مدينة بيروت (الصورة: الشبكة).
المقالة

بيروت.. بيروت

ليس الحبُ أن تولّي وجهكَ شطرَ مدينة كانت يوماً ما واحة ظليلة للحرية في سعير صحراء لا تنبت إلا العوسج والقمع، ولكن الحبَ أن تصلَ بيروت وتُمنع أمنياً في مطارها من لقائها وترّحل بعد اثنتي عشرة ساعة من الاحتجاز التعسفي، وحين يحين وقت ترحيلك يصطحبك شرطي إلى سلم طائرة تطير بك مغادرة على كُره منكَ سماءها فـ”يلتفتُ القلبُ”.

مدينة بيروت
مدينة بيروت (الصورة: الشبكة).

كان الوقت مساءً خريفياً دافئاً، وكنتَ بعد سفر طويل نسبياً خفيفاً كنسيم بحري طرابلسي طري في مساء صيفي قادماً من مدينة معروفة بلامبالاتها، وكان مطار بيروت في حالة استرخاء، وكنتَ ترصدُ في حنايا قلبك “أمولة” عائدة إلى بيتكم في “وريستر بارك” عقب يوم مدرسي طويل، حيث ستبدأ بابتهاج تحررها من الزي المدرسي والجلوس إلى مكانها المعتاد من الطاولة في غرفة المعيشة لتبدأ حصتها اليومية مع جهاز الحاسوب حين وقفتَ في طابور مع غيرك من القادمين منتظراً بتوجس مثولكَ أمام شرطي جوازات ليمُنّ على جواز سفركَ بختم تأشيرة تتيح لك فرصة لقاء آخر بمدينة مازال صدى الرصاص والقواذف يتردد في قلوب وذاكرات سكانها ومازالتْ تواصل بعناد غزلَ ونسج أجنحة من حرير قلبها لتطير بها حكايات العاشقين وقصائد الشعراء وما يجئيها نازلاً على قدمين من أغاني التلال ومواويل الجبل.

2
حين وقفتُ أمامه حييته بايماءة من رأسٍ اشتعل شيباً فرد التحية بايماءة من رأس فاحم الشعر بتسريحة عسكرية. مددتُ له جواز سفري. التفتَ نحو جهاز الحاسوب وبدأ في ضغظ أزرار لوحته ثم سألني دون أن يلتفت نحوي: أنت مولود في طرابلس لبنان؟ رددتُ فورياً: طرابلس ليبيا. فالتفت بجسده نحوي مسدداً نظرة من عينين سوداودين صقريتين وبدأ يتصفح أوراق جواز سفري بدقة ثم نادى على رجل أمن آخر أكبر منه سناً وأعلى رتبة كان يقف قريبا منا وحدثه بصوت هامس ثم سلمه جوازسفري وطلب مني أن أتبعه. دخل الضابط مكتبا صغيراً وأنا أتبعه. لاحظتُ وجود مكتبين: واحد بالواجهة وآخر في زاوية إلى يسار الداخل. أمام مكتب الواجهة كنبة قديمة طلبَ مني الجلوس مشيراً بيده نحوها وسلم جواز سفري إلى آخر أصغر سنا وأقل رتبة وأثقل وزناً آمراً الاتصال بمديرية الأمن فبدأ الآخر في تصفح جواز سفري ثم في الكتابة على ورقة بيضاء وحين انتهى نهض من كرسيه وتحرك باتجاه جهاز تصوير أوراق كان موضوعا على منضدة صغيرة بين المكتبين وقبالة الكنبة حيث أجلسُ مرفوقا بقلة حيلتي وصبري متذكراً تفاصيل مماثلة في الماضي حدثتت لي في مطار طرابلس عديد المرات. انتهى رجل الجوازات من تصوير جواز سفري والتفت بجسده الثقيل نحو جهاز هاتف وفاكس قريب منه وضغط أزراره وأرسل الأوراق ثم طلب مني مغادرة المكتب والجلوس في مكان حدده يقع في آخر صالة وصول القادمين مشيراً إلى حيث يجلس رجل مسافر وحيداً، أعلمني أنه ليبي مثلي، وطالبا مني الجلوس قربه إلى حين وصول رد من المديرية بالدخول أو الرفض.

