مِنْ بَيْنِ المَفَاهِيمِ الكَثِيرَةِ والمُصطَلَحَاتِ المُتعدِّدَةِ التِي عَرَفَتْ طَرِيقَهَا بِبَرَاعَةٍ إِلَى أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا، وَأَصْبَحَتْ مُتَدَاوَلةً بشَكْلٍ كبيرٍ ومُزْعِجٍ فِي السَّنَوَاتِ الأَخِيرَةِ، وَخُصُوصاً فِي الإِعْـلاَمِ المَسْمُوعِ وَالمَقْرُوءِ وَالمَرْئِيِّ: مُصْطَلَحُ “العـولمـة”(Globalization)، حَيْثُ ظَهَرَ هَذَا المُصْطَلَح فِي السِّيَاسَةِ الدَّوْلِيَّةِ بِشَكْلٍ وَاضِحٍ مَعَ بِدَايَةِ التِّسْعِينِيَّاتِ مِنَ القَرْنِ المَاضِي(كَمَا يَرَى البَعْضُ)، وَذَلِكَ فِي إِطَارِ الخِطَابِ السِّيَاسِيِّ لِلقوَى الكُبْرَى، وَقَدْ رَكَّزَ هَذَا الخِطَابُ عَلَى أَنَّ العولمة تَعْنَي “تَحَوُّلَ العَالَم إلَى سُوقٍ وقريَةٍ عَالَمِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، تَنْتَقِلُ فِيهَا عَنَاصِرُ الإِنْتَاجِ دُونَ قيُودٍ”.
وَهَذَا هُوَ رُبّـَمَا جَوْهَـرُ العولمة المَقِيتَة، لاَ قيُودَ بَعْـدَ اليَوْمِ، حُريَّةٌ تَضْرِبُ وَتُدَمِّرُ بِقُوِّةٍ كُلَّ شَيْءٍ جَمِيلٍ، إِن استطَاعَتْ، تَجْتَاحُ كُلَّ المُجْتَمَعَـاتِ، تَكْتَسِـحُ كُلَّ الثقَافَـاتِ، لاَ أَحَـدَ يَقِفُ فِي طَرِيقِهَــا-هَكَذَا يُرِيدُ دُعَاتُهَـا- فِي ظِلِّ هَيْمَنَةِ دوَلِ المَرْكَــزِ المُتَقَـدِّمَةِ، وَبِقِيَادَتِهَـا وَتَحْتَ سَيْطَـرَتِهَـا، وَفِي ظِـلِّ سِيَـادَةِ نِظَـامٍ عَـالَمِيٍّ لِلتَّبَادُلِ غَـيْرِ المُتَكَـافِئِ. فَالعَوْلَمَةُ إِرَادَةٌ لِلْهَـيْمَنَةِ، وَبِالتَّالِي قَمْعٌ وَإِقْـصَاءٌ لِلْخُصُوصِيِّ، وَمُحَاوَلَةٌ لاحْتِوَاءِ العَالَمِ، وَجَعْلِهِ تَحْتَ دَائِرَةِ الهَيْـمَنَةِ الكَامِلَةِ فِي كَافَّةِ المَجَالاَتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالاقتِصَادِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ وَالاتِّصَالِيَّةِ، مِنْ خِلاَلِ تَدَفُّقِ السِّلَعِ وَالمَعْلُومَاتِ وَالأَفْكَارِ وَالخَدَمَاتِ وَالأَمْوَالِ دُونَ حَوَاجِزٍ أَوْ قُيُودٍ، بِسَبَبِ تَطَوُّرِ قَنَوَاتِ الاتِّصَـالِ المُخْتَلِفَةِ، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ، يَرَى المُفَكِّرُ الرَّاحِلُ مُحمَّد عابد الجابري (1935-2010) أَنَّ: “العَوْلَمَةَ نِظَـامٌ (System)، وَالنِّظَـامُ لاَ يُـقَـاوَمُ مِـنْ خَــارِجِـهِ إِلاَّ بِنِظَـامٍ مُكَـافِئٍ لَهُ، أَوْ مُتَفَـوِّقٍ عَـلَيْهِ، وَنَحْنُ فِي العَـالَمِ العَـرَبِيِّ نَعِيشُ حَالَةَ اللاَنِظَـامِ. لَيْسَ لَدَيْنَا نِظَـامٌ عَـرَبِيٌّ يُكَافِئُ النِّظَامَ العَـالَمِيَّ لِلْعَـوْلَمَةِ، فَلاَ سَبِيلَ إِذاً إِلَى مُقَـاوَمَةِ سَلْبِيّـَاتِ العَـوْلَمَةِ إِلاَّ مِنْ دَاخِـلِ العَـوْلَمَةِ نَفْسِـهَـا، بِأَدَوَاتِهَـا، وَبِإِحْـرَاجِهَـا فِي قِيَمِهَـا وَتَجَـاوُزَاتِهَـا. وَأَيْضـاً بِفـَرْضِ نَـوْعٍ مِنَ النِّظَـامِ عَلَى الفَـوْضَى العَـرَبِيَّةِ القَـائِمَةِ، فَـوْضَى اللاَنِظَـامِ!”.
