.
النص المختزَل الذي يُرعب السُلطة
(فصل من مخطوط كتاب (القذاذير) للكاتب أحمد يوسف عقيلة)
.
الأغنام تُشكِّل نوعاً من الْمجتمع الْمُوازي.. حتَّى إنَّها تأخذ أسماءً مُعَيَّنة تُنادَى بها.. وتُعرَف حتَّى الجيل الرابع.. وربّما أكثر.. لهذا وُظِّفت في الأدب الشعبي في الرمز لنقد السُلطة.. فالأغنام (الرعيّة) ترمز للشعب.. ولهذا مرجعية دينية من خلال تسمية (الراعي والرعية).. والراعي هو الحاكم.. وإذا كان الحاكم ظالماً تحول من رمز (الراعي) إلى رمز (الذيب).. وغنّاوة جَزّ الصُّوْف مُحملة بالرمز.. فظاهرها على الأغنام.. وباطنها غنّاوة عَلَم.. أوما يُمكن تسميته بالمَسْكُوت عنه.. وهو المَقصود.. وهذا نوع من التَّوْرِيَة.. وهذه التورية هي التي منحتها ومضتها الشعرية.. حيث أمكنَ من خلالها تهريب الكثير من المكابيت.. وما يهمنا هنا هو الرمز السياسي في نقد السُلطة.
للتدليل على أهمية الغنّاوة ـ هذا النص المختزل الذي يرعب السُلطة ـ فقد دفع الشاعر محمود بوشعيب الشهير بلقب (البولندي) حياته ثمناً لسبع كلمات فقط:
سَمْسارة هَوِيْد الليل … كَدَّوا الضان وازَوا ثَنُوها.
يتحدث هنا عن الاعتقالات التي تجري آخر الليل.. ونعت السُلطة بالسمسرة.. السمسار الشرعي ينبغي أن يأتي في وضح النهار.. أمّا من يأتي تحت جنح الظلام فهو مشبوه.. والثنو: جمع ثني.. وهو الكبش الفتيّ.. بعد تجاوز الحوْل.. وتُجمع ثني على ثنيان أيضاً.. غير أن (ثنو) من جموع الكثرة في اللهجة الليبية.. فالشاعر يريد أن يدلل على كثرة المعتقلين.. نص مختزَل في مقابل ترهّل السُلطة.
في ثمانينيات القرن الماضي قال الشاعر:
الذيب ما القي قَنّاص … يلقط مساربه نين يقتله.
وهو تحريض على قتل الحاكم.. مما جعل شاعراً آخر يقول:
إن زلت في اطراد الذيب … بسلاح يا غلَم نين نقتله.
لكن حين ظهر موضوع توريث السُلطة في ليبيا رد الشاعر:
حَتَّى لُو قتَلْت الذِّيْب … ايْجِي ولده ساطِي عَ الغَلَم.
فقتل الحاكم الظالم لن يحل المشكلة نظراً لأن وريثه هو ابنه.. والمثل الليبي يقول (ما ايجي لبوه غير الذيب).
بعدما اختلطت الأمور في ليبيا.. ولم يعرف الناس المسؤول من اللص قال الشاعر:
كاثِر جفِيْل الضان … تَمّا كلبها كَيْ ذيبها.
حين كثر القتل في السجون وحرب تشاد قال الشاعر سليمان الشرّيمة:
ما من اغْذا قَزّنت … قَزِّن ضناك يا ذِيْب يا الله.
***
عندما احتج الناس على قتل الجنود الليبيين في تشاد.. في حرب لا ناقة فيها لليبيين ولا جمل.. أنكر الحاكم موت أي جندي هناك.. بل أنكر حرب تشاد من أساسها.. فقال الشاعر عبدالكافي البرعصي:
علي مَن تريد اتخيل … الراعي جحد ريحة الغذا؟!
فصغار االأغنام (الغذا) ترمز للشباب.. ومن المستحيل أن ينكر الراعي ضياع الغذا.. لأن الأمهات ستجأر بالصياح!
في موضوع حرب تشاد أيضاً وضياع الجنود الليبيين في الصحراء قال الشاعر عبدالعالي القطعاني:
تضّابَح غشَيْت الضان … ازعَما يا اغذا وين منفرع.
