المقالة

كلنا لِبراليون!

>

يندرج خطاب كافة الفصائل والتيارات السياسية الليبية[ نستعمل الأولى للدلالة على القوى السياسية المعبأة والمنظمة، وهي في حالتنا القوى الدينية، والثانية للإشارة إلى القوى غير الدينية وهي غير معبأة وغير منظمة] في إطار الخطاب الديموقراطي المنادي بالدولة المدنية الديموقراطية القائمة على احترام حقوق الانسان وعلى التعددية السياسية وحق المواطنة وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة، مع تجنب واضح، من جميع الأطراف تقريبا، لاستعمال مصطلح”العلمانية”، وهو أمر له ما يبرره من ناحية مراعاة المزاج العام الذي تمثل له العلمانية نوعا من الرهاب ( علمانوفوبيا)، بيد أنه ليس مبررا من الناحية المعرفية. ذلك أنه ما من ديموقراطية بدون علمانية. قد توجد علمانية بدون ديموقراطية، ولكن العكس ليس صحيحا. فالنظام السياسي في تركيا كان لفترات طويلة علمانيا، إلا أنه لم يكن ديموقراطا، والنظام البورقيبي كان علمانيا، إلا أنه لم يكن ديموقراطيا. وكذلك النظامان النازي والفاشي في كل من ألمانيا وإيطاليا.

لكن الديموقراطية علمانية. لأن الدولة الديموقراطية لا يمكن أن تكون دولة دينية، والدولة الدينية(والكلام عن أي دين كان) لا يمكن أن تكون دولة ديموقراطية. لأن الديموقراطية تقوم أساسا على التعدد وتداول السلطة سلميا، في حين يقوم الدين على سيادة الصوت الواحد والاستماتة في التمسك بالسلطة. وهو لا يقوم على سيادة الصوت الواحد بمعنى أنه يستبعد ما سواه من أديان وتوجهات أخرى، فقط، بل إنه يقوم على سيادة الصوت الواحد بمعنى سيادة طائفة دينية معينة داخل الدين الواحد. فالدولة الشيعية تقوم على سيادة الطائفة الشيعية قامعة ما سواها من طوائف داخل نفس الدين. أكثر من ذلك هي تقوم على سيادة مذهب محدد في الشيعة مستبعدة المذاهب الشيعية الأخرى. وكذلك هو الشأن في الدولة السنية. فالسيادة في السعودية مثلا للمذهب الوهابي الذي يعتبر نفسه، وهو ليس بدعا في ذلك، المذهب الإسلامي الوحيد الصحيح (الفرقة الوحيدة الناجية). إذن الدولة الدينية هي، بالتعريف، دولة استبدادية ولا يمكن لها أن تكون دولة ديموقراطية.

ومادامت التيارات والفصال السياسية الليبية كافة تتحدث عن الديموقراطية، فما ضرورة التمييز، عند الحديث عن هذه الفصائل والتيارات، بين الإسلاميين واللبراليين؟ ما دامت أركان اللبرالية هي نفسها أركان الديموقراطية؟!. وما دام خطاب الإسلام السياسي الليبي يعلن، في مجمله، قبوله والتزامه بهذه الأركان، إلى درجة أن ظهر علينا من ينادي بـ”ديموقراطية إسلامية” و”علمانية إسلامية” وهو، على أية حال، اجتهاد في حاجة إلى توضيح. ولكن لا ينبغي خلط الأوراق.

حسب هذا المعطى، إذن، نكون كلنا لبراليين! إلا أننا ننقسم هنا إلى لبراليين إسلاميين(ولفظة إسلامي هنا لا ترادف لفظة مسلم) ولبراليين غير إسلاميين( ولفظة غير إسلامي هنا لا ترادف لفظة غير مسلم) مثلما أن الديموقراطي المسيحي ليس هو المسيحي بالمعنى العام.

فهل يمكن تصنيف الإسلاميين الليبيين من ذوي الخطاب الديموقراطي(وكذلك مناظريهم في أماكن أخرى مثل تركيا وتونس) على أنهم إسلاميون ديموقراطيون؟ رغم أنهم لا يُعرٍّفون أنفسهم على هذا النحو؟.