وَهَكَذَا، فَإِنَّهُ عَلَى الرُّغْمِ مِنْ كُلِّ مَسَاوِئِ العولمَةِ، عَلَى كَافَّةِ الصُّعُدِ، وَمُخْتلفِ المُسْتَوَيَاتِ فَيُمْكِنُ لِلدوَلِ النَّامِيَةِ الاسْتِفَادَةُ مِنْ مُعْطَيَاتِ العولمَةِ نَفْسِهَا لِمُحَارَبَتِهَا، وَعَلَى النَّحْوِ الذِي تَحَدَّثَ عَنْهُ الجَابِري فِي قَوْلِهِ الذِي سَلَفَتِ الإِشَارَةُ إِلَيْهِ، فَالوَاقِعُ يَقُولُ أَنَّ القِوَى الكُبْرَى هِيَ مَنْ يُسَيْطِرُ عَلَى مُقَدَّرَاتِ العَالَمِ، وَيُعِيدُ رَسْمَ الخَرَائِطِ الإِقلِيمِيَّةِ وَالدَّوْلِيَّةِ، وَيُهَيْمِنُ حَتَّى عَلَى المُنَظَّمَاتِ الأُمَمِيَّةِ الكُبْرَى كَالأُمَمِ المُتَّحِدَةِ، وَغَيْرِهَا، وَبِذَلِكَ تَذْهَبُ الدَّعَوَاتُ المُنَاهِضَةُ لِلعَولمَةِ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ، وَتُسْحَقُ الشُّعُوبُ الفَقِيرَةُ، وَتُسْتَغَلُّ ثَرَوَاتُهَا، مِنْ قِبَلِ تِلْكَ القِوَى وَحُلَفَائِهَـا. وَلأَجْلِ هَذَا فَإِنَّ الأَجْدَرَ بِالدُّوَلِ النَّامِيَةِ بَدَلاً مِنْ تَضْييعِ مَزِيدٍ مِنَ الوَقْتِ فِي الصِّرَاعَـاتِ وَالفَسَـادِ وَتَكْرِيسِ التَّخَلُّفِ وَنَقْدِ العولمَةِ العَمْيَـاءِ، أَنْ تَتَّجِهَ إِلَى البِنَـاءِ وَالتَّطْوِيرِ وَالتَّعْمِيرِ وَتَحْقِيقِ التَّنْمِيَةِ فِي كَـافَّةِ المَجَـالاَتِ، فَأَدَوَاتُ العولمة وَمَا تُوَفِّرُهُ مِنْ إِمْكَانِيَّاتٍ مُذْهِلَةٍ اليَوْمَ هِيَ فُرْصَةٌ لإِنقَاذِ العَالَمِ الثَّالِثِ مِنْ وَيْلاَتِ الفَقْرِ وَالفَوْضَى. هَلْ هَذَا مُمْكِنٌ؟ أَمْ هِيَ أَضْغَـاثُ أَحْــلاَمٍ؟!.