الأساس نرى توزيع جغرافية الكوني الكتابية تعتمد على ثلاث ركائز مهمة وتقريبا شغلت أغلب رواياته مثل (نزيف الحجر)، (الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة)، (شجرة الرتم)، (نداء ما كان بعيدا) وغيرها، ومن ذلك يتحدد عالم اشتغال الكوني الصحراوي:

1- كل ما هو قديم (حجر، صخرة، كتابة، رسوم بصرية) يتجه نحو القداسة.

2- دائما المكان مبهم فالفلاة تصبح لغة للنبوءة.

3- الزمان مرتبط بقداسة المكان المبهم ولذا نراه يرمز إلى التجدد في صورة الكاهن الباعث على تنشيط الذاكرة.

ومن ذلك يتضح لنا، أن نص الكوني يغلي بالتداخلات، أي فضاء تتجسد فيه الأبعاد الأسطورية2، والغيبية والخرافية والمعقول واللامعقول من دون عزل التأويلات المنسقة مع السياق البنائي لها، وهذا كما هو معروف مرتبط بنظام التعويض والإزاحة، تعويض إشكالية الواقع تنتمي في تضاعيفها النصية إلى تشظية المتن باستجواب الهوامش الذين هم يعانون من أشكال متعددة من الاستغلال، أما التعويض الذي لجأ إليه الكوني تحديدا في رواية – (من أنت أيها الملاك؟) – إلى فلسفة الأشياء أكثر من المجاز والتورية والرمز التي تعرفنا عليها في أعماله السابقة مثل (الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة) و(نزيف الحجر) و(نداء ما كان بعيدا) و(شجرة الرتم) وغيرها من الأعمال التي كانت فيها الأنساق المختزلة مولد لتلك الإيحاءات القابلة على تفعيل تصوراتنا نحو ما يسمى بالسرد الخفي، المكتنز للعبارة في دلالاتها المتشعبة بين الحفاظ على الموروث بصيغة الترميز الذي نجد له في كل موضع معنى يؤدي غرض معين، فكلمة الصخرة التي تحتوي على أشكال غريبة مرة تصبح حجرا مقدسا (نسبة لنقوش جذر القبيلة عليها، أي أنها بمثابة أرومة تثبت من خلالها النسب) ومرة دليلا لمتاهة الصحراء، وأخرى نجد فيها الحنين والألفة التي تجتمع فيها نقطتين متباعدتين هما الحاضر والماضي، وأحيانا نرى فيها رمز البقاء والتحدي لمحاولات البعثات الاستكشافية التي تغزو الصحراء بين الفينة والأخرى، وبرغم أن العزلة للقبيلة في هذا الأتون الصحراوي الملتهب بالحكايات لا يمكن أن تلج باستعارات خارجة عنه، ومن هذا المنطق يوظف الكوني رؤيته الثاقبة في تجانس الأبعاد المتعلقة بفضاء الصحراء في نسيج لغوي مكثف بالانتقالات الرمزية التي تشتق عن الحقيقة ولكن مؤثرة فيها.

الكوني في صناعة رواياته يعرف الحقيقة التي تسكن قلب الصحراويين ولذا وهبهم الوثيقة المعرفية التي يبحث عنها النص، أي إنه يعيد صياغة الخامات الأولية التي ظلت متوارثة جيلا بعد جيل إلى صورة تنبض بحياة البطل إلى درجة نشعر أننا في مواجهة عوالمه وإن كنا نجهل الكثير عنها، وهكذا تتحول الدلالة في نص الكوني إلى اشتقاق معرفي آخر، هذا الاشتقاق يتقاسمه المؤلف مع التلقي، أي إنه يترك الخيار مفتوحا للمعنى الذي يولد خارج النص من دون أن يفرط بمسميات الحقيقة التي ولد منها، وهنا يحافظ على مصدر الحكاية ومنبعها ومنشأها وفي الوقت ذاته تعمل الأنساق على توظيفها كمحمولات رمزية لها دلالات تضرب في عمق الواقع.

