المقالة

وماذا «بعد» يا ليبيا؟!

بوابة الوسط

كأية بقعة من هذا العالم قررتِ في لحظات إلهام كبرى أن تتخلصي من قيودك، ومن ظلام استبد بك عقوداً، بل قروناً، كنت خلالها نهباً لكل مغامر من الخارج والداخل، وكنت خلالها اليتيمة في التاريخ والجغرافيا تنتقلين من دار رعاية إلى أخرى. ندوب الغزاة من الخارج على جسدك الرملي النحيل، وندوب الغزاة من الداخل تروي حكاية ساندريلا ليبية تاجر الكثيرون بجمالها وبكنوزها، وجعلوا منها فريسة لكل نهم لا يرى فيها إلا كفة ميزان من السالفيوم تكال بالذهب، أو حزماً من الحلفاء تمضي إلى خلف البحر كي تشرب حبر الحضارة المقابلة، أو شواطئ هادئة، طويلة وناعمة، تغري بالقرصنة وتجارة الرقيق وتهريب البشر. لا أحد التفت إلى بخورك الصباحي الذي يطلقه الندى كلما لا مس ترابك، ولا أحد عناه غروبك الساحر بعد قيظ نهار شربت فيه فاكهتك اللذيذة وخضرتك ينبوع الشمس التي حباك الله بها، نكهة ثمار في الماضي والحاضر، وطاقة نظيفة لمستقبل يباع فيه الطقس الجميل ويبرد فيه قيظ البيوت بصهد الشمس الساطعة.


قررتِ أن تكسري أقفال السجن الصدئة في لحظة استثنائية، وأن تتنشقي عبير الحرية الذي كم ثملت به أمم أخرى أدركت أن الحرية لا تقاس بثمن، ولا حتى بالأمن أو الغذاء، هبة القطعان الخرساء والدواب المدجنة التي ولدت دون غريزة أن تكون حرة. لكن سلالة الطغيان التي لا تفنى، وذرية الظلام التي تتناسل في كهوف التاريخ المعتمة، كانت لك بالمرصاد، فحريتك كأنثى خطر على شرف الذكورة التي تمسك بلجامك، ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم. أريق الدم في كل بقعة منك، وأثخنت الجراح جسدك وأنت حبلى بطفلة الحرية التي كم تغنينا بها في عرسك العظيم الذي لمعت أضواؤه في كل ميادينك. من جديد قايضوا الحرية بالأمن، ومن جديد أعادوا القيود إلى معصميك وأعادوك إلى بيت الطاعة كسيرة الجناح والخاطر، ومن جديد تنافخ الفحول متبارزين أمام أنوثتك الجريحة.