قبل أن أغادر المكتب سألته عن السبب وراء حاجتي للحصول على تصريح أمني لدخول بيروت بجواز سفر بريطاني. قال لي إن الأمر لا علاقة له باي جنسية جواز سفر أحمله انما بأصلي الليب!!!! أدركت أنه لا جدوى من المماحكة أو الزعل أو الدخول في متاهة من حرق الأعصاب والصراخ وأنني وغيري من الليبيين -ومن الأخير- ضحايا نواصل تحمل دفع ثمن نتائج اختفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا منذ حوالي أربعين عاما.

بعد تعارف قصير مع الليبي المحتجز الآخر تبين لي أنه في حالة انتظار منذ ثمان ساعات وأنه يتكسب من تصريف البطاقات المصرفية ولا يتوقف عن سب وشتم من كان وراء السبب فيما آلت إليه أحوال البلاد والشعب وكنت تأدباً مجبرا على الاستماع إليه متدخلا من حين لآخر لتطييب خاطره وتهدئته فيصمت قليلا ثم يعاود السب والشتم فأهرب إلى دورة المياه القريبة وأشعل سيجارة نافثا دخانها وما اعتمل في قلبي من غضب. وحين أنتهي منها أعود أدراجي للجلوس قربه فيواصل معزوفة السب والشتم من جديد فأصبر ما استطعت ثم أستأذنه مجددا قاصدا دورة المياه والتدخين. بعد أكثر من ساعتين وعدة سجائر جاءنا شرطي وأبلغ الرجل بوصول الموافقة على دخوله بيروت فنهض فرحاً ونهضت أنا أيضا مهنئا ومتمنيا له إقامة طيبة في بيروت وممنيا النفس بقرب حصولي على الموافقة الأمنية مثله.
بدلاً من الموافقة أبلغني نفس الشرطي بعد مرور قرابة ساعة أخرى أنني ممنوع من الدخول ويتوجب احتجازي إلى حين ترحيلي إلى الجهة التي جئت منها وأن علىّ أن أتبعه إلى نفس المكتب الصغير لإنهاء الإجراءات الإدارية التي استمرت قرابة نصف ساعة أخرى قبل أن يسلمني إلى شرطي آخر اصطحبني إلى جهة أخرى في المطار وسلمني من خلال محضر تسليم واستلام رسمي إلى مكتب آخر وغادر تاركني لمصيري جالساً على كرسي قبالة شرطي مستغرق في تسجيل لمعلومات بخط يده في سجل كبير وبمجرد انتهائه من التسجيل وضع جواز سفري في درج بالمكتب ونظر نحوي من خلال عدستي نظارته مشيراً بيده اليمنى للخارج طالبا مني مغادرة المكتب والالتحاق بغيري من المحتجزين في حجرة تقع في نهاية ممر.

3
«يدور الشعير ويرد لقلب الرحى.» يدور الوقت لتجدَ نفسكَ مرة أخرى في غرفة احتجاز ذكرتك بتلك التي دخلتها أول مرة منذ أربعين عاماُ صحبة رفيقين في مركز شرطة الحدائق ببنغازي. الفرق بين الاحتجازين أنك هذه المرة ستقضي ساعات وربما نهارا أو اثنين على الأكثر، في حين أن احتجازك ورفيقيك في بنغازي استمر قرابة عشر سنوات قضيتها متنقلا بين سجن الكويفية في بنغازي وسجون الجديدة والحصان الأسود وأبوسليم في طرابلس. «ليبيتك» في الحالتين تمثل العامل المشترك وهي أيضاً وراء كل سوء حظ أحاق بك في الماضي ويحيق بك في الحاضر وقد يحيق بك مستقبلا!!