أسوف الحلقة المفقودة في ظاهرة يوجورتن:

أسوف الذي ظهر في رواية – (نزيف الحجر)3 – الحارس الأمين على الآثار من العابثين المحليين والأجانب كان ابنا بارا ومثاليا لقيًم الأجداد والصحراء ومتمسكا بيقين قاطع يصل إلى حد النخاع بقدسية الطقوس، لأنها هي من يحفظ مملكتهم من الانزلاق في متاهات المدن وإمكانية صهر الإنسان فيها وتذويبه وتعطيله عن التفكير بإرث الأجداد، وهنا يبدأ الصراع، صراع عالم أسوف مع الوعد الذي قطعه على نفسه، ولكن الأحداث تجري بشكل ماكر تصنعها الأزمات والمآزق التي تدخل ممارساتها في موضوع الخطايا4. أباه الذي تعرض لصيد الودان يقع في الفخ، حادث مرعب أقسم بعده أن لا يصيد هذا الحيوان، وكان ينهى ولده أسوف أيضا عن صيدها، موضحا أن الودان الذي يسكن الجبال والغزال الذي يسكن الرمال بينهما نحن كثيري الشكوى، وهما كثيري الشك بمجاورتنا لهما، ونقل الأب قصة مطاردة الودان الخائبة واضطراره للنزول عن المهري ولكن ( لم أر أقوى من قرون الودان. رأيت العناد والشراسة وأشياء كثيرة لم أفهمها وعندما تيقن الودان انه لا خلاص من بندقيتي يقفز إلى الأرض. اختار الموت انتحارا بدل الموت صيدا (ص 126نزيف الحجر ).

تبقى العلاقة بين الأب والابن صورة شاملة لمنظور التحدي بكل مشمولاته ومحمولاته،5 الصحراء، الأسطورة، الدين، الخيال وجميعها لا تخلو من الخرافة التي يتأسس عليها مزج الخيال بالواقع، المهم، لدينا في هذا الإيجاز، إن الابن ظل وفيا ومخلصا لمعتقدات الأب برغم أن الصراع بين الإنسان والطبيعة قائم على الكثير من الاختراقات والمتناقضات ومع ذلك لا يثني أسوف عن عزمه وثبات شكيمته حتى لو كان خصمه شخصا مثل قابيل آدم الذي تعرف على ضابط بحرية أمريكي – جون باركر – الذي أهداه بندقية ليستغلها ببشاعة في إبادة الودان والغزلان معا. وأن الخيانة ستكون وجه المقابلة الحتمية لهذا الصراع وعليه حتما وحسب الوصية أن يوقف هذا النزيف. ومن ذلك نكتشف أن أسوف كان يحمل الوصية مثابة الأب ويمكن أن نجملها بما يلي:

1- تعليق أسوف على كل ما يتذكره عن أبيه.

2- وصايا الأب عن الكاهن والصخرة والودان والتعاويذ والصلاة (تمائم السحرة الزنوج بلغة الهوسا ويعلق على رقبته المحصنة من جلود الثعابين ص31 نزيف الحجر).

3- رؤية الأب وعي قائم عند أسوف ومحفزا لتوحيده واتصاله بالقيًم.

4- أسوف قلد أباه حتى في خيانة النذر، كما نرى ذلك واضحا في تشبثه بالنتؤ الصخري الذي يسميه بـ(نتؤ الحياة)، وبعد أن تنقذه الودان يقسم أن لا يقترب من أكل اللحم كالأب.

5- صرامة أسوف برفض أن يكون دليلا لصيد الودان وهو نفس الإصرار الذي كان يمارسه الأب مع الأجانب تحت ذريعة أن موجودات الصحراء هي من يستحق التضحية من أجلها.

هذه الصورة التي رأيناها محكمة في شخصية أسوف (نزيف الحجر) كوريث حقيقي لقيَم الأب والبيئة قد تخلت عنها شخصية يوجرتن (من أنت أيها الملاك؟) أمام الأب مسَي الذي يعني مولاي كما جاء في الرواية، وأعتقد أن الملاك المقصود منها الصحراء وليس الابن، تلك الصحراء التي شكلت عقيدة إبراهيم الكوني السردية. هذه الرواية تبدأ بخيانة أولى، الأب ترك الصحراء باتجاه المدينة التي رزق فيها وليده – يوجرتن – / البطل الأكبر في نظر الأسلاف، غير أن هذا الاسم لم يكن مسموحا به في السجل المدني لأنه لم يكن من الأسماء المنزَله، وهي نفس المواجهة تقريبا التي تعرض لها أبو الخيزران إحدى شخصيات رواية غسان كنفاني – رجال تحت الشمس – باختلاف الموضوعة طبعا، هم ثلاثة أرادوا عبور الحدود داخل صهريج الشاحنة فيواجهون الموت جميعا.