في الواقع لا توجد ثقة في أن أقوال هذا التيار تتطابق مع نواياه. أي أن يلتزم مباديء الديموقراطية المتمثلة أساسا في الالتزام بمباديء حقوق الإنسان(وليس فقط في حكم الأغلبية) ومبدأ تداول السلطة، بحيث يسلم السلطة حين تكون مقاليدها في يده إذا لم تكن نتائج الانتخابات في صالحه. وإذا كان المثال التركي ناجحا فمرد ذلك، في اعتقادي، إلى أربعة عوامل أساسية:

* وجود قاعدة علمانية قوية داخل المجتمع التركي.

* بنية الجيش التركي بنية علمانية ويأخذ على عاتقه حماية علمانية الدولة، وبذلك يضمن عدم تحول تركيا إلى” دولة” دينية، وإن كان لا يمانع في وجود” حكومة” دينية تستلم السلطة طبقا لمباديء الديموقراطية وقواعدها، وتنزل عنها طبقا لنفس المقتضيات.

* كون تركيا، من الناحية الجغرافية، دولة أوربية فإن الغرب لن يسمح بتحولها إلى دولة دينية. كما أن هناك رغبة تركية قوية في أن تكون تركيا جزءا من أوربا، بالمعنيين الاقتصادي والسياسي( إذا ما غضضنا الطرف عن المعنى الثقافي.)

* حلف شمال الأطلسي، الذي تركيا عضو فيه وحريصة على البقاء ضمنه، لن يسمح بتحول دولة من أعضائه إلى دولة دينية.

والمثال التونسي ذو دلالة أيضا. فتغول الإسلاميين على السلطة في تونس يبدو عسير التحقيق، بسبب التوازن في نتائج الانتخابات الذي يعكس توازنا اجتماعيا يدل على وجود خلفية حداثية في تونس، وبنية المؤسستين العسكرية والأمنية الأقرب، في ما أعتقد، إلى مباديء الحداثة، وكذلك في الشعور بأن تونس لا يمكن لها أن تنفك عن أوروبا وفرنسا بالذات لأسباب تتعلق، إضافة إلى جوانب أخرى، بوضعية الاقتصاد التونسي. وقد بادر حزب النهضة بالدعوة إلى تقاسم الحكومة مع أحزاب أخرى غير دينية رغبة، حسب ما يبدو، في تطمين الداخل وبعض دول الجوار والغرب بأن الحكومة في تونس، وليس الدولة التونسية فقط، لن تكون حكومة دينية.

أما الوضع في ليبيا فينطوي على بعض التهديدات. ذلك أنه لا توجد لدى المجتمع الليبي قاعدة حداثية واضحة ولفظة العلمانية تثير الفزع حتى بين أوساط الأكاديميين، وفكرة الاعتراف بالآخر ضعيفة في أفضل الأحوال، إضافة إلى عدم وجود مؤسسة عسكرية أو أمنية تحمي أسس الدولة المدنية.

وقبل أن أمضي إلى النقطة التالية أود توضيح الفرق بين”الدولة” الدينية، و”الحكومة” الدينية. يقصد بالدولة الدينية الدولة القائمة على أساس ديني، سواء حكمها رجال دين، مثلما هو الشأن في إيران وأفغانستان طالبان، أو لم يحكمها رجال دين، مثلما هو الأمر في السعودية وباكستان. أما المقصود بالحكومة الدينية فهو أن يصل حزب ذو توجه ديني إلى السلطة ويشكل حكومة وفق مباديء وقواعد وإجراءات الديموقراطية داخل دولة مدنية قائمة على التعددية وتداول السلطة، وقد تضطره نتائج الانتخابات إلى تشكيل هذه الحكومة بالتقاسم مع أحزاب أخرى غير دينية تقترب برامجها من برنامجه بدرجة أو أخرى.

لا أريد في هذا السياق الحديث عن المخاطر الداخلية والخارجية لقيام دولة استبداد ديني في ليبيا. وإنما أريد أن أطرح تصورا لمخرج من الأزمة وآلية لغرس الثقة بين القوى الاجتماعية والسياسية في ليبيا.

هذا التصور ينطلق من ضرورة التحلي بالحكمة والعقلانية من قبل جميع الأطراف وأن يصار إلى وضع ميثاق شرف مكتوب ومعلن تتعهد فيه أطراف الطيف السياسي، جميعها، بالالتزام بمباديء الديموقراطية الحقيقية وعدم الاستئثار بالسلطة واغتصابها في حالة الوصول إليها.

مقالات ذات علاقة

نقُوش : عالمُ العولمة يتَّسعُ للجميع

خالد السحاتي

كهف الضبعة

منصور أبوشناف

ما جدوى الشعر؟ ما جدوى الحَرب؟

فرج العربي

اترك تعليق