في طريقك إلى الحجرة التي أشار إليها الشرطي تلاحظ على يسارك وجود أخرى ومن شق باب خشبي موارب تصلك من داخلها أصوات نساء وأطفال لكنك تواصل المشي إلى مقصدك. الحجرة عارية الجدران والأرضية. على اليمين تقع عيناك على رجل نائم في وضع جلوس على كنبة فردية فاقع لون زرقتها أو ما بقي منه ومتهرئهة من القدم وبجانبها كنبة زوجية خالية وإلى جانبها أخرى فردية وفي الجهة المقابلة توجد كنبتان فرديتان بينهما مسافة، فتختار الجلوس إلى أقربهما إليك وتشعل سيجارة. كأي غرفة توقيف في مركز أمني أو زنزانة في سجن تلاحظ كموقوف وسجين سابق آثار حرص من جاء قبلك على تركها تذكيرا لمن يأتي بعدهم بمرورهم من نفس المكان على شكل كتابات وتوقيعات ورسوم زادت في كآبة الجدران وقلبك.

من خلال عملية تعارف قصير برجل آخر سوري محتجز منذ يومين مع أبنائه الصغار وزوجته يتبين لك أن سلطات المطار غير مسؤولة عن توفير أي شيء لك أو لغيرك من المحتجزين. وكل ما وفرته قوائم عديدة بأكلات ومشروبات يعدها ويوفرها مقهى في المطار لمن أراد عُلقت على باب الحجرة من الخارج وعلى جدران الصالة الخارجية وبأسعار لا تقل فُحشا عن أسعار مطاعم ومقاهي منطقة نايتس بريدج في لندن.

تجلس على الكنبة ساكناً متوجساً تدخن بشراهة مستغرقاً في التفكير ملاحظاً تزايد أعداد المحتجزين من مختلف الأعمار ومن الجنسين جاءوا إلى بيروت من بقاع عديدة من وطننا العربي “السعيد!!” وفاق عددهم ما كان متوفرا من أماكن جلوس محدودة حتى أن بعضهم كان يجلس على أرضية الحجرة والممر. من حين لآخر يتقدم نحوك أحدهم مستفسراً عن سبب احتجازك ثم حين تخبره بالسبب ينظر نحوك مندهشا ومستغربا في آن. من حين لآخر يقترب شرطي من الحجرة لينادي على شخص ما ليبلغه ما استجد من تطورات في أمر الموافقة الأمنية أو الترحيل.

عند الساعة الخامسة فجر اليوم التالي يصلك وأنت جالس على الكنبة مرهقا من التعب والسهر صوت شرطي ينادي باسمك فتنهض متثاقلا من مقعدك ليطلب منك مرافقته إلى المكتب حيث يجمع عدة أوراق بسرعة ثم يغادر المكتب ويقفل بابه بمفتاح ويتجه نحو باب القسم وأنت تتبعه متجها بك إلى جهة مكتب آخر في جهة أخرى من المطار حيث يتخلص منك بمحضر تسليم وتسلم رسمي ويسلم جواز سفرك إلى الشرطي الآخر ويغادر. تعرف أن موعد ترحيلك قد أزف فتحمد الله على نهاية “المرمدة”.

4
وعدٌ مني يابيروت بأنني سأعود بجواز سفر ليبي للقائك مجدداً وبدون تصريح بموافقة أمنية من أية جهة في وقت آمل أن يكون قريباً.

______________________

نشر بموقع بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

عن القاهرة ومحفوظ عبدالرحمن

يوسف القويري

تجربتُنا مع مسابقة أمير الشعراء!

المشرف العام

بوسالمين وبو ستة والحرية و الشط

عبدالعظيم باقيقة

اترك تعليق