لست أدري ماذا أكتب هذا الصباح.
كنت متحمّسة للكتابة عندما استيقظت، لكنني بعد أن فتحت الإيميل، وقمت بالرد على رسائل الطلاب واستفساراتهم، وقرأت دعوة لاجتماع القسم عند منتصف النهار، لم أعد أعرف ماذا أكتب.
لأكتب إذاً عن الكتابة نفسها.
الكتابة الموضوعية تختلف عن الإبداعية ما في ذلك شك، ومع ذلك فإنّ لها هي الأخرى إبداعها الدّاخلي.. وهي ليست سهلة كما يبدو للكثيرين، فمع أنها تتطلب الجانب المنطقي من العقل (وهو الأقرب والأسهل)، إلاّ أنها تتطلب أيضاً إلى جانب المنهج، الأسلوب والتنظيم والتسلسل، وربما التحليل والتركيب والاستنباط.
ولكن.. أليس للكتابة الإبداعية أيضاً شروطها وقوانينها؟ بلى..
بل إن هذه تشترط استخدام الجانب التخييلي من العقل، وهو الذي تسميه جوليا كاميرون الفنان الطفل (وهو الأبعد والأصعب) لتغلغله في أعماق النفس، بسبب كبحه وتأجيله والاعتقاد بتناقضه مع الحياة اليومية بضغوطاتها وشروطها، وخضوعها للعقل والمنطق. إن هذا الطفل، المختبئ في أعماق الفنان، هو الكفيل بإنقاذه من العوائق التي تشده للوراء، والعقبات التي تقف في طريق قدرته الإبداعية. وهو الوسيلة لاكتشاف الذات الخلاقة الثاوية في داخل كل ذي موهبة أو شغف بفن ما.
برنامج جوليا كاميرون ليس خاصاً بالكتابة والكُتّاب، بل إنه عامٌّ لكل فنّان ولكل نوع من الفنون، وهي إنما تستعمل الكتابة كوسيلة لإغواء الذات المبدعة للحوار، وللخروج من كهفها المظلم لتكتشف أغوارها وموهبتها. فالفنان الحقّ، تقول جوليا، ليس هو الذي يتمطّى تسعة أشهر في السنة، في انتظار الإلهام، فإذا جاء الإلهام جاءت معه القدرة للكتابة طوال التسعين يوماً الباقية، ليقدم كتابه للنشر! ولكنه الشخص الذي يمارس الكتابة كل يوم.. شيئاً فشيئاً .. قليلاً قليلاً .. ومع الأيام تتجمع تلك الكتابات، فتفتح طريق الإبداع المغلق، وقد تتكاثر وتتسق لتكوّن جسماً واحداً متماسكاً.
الكتابة اليومية من شأنها أن تقضي على الشعور بالإحباط الذي يعتري الكاتب، وهو ما يُسمى عندها بعائق الكاتب writer’s block، لأن الجلوس للكتابة بطريقة منتظمة، يجعل الفنان حريصاً على اصطياد الأفكار التي يكتب عنها، وهي التي ترى جوليا نفسها بأنها موجودة بكثرة حول الفنان، أو بتعبير أدق داخله، وهي تنصح بألاّ يرى الفنان نفسه منتجاً للأفكار، أو مُنشئاً لها من خارجه، بل يجب أن يعتبر نفسه وعاء تتدفق من داخله الأفكار. وفي هذا السياق تشبّه جوليا الفنان بالمزارع، فتقول إن المزارع لم يخلق الأشجار، وإنما نثر البذور في الأرض البور، وسقاها ورعاها حتى صارت شجرة وارفة مثمرة، والفنّان هو أيضـاً زارع للأفكار وراعيها، وبذورها موجودة في هذا الكون، وموجودة في داخله.
تتحدّث جوليا كاميرون عمن أسمتهم ” فنّاني الظل”، الذين اعتبرتهم مأزومين. وهي تشرح ذلك بقولها إنّ المساعد في إخراج فيلم هو في الحقيقة مخرج، أو فنان يتوق إلى ممارسة الإخراج، لكنه يعاني من معيقات، أو أزمات (نفسية وفنيّة ومنهجيّة)، لم يحقق معها توقه للإخراج! والصحفي الذي يكتب عن الأعمال الأدبية قد يكون أديباً مأزوماً أيضاً، بمعنى أنه يكتب عن إبداعات الآخرين، بدل أن ينشئ هو مثلها. وقد أتت بأمثلة واقعية لموهوبين في مجال الفن والأدب ممن حكمت عليهم الظروف بالتوجه للاشتغال بمجالات أخرى بعيدة؛ لكن بعد بضعة سنين وجدوا أنهم لا يستطيعون مقاومة كراهيتهم لأعمالهم، وشغفهم بمجالات مواهبهم التي تجاهلوها. ولذلك فقد اضطروا إلى العودة والبدء من الدرجات الدنيا في تلك المجالات. ولذلك فالمؤلفة تنصح القارئ، بل وتحذّره، من أن يتجاهل أحلامه ويتجاهل شغفه بالإبداع وميله الذي أخفاه إلى دنيا الخلق العجيبة.
وفي ردّها على سؤال كيف أبدأ من جديد في هذا العمر الذي قد أضطر معه إلى العودة إلى مستوى الناشئين تقول: إن الإنسان إذا سمح لنفسه بالمحاولة والخطأ، وبالتخبط والتصحيح، فإنه لا شك سيحقق درجة من التقدم فيما بقي من عمره، وأنه سيصل مع الأيام لمستوى من الإبتكار أعلى مما لو استسلم لواقعه ورضي بأن يخون أحلامه الأصلية.
وفي كل منعطف تعود المؤلفة إلى التأكيد على ضرورة كتابة أوراق الصباح تحت كل الظروف، وبدون تخطيط ولا مراجعة ولا تصحيح.. دون أن تعطي فرصة للمراقب الداخلي أن يكتشف أخطاءك النحوية، أو هفواتك الأسلوبية.
اكتب وكأنك تتكلم.. دون تأتأة أو تصنّع!
سأستمر في المحاولة.