المنفرع هو المنعزل التائه.. والكلمة جاءت من الفرع الذي ينفصل عن الأصل.
بعض الجنود المحاربين في تشاد عادوا معاقين.. فقال الشاعر اخويطر الواحدي:
سرَح سلِيْم حاش عَدِيْم … الكَبْش يا الرّاعي تغرمَه.
فهو يحمّل الحاكم مسؤولية الإعاقة (عديم) التي لحقت بالجنود.
الشاعر يوسف الدريبي يتساءل عن المفقودين:
مَدّيتِي معاك رفيق … حشْتِي بلاه يا ضان وينهو؟
***
بعد موت بعض أعضاء مجلس قيادة انقلاب سبتمبر 1969.. وهم اثنا عشر عضواً.. قال الشاعر:
كانن اطناشر ذيب … اشوي اعدادهن حاتر ادعا.
فهو هنا يرجّح أن دعاء المظلومين كان سبباً في نقص أعضاء مجلس قيادة الانقلاب.
***
حين ضاقت الحال بالناس.. وعجز الكثير منهم عن تأمين لقمة العيش تناول الشعراء ذلك.. فقال الشاعر عبدالفتاح العقيبي:
حَلِيبِك كمَل تشْحِيْت … وهلِك يا غَلَم في عازْته.
فهو ينتقد تبديد الأموال في الخارج مع احتياج الناس.. وفي رواية: (حَلِيبِك كمَل قانون).. والقانون: هو المقرّر المعلوم من الحليب الذي يُمنح للغير.
وقال آخر:
جواعَى ضناك وهَلك … رعيانك لْمَن فيك يحلبوا؟!
يتساءل: أين تذهب الأموال والناس جياع؟!
وقال الشاعر إبراهيم سعد مجيد:
حالبِينِّك جِيْران … وانْتِي اغْذاك مَوْتَى م العَطَش.
فهو هنا يُحدّد أن الأموال تُبدد على الدول المجاورة.
الشاعر يونس محمد بواشنابو يستغرب من وجود الكثير من الناس تحت خط الفقر مع كثرة خيرات البلد:
الضان حايْشة عَ البَيْت … ضمّار والعَفا بارِم بْها!
ضمّار: جمع ضامر.. وهو الهزيل.
ويقول الشاعر آدم بوالنيّانية:
ربيعك اللي محجور … ترميص بين جيرانك كمَل.
الناس ممنوعون من الحصول على خيرات بلدهم.. بينما يتناهبه الغرباء.. رَمص: تأخّر في الرّعي حتَّى الظلام.. الرّاعي يرَمِّص: أي يتأخر في العودة بأغنامه إلى ظلمة أوَّل الليل.
يستغرب آخر كيف كان خير البلد يطال الجيران.. ثم يأتي زمن تعجز فيه عن إعالة نفسها:
بعَد بيُوْضها للجار … الضان في ضناها واحلة.
البيوض هو ما يعطَى للجار من الحليب واللبن.. جاء من البياض.
يقول الشاعر إبراهيم سعد مجيد منتقداً الحاكم لكونه دخيلاً:
لافِي علَيْها لَفو … اللي حالِب الضان ما رعَى.
عندما مُنِع الليبيون من السفر إلى الخارج.. وفُرِض عليهم ما يشبه الستار الحديدي قال الشاعر:
عَلَيْها امْسَكِّر باب … وراقِد هَنِي راع الغَلَم.
فهو يرى أن البلد تحولت إلى زريبة.
في نفس المعنى.. وهو التضييق على الناس.. يقول الشاعر:
زارِّينها رعْيان … الضان لَيْ عَشاة ولَيْ نشَر.
العَشاة هي الرعي ليلاً.. والنشر هو الخروج من المراح.
الشاعر عبدالفتاح العقيبي يقول بأن سوء الحاكم لم يكن خافياً منذ البداية:
مِن يَوم وَقْفته في الضان … الرّاعي اللي فِيْه بايتة.
اللي فِيْه بايتة: تعبير شعبي للدلالة على معرفة عواقب الأمور وحتميَّتها.
***
عندما قصف الرئيس الأميركي رونالد ريغان باب العزيزية.. وصفه الإعلام الليبي بـ(راعي البقر).. فقال الشاعر عبدالفتاح العقيبي:
اقطَر بصيد مسكونات … الراعي كبر نار فوