المقالة

عن القاهرة ومحفوظ عبدالرحمن

هالني أن المعمار في «القاهرة» تغير في معظمه تغيراً واسع النطاق إلى درجة دفعتني للصياح فيمن حولي: «أين القاهرة التي غادرتها قبل ستين سنة مضت ولم أزرها مؤقتاً إلا اليوم؟!».
كنا نجتاز كوبري قصر النيل بسرعة محدودة بحكم الزحام تسمح لي بتأمل المشاهد التي تراءت لي شديدة الاختلاف عما مضى. فلأول مرة أرى حي الدقي وحي العجوزة من أعلى حتى أني للوهلة الأولى كدت أن لا أعرفها. وبلغنا وسط القاهرة بعد جسور كثيرة شيدها المهندسون والعمال إضافة إلى الأنفاق الطويلة لتخفيف الضغط على الشوارع القديمة.

قلتُ متذمراً:
– القاهرة هي تلك الشوارع الأصلية القديمة التي لا أعرف سواها!.
قالوا:
– لابد أنك تعرف أن ملايين كثيرة من الناس أضيفت إلى العاصمة المصرية المترامية الأطراف.
فقلتُ بهدوء نافد:
– أعرف.. لكنني لم أر النيل!.
قالوا:
– كيف ذلك !؟ .. لقد مررنا فوقه!.
فهتفت بصوت جهير قائلاً:
– أوه مررنا فوقه فقط. أعرف ذلك. عندما كنا على كوبري قصر النيل وحيثما هجعت السفن راكحة في مواضعها ولقد استوحى «نجيب محفوظ» كتابه «ثرثرة فوق النيل» من هذا المشهد عند شاطئ النيل.

ووصلنا مقهى «ريش» الشهير حيث يتوافد ليل نهار أدباء مصر الكبار والصغار ليشاهدوا بصمت توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأم كلثوم.

اتخذنا مقاعدنا في مقهى «ريش» وكان معنا الأستاذ بشير زعبية رئيس تحرير جريدة «بوابة الوسط» والأستاذ الليبي حسام الفطيمي مرافقي الصحي والدكتور «زياد علي» وكان وقتها يتحدث حديثاً ممتعاً عن الأدب وذكرياته مع النجم السينمائي «كمال الشناوي».

وكان معنا في المقهى بعض الأساتذة الآخرين الذين لا أتذكر – مع الأسف – أسماءهم.
قلت لمن حولي:
– أرجو أن يتصل أحدنا بالأستاذ «محفوظ عبدالرحمن» لتكتمل باقة المقهى الأدبي.
وفوجئت وأنا أرى الجميع حولي وقد انتابهم وجوم عميق.
وسرعان ما اتضح لي سبب سكوتهم ووجومهم.

قالوا بأسى:
– رحمة الله عليه «محفوظ عبدالرحمن» فقد وافاه الأجل في الفترة القصيرة الماضية فمات موتاً طبيعياً دونما مرض أو حوادث.

وترقرق الدمع في عيني وسالت من تحت الإطار الأسفل لنظارتي الطبية دموع على الخدين بلا نشيج.

كان «محفوظ عبدالرحمن» رفيقي في مدرسة بني مزار الثانوية في عهد الملك فاروق حيث تمتد أمام سور المدرسة بعد الشارع المعبَّد «الترعة الإبراهيمية». وكنا نجلس إما في فناء المدرسة أو في خارج المدرسة في حديقة الأزهار التابعة للمدرسة. وكانت ثانوية البنات جنوب مدرستنا ولها جدار واحد فبني مزار مدينة متطورة ذات أخلاق عالية.

كان صديقي «محفوظ عبدالرحمن» ينشر وقتذلك في مجلة «الرسالة» لمؤسسها «أحمد حسن الزيات» وكذلك مجلة «الثقافة» للدكتور «أحمد أمين». وكانت تصلنا باستمرار في قطار الصحافة مجلة «الأديب» اللبنانية. وكنت من جانبي أقرأ على “محفوظ عبدالرحمن” بعض إنتاجي الأدبي.

وحينما انتقل إلى مدينة «السنبلاوين» في دلتا مصر استمرت علاقتنا عبر الرسائل.

قلت لمن حولي بصوت مُتهدَّج:
– لقد نسي عندي كراسة وردية الغلاف فيها بعض أعماله الأدبية وكنت سأعيدها إليه عندما طلبت منكم الإتصال به.
فقالوا:
– رحمة الله عليه.
وقلت على الفور:
– أسكنه الله فسيح جناته وألهمنا وألْهَمَ ذويه الصبر والسلوان.

__________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

في ذمّ النبأ.. في مديح النبوءة!

إبراهيم الكوني

ما عادت الأرض «بتتكلم عربي» يا سيّد!

سالم الهنداوي

ماذا لو؟

المشرف العام

اترك تعليق