لم يتعرض الأب مسًي إلى رفض تسجيل اسم الوليد الجديد – يوجرتن – فقط بل إلى المساءلة التي تجبره على خوض أتونها في مكاتب التسجيل على مختلف درجاتها وعناوينها المتنوعة والمتعددة ورغم لهاثه وراء تشبثه بهذا الاسم المهدد بالرحيل وراء الحدود يقع فريسة احتيال ونصب واستغلال من أقرب أصدقاء المحنة – موسى – أيضا كان له نفس المعاناة مع الاسم لأبنته (الشخص الذي ظنه قرينا في مسيرة الانتظار ص111)، بل يتخطاه أيضا إلى الابن الذي عرَفه على أسرار الصحراء جبالها، هضابها، رسوم صخورها وطلاسمها المحيرة للأجانب وكذلك نقوش الصخرة المقدسة التي تحفظ العرف نسلا بعد نسل.

يوجرتن واجه أحباطات متكررة في المدينة منها، طرده من المدرسة لأنه لا يحمل اسم (ثبوت الهوية)، انخراطه أو الانضمام إلى المحافل السرية/ جماعات الظلام، التي تنوي تفجير مكاتب السجل المدني، الأنكى من كل ذلك يصبح واحدا من أدلاء – الباي – الغازي الذي يتظاهر بأنه وكيل شركة التنقيب عن النفط (يوجرتن لم يكن شريكهم في الغنيمة فحسب ولكنه كان دليلهم الذي قادهم إلى موقع الحجر أيضا ص232) فبعد هذه الخيبات المتكررة يقرر الأب العودة إلى الصحراء موطنه الأصلي وهو يحمل معه صورة لهذا الألم الخفي الذي رسم أفقه الأسلاف منذ آلاف السنين. ينتقم الأب من خيانة الابن ويرديه قتيلا بمدية استخدمها من قبل مع خصومه من الذئاب، لتجاسره في كشف لوائح أمنا الطبيعة كما يقول أمام هؤلاء الدخلاء. وهنا يمكن ملاحظة مدى التقارب والتنافر بين يوجرتن الابن مع الأب مسَي وهي كما نراها ونتصورها في هذا الرصد الموجز.

1- يوجرتن بدأ مسيرة الانطواء والعزلة بعد تعثر جهود الالتحاق بالمدرسة.

2- نعت مرات عديدة باللقيط.

3- حملوا الأب وزر أفعال الصبيان الطائشين.

4- راهن الأب على نداء الدم ونسي صخب المدينة أقوى مفعولا.

5- يوجرتن لم يهتم بوصايا الأب التي هي ذات الوصايا المحفورة على الصخرة من شعفتها العليا حتى حضيضها الذي يسد عنق الوادي.

6- يوجرتن كان يسخر من عبارة أبيه خليفة عهدي.

7- يوجرتن كان يمثل الصمت أو العزوف عن مواجهة تشبث أبيه بالاسم أو الإرث الصحراوي.

بهذه الفوارق التي تطرقنا إليها بين شخصيات الكوني سواء في رواية – نزيف الحجر – التي تمثلت بشخصية الابن – أسوف – ورواية – من أنت أيها الملاك ؟ – التي تمثل فيها الابن يوجرتن، حيث نرى إن الرمز الذي تجلى عند أسوف الابن متماسك حد النخاع مما هو عند يوجرتن الابن الذي تمرد على قوانين طبيعة الانتماء والخروج عليها مما تطلبت منه أن يدفع الثمن مقابل انحرافه عن تقاليد الصحراء.

إن الكوني في هذا النص لم يكن فقط متشابها مع موضوعاته عن الصحراء بل إنه يعزز دور المكونات الصحراوية في جسد النص ومع ذلك لا يخفى على قراءه من أن أسلوبه في هذه الرواية تحديدا كان مختلفا جدا عن الأعمال السابقة التي كانت تمتاز في توفير مخزون من الدلالات الحسية التي تتغير وظائفها وحسب طاقتها في تحوير واستثارة اللغة من داخل النسق بينما في هذا النص كانت العبارة جاهزة ومباشرة ولا تحتاج إلى إبلاغ لرواجها، مكتفية بالحوار كعامل مساعد على توضيح الفكرة وتصديرها كي تكون وسيلة لعبور فلسفته لا بتأثيرها في تفعيل وتحريك الساكن من المشاعر.