تداعى القوم من الخارج والداخل إلى قصعتك، واضمحل مساؤك الشاسع المليء بالنجوم، وبالسهر والموسيقى حتى اختزل في هلال أسود نفطي، أصبح الوطن والمغنم الذي يتحارب حوله المغامرون مثلما تحاربوا قديماً قرب المعاطن وآبار المياه الضحلة. اختفى كل سحرك الطبيعي، هوى النخيل أمام أنياب الجرافات، ولم يبق فيك سوى النخل المعدني الشارب من بحيرات الزفت الذي لوث كل شيء فيك. النعمة حولوها إلى نقمة، والموقع الساحر حولوه إلى فضاء للقرصنة والمتاجرة في البشر، وترابك الخصب حولوه إلى مقابر جماعية، ورملك الذهبي حولوه إلى مأوى لقطاع الطرق، وليلك الهادئ حولوه إلى مكتب سري للمؤامرات التي لا تنتهي.
سرقوا كنوزك المدخرة لأطفال قابعين في رحمك وقطعوا حبل سرتك قبل أن تلدي حلمك، سرقوا كل شيء، لأن اللصوص كانوا متربصين بك حين تخرجين من قفص الطغيان بحليك ومدخراتك، دون حارس ودون قانون ودون ضمائر تذود عن أنوثتك الخارجة عن سلطة الفحل الذي ما زالت تحن إليه بيوت الدعارة.
هربوا نفطك بسعر التراب، ومحوا أوشامك، وباعوا آثارك التي تروي حكايتك القديمة. هربوا نحاسك غزلانك وسلاحفك وإبلك وأغنامك وودانك وكل ما يدب على أرضك. يرمون الجثث في القمامة ويقتحمون المقاهي كأنها أوكار لصوص. مثل رباشة يحيطون بسيارة مهجورة على جانب الطريق حولوك إلى هيكل عظمي، أو معدني، هدموا أضرحتك وكسروا منحوتاتك وطاردوا أشباح الموسيقى في أماسيك، ترصدوا للمرح بوجوه متجهمة، وأدانوا الضحك فيك واتهموا الجمال بالكفر، وقتلوا خيرة نسائك ورجالك وشبابك، وخطفوا أطفالك، زوار الظلام مزورو التاريخ وملوثو الأرواح، الناطقون باسم الله، والله منهم براء، والناطقون باسم الوطن وهم يقتلون الوطن كل يوم، والمتحدثون باسم الشارع الذي ردموه بالقمامة والجثث والشتائم، والمتكلمون باسم الشعب، والشعب يصب عليهم لعناته في كل فجر وضحى ومساء.

فماذا بعد يا ليبيا؟!. نعم كم أرقتنا هذه الـ«بعد» لأن ما قبل كان دائماً معتماً. ما (بعد) القذافي كان قلق هذه الأرض ومن عليها، لأنها تعرف ونحن نعرف أن هذا الأفاق فصل البلد على مقاسه، واختصر تاريخك في تاريخه الشخصي، فلا قبل لك بالنسبة له ولا بعد لك. الطغاة مرضى نفسانيون ومرضهم مرتبط بالزمن، فيصبح عندهم الموت هو الرعب الذي يحيط بوهم الألوهية لديهم، تلك الألوهية التي أصبغها المنافقون على حاكم شرير يجلس كل يوم فوق المرحاض ليكتشف تفاهته وحين يخرج تحمله الهتافات الممجدة والأغاني الداعرة وقصائد المديح إلى وهمه من جديد، وما بين المرحاض ووهم الإله كان يتنقل بقلق وجودي يجعله في النهاية، هروباً من المصير، يُنظِّر لفكرة الأرض المحروقة بعده، وعلى ليبيا التي تزوجها قسرياً ورغماً عنها أن تحرق جثتها فوق نار جثته إذا ما مات مثلما يفعلون في الطقوس الهندوسية المتطرفة.
ماذا بعد يا ليبيا.. نعم دائماً هناك بعد لكل كارثة طبيعية أو بشرية، بعد سيصنعه الشرفاء الذين أبعدهم السفهاء عن المشهد حين أصبح الرصاص لغة الحوار الوحيدة، وحين أصبحت الميليشيات هي التنظيمات الوحيدة، وحين أصبح اللصوص حراس المصرف المركزي الوحيد، وحين اختبأ القضاة الشرفاء في بيوتهم وتسكع المجرمون في الشوارع بسلاحهم والمجرمون في فنادق خمسة نجوم بشرعياتهم المزيفة.
رغم كل القَبْل وما قَبْل، هناك (بعد) ينتظرك لتفتحي صفحة جديدة في التاريخ. تاريخك الوطني النافض عنه حبر الاستبداد الذي كان يكتبه على مزاجه.
ومثلما قال لي شيخ مسن «هذه وطن يخربه أهله ويصلحه أهله» سيصل المفسدون إلى طريق مسدود، ووقت المصلحين سيأتي لأن هذه سنة الحياة والدول.

مقالات ذات علاقة

Perché Giorgia؟

محمد قصيبات

إسمنت الهوية ووهم العيش المشترك

سالم العوكلي

قال لي زكريا !

حسام الوحيشي

اترك تعليق