محمد نجيب عبدالكافي
إنّ عدم معرفة التاريخ الحق يجعل الحكم على الأشخاص وأعمالها يأتي خاطئا أو ظالما، لأن الإطار والأوضاع الداخلية والخارجية التي تجري فيها التصرفات والإنجازات هي غالبا التي تكيّف أو تُجبر على تكييف اتخاذ القرار وتنفيذه. لذا قبل الحكم على عشرية الخمسينات من القرن الماضي أو تقييم منجزاتها، وهي الفترة التي بدأت فيها ليبيا أولى خطواتها، يجب التذكر أومعرفة إنها فترة لم تعرف فيها منطقتنا تحركات مثلها. اسقاط النظام الملكي بمصر، وسلسلة انقلابات في سوريا، لحقت بها العراق، وصراع مسلح في تونس والمغرب لنيل الاستقلال، ثم بزغت الثورة الجزائرية التي قدمت ليبيا لها ما لم يقدّمه غيرها، وبداية حرب باردة بين الشرق والغرب، وبعث ونشر لفكرة الوحدة العربية، وفوق الكلّ القضية الفلسطينية بشعاراتها المثيرة للحماس ومحركة للمشاعر. قليلون هم اليوم من الشباب وحتى من الكهول، من يستطيع تكوين صورة صادقة وضاحة من تلك الفترة وتفاعلاتها لأنّ بلداننا – أقوله بكلّ حزن وأسى – دأبت على تهميش التاريخ أو إهماله، بقديمه وحديثه، لأن كلّ جديد يعتبر أنّ تاريخ البلاد يبدأ معه وينتهي بانتهائه وزواله. لذا يُقضى بكلّ الطرق والوسائل على كلّ ما لا يناسب الوضع آنذاك فيُهمل ما يجب إهماله، ويُزيّف ما يحتاج إلى تزييف. نتيجة مثل هذا التصرّف، هي نشأة أجيال تجهل تاريخها الحقيقي، قديمه وحديثه، فتفقد ركيزة أساسية من هويتها وتكوينها.
تعرّضت للتاريخ، ولعلي أطلت، لوثوقي من أنّ الكثيرين من الشباب خاصّة، ليس لهم فكرة واضحة عن تلك الأيام والسنين التي وقفت ليبيا وسط عواصفها – لم أذكر إلا بعضها – وقفت، رغم طراوة عودها وهشاشة عضدها، محاولة تحاشي الضرر والسعي لإرضاء الجميع داخليا وخارجيا.
حماس الشباب:
أثارت جميع تلك الأحداث كلّ أشكال الحماس في الشعوب والجماهير، والشباب طبعا في المقدّمة. المؤلم في هذا، بالنسبة لي آنذاك، هو أنّ الشباب الليبي كان يشعر بما يشبه مركب نقص كأنه يريد ثورة يثبت بها أنه لا يقل عن إخوانه في البلدان الشقيقة. أذكر الآن بحنان وشوق، كيف كنت أجهد نفسي لإقناع أصدقائي الطلبة، بأنهم سبقونا في البطولات والتضحية والفداء. جاء يوم قامت فيه مظاهرات شبابية فعرفنا أن منهم من اعتقل وقيد إلى مراكز الشرطة . كنت أعرف معظمهم فما كان منّي، دون سابق تفكير، إلا أن اسرعت الى وزارة الداخلية، وطلبت الدخول على الوزير. استقبلني المرحوم أحمد عون سوف بلطفه المعروف، رغم الظروف، في أقل من ربع ساعة، وسألني عن حاجتي ظنا منه أني اتيته بصفتي سكرتير مكتب المغرب العربي المسؤول عن نشاط المناضلين من تونس والجزائر والمغرب. لكن عندما سمع قولي “أني جئت أسأل لماذا أوقفتم أبنائي” جلس وطلب مني الجلوس وقال بالحرف الواحد: “لتعلم يا أستاذي إنهم أبناؤنا قبل أن يكونوا أبناءك. ونحن لم نعتقلهم بل استضفناهم، ليقضوا معنا ليلتهم مكرّمين، حتى تهدأ عواطفهم ولا يؤتون ما لا تحمد عقباه. غدا صباحا يمكنك تناول القهوة صحبتهم.” بكلّ صدق أقول أني شعرت ببعض الخجل مرفوقا باحترام وتقدير وربما إعجا بهذه ليبيا التي عرفت فأين هي؟
للحديث بقية إن طال العمر.
_______________________________
– الصورة: التقطت عام 1958، السيد أحمد عون سوف، يتوسط اعضاء المجلس التنفيذي بولاية طرابلس،المملكة الليبية المتحدة، عندما كان رئيسا للمجلس.