الراوي العليم بين القناعة والقناع:

عند اعتماد حضور الراوي العليم في النص يصبح هو القاسم المشترك لإدارة دفة الأحداث من ألفها إلى يائها، وهذا ما يمثل خرقا واضحا لدور التلقي الذي يعد أحد أفلاك النص على حد قول – محمد بنيس – وتجاهله يعني تحديد النص بقناعة المؤلف ومدى مصداقية الأحداث المروية لا مدى تأثيرها، وهذا ما اندرجت عليه السرديات القديمة على مختلف ألوانها وأشكالها، وهي محقة، إذ أنها لا تحتاج إلى إضافات إبداعية جمالية أو فنية خارج نطاق الواقع، بينما الآن أصبح النص الروائي وثيقة تاريخية تضيء وتضاء كما يقول – د. جهاد نعيسة – أي أن الوثيقة التي عرفهًا – رولان بارت – ذات بعد خفي مثير للالتباس والاشتباه، يسعى النص عبر مكوناته أن يقتفى هذا الطوطم وفك طلاسمه وتخليصه من هامشية الحضور ليشغل زمن النص بعد تراجع القناعة (التصحيف والتحريف) التي وفرت حصانة له عبر الهدف الواقعي المحض، وبذلك تكون الحقيقة مضاءة في النص أكثر مما هي في نظامها الاجتماعي.

في رواية – من أنت أيها الملاك؟ – كان الراوي العليم اللوغوس الذي يدير الأحداث، أو مولافولجيا الحكاية، فهو المؤسس لجذرها وأسطورتها وحقيقتها وتفسيرها، وبذلك عليه أن يمتلك رؤيتها في لعبة ضخ الحكايات لمجرى الأحداث من دون أن يكون ثمة اثر عميق يستدعي تصوراتنا في رسم الخصائص أو ما يسمى عند – تورثروب فراي – بأفق الانتظار. إن أغلب ما درج عليه الكوني في رواياته السابقة هو متوفر على تكثيف رؤاه عبر الراوي العليم، ولكن كان مجسد في الأنساق المكتنزة للدلالة كمحور رئيسي على تناغم اللغة والمعنى، أو عند دي سوسير لغة/ كلام، وهو تمثيل قائم كما ذكرنا على مبدأ أن الأدب بنية بين بنيتين، بنية المجتمع الذي نشأ فيه وبنية اللغة التي كتب بها، أي أن الخطاب الروائي يتمتع في الفلسفة القائمة خلفهما، يقول – منذر عياشي – في كتابه – فاتحة المتعة – إن حضور أي كتابة روائية تمثل شهادة نص بعد اختراقه للزمن وانتقاله من الشفوي إلى المكتوب. ثم أن القناع في فعالية الكتابة يحف بكل التصورات والإيحاءات التي بإمكانها كسر النمط السائد الذي يتوفر عند الراوي العليم كنوع من السعي لإخلال تغلبه على سرد الحقائق التي تضع النص في رتابة الفكرة لا في استنطاقها وسؤالها، ولذا يأتي هذا الاختلال كما يسميه جابر عصفور، على كسر هذا الطوق المهيمن على السرد بافتراضات تتيح تسليط مزيد من الضوء على تركيب العبارة بوساطة اللغة التي تعيد ترتيب هذه التجربة.

في هذه الرواية يختفي القناع وتبدأ وسيلة القناعة لدى الراوي العليم بصفته التكوينية أي بصفتها الزمنية التاريخية على حد قول – يمنى العيد – باعتماد العامل الذاتي الحواري / الدايلك، الذي يبقى له على محدوديته المرهونة بمادة الصحراء، وتشكيل طبقاتها وفئاتها بين القديم والحديث، بين الموروث والوافد تتداخل فيها الحدود والملامح والسمات وما غير ذلك، بحيث من الممكن ملاحظة حركة الشخصيات بأنها قائمة على المجاورة بين الأضداد التي يرتكز عليها الراوي في تعين أبعاد فلسفته، فهو يجسد لنا الغيبة ليمنحنا عمل الأسطورة ويستدرجنا نحو المعقول ليخدعنا باللامعقول بطريقة تبادلية قسرية. إن احترافية الراوي لا يعني بالضرورة إقناعنا بالطابع ألأيجوري*/ الصورة المجازية إن لم تكن ذات مغزى في تبني الأفكار، ولا تعني نسخ الفكرة أو إعادة ترويجها بتغير العناوين على الأغلفة يستطيع أن يعزز المنظور الفكري للخطاب الروائي بل إن ما نراه في الصوت/ البوليفوني** الأحادي6، بقى يدرك كل شيء ويطلعنا عليه، من دون اكتراث للتقنيات والأساليب التي تشيد بنائها السردي دلالات ذات قوة تأثير تستثير الإعجاب والتأمل.

أما موضوعة القناعة فأنها باعتقادي تحمل أكثر من وجهة نظر، نشك في أن الكوني قد استفاد في روايته الموسومة – من أنت أيها الملاك ؟- منه، رغم إدراكنا المسبق بطاقته السردية القادرة على الوصول بيسر إلى أبهى مواقع العلاقة بين الواقع والمتخيل أو بين المعنى ومساحة التأويل، وبين الحقيقة والخدعة الإبداعية. لأنه استبطن حقائق التجربة السردية بعد أن سحرته الصحراء بلذة الذاكرة، تلك النشوة التي تجسدت في عشرات الروايات ذات الخصائص المشتركة في تكوين عالم الكوني الصحراوي. ثم تحف فعالية الكتابة بكل التصورات والإيحاءات التي بإمكانها أن تعزز بعديات التوظيف التواصلي/ الجمالي عبر تجسيد الرؤى الفلسفية التي ترتكز على إسقاطات معرفية وثقافية لهما أهمية في عمليتي التكوين والتوليد ( كون قيمي ) بلغة ايكو، وهذا ما يفصل بي المحتمل والمتحقق، فالانفتاح على فضاءات ثقافية يمكن أن ينقل الرواية من كونها مدونة نصية شبه مغلقة إلى خطاب مشتبك بالمؤثرات الثقافية الحاضنة له والخارجة عنه في آن.

___________________________________________

مصادر البحث:

1. رواية من أنت أيها الملاك ؟، دبي الثقافية 2009.

2. إشكالية القراءة واليات التأويل د. نصر حامد أبو زيد المركز الثقافي العربي بيروت 1992.

3. رواية نزيف الحجر دار التنوير ط3 1998.

4. أبحاث في النص الروائي العربي أسامة سويدان، مؤسسة الأبحاث العربية،بيروت 1986.

5. البنيوية وعلم الإشارة، ترنس هوكز، ترجمة مجيد الماشطة، مراجعة د. ناصر الحلاوي دار الشؤون الثقافية بغداد 1986.

6. الفينومينولوجيا عند هوسرل، دراسة نقدية في التجديد الفلسفي المعاصر، سماح رافع محمد دار الشؤون الثقافية، بغداد 1991.

*. غريماس يفصل بين الرمز والمجاز الصوري من حيث هو سرد سلسلة من الأحداث والأفعال لها قيمة أما الرمز لا يتوفر على قرينة لفظية تساعد على التأويل، كذلك يرى عزا لدين إسماعيل أن المجاز الصوري هو تحوير للرمز الفني الذي يختلف عن رمز الشارة الذي هو شخصية معنوية كأن نقول العلم شارة الوطن.

** باختين يناقش في حواريته مسألة تعدد الأصوات البوليفونية مقابل واحدية الصوت مو نولوجيزم monologIsm وإن صوت مفرد متسلط لايمكن أن يمثل أكثر من لغة المؤلف ولكن بالإمكان تأهيل الرواية بتقنية الخطاب غير المباشر الحر.

عن مجلة الكلمة/  العدد 58 فبراير 2012

مقالات ذات علاقة

(صُندُوقُ الرَّمْلِ).. تَارِيخُنَا بِنَكْهَةٍ أَدَبِيَّةٍ

يونس شعبان الفنادي

“تمهيد للاشيء” ومحاولة القبض على الأحلام الهاربة

عائشة إبراهيم

عرض وقراءة في رواية المولد.. بين المكان المحاصر والزمان الطليق

رضا بن موسى

اترك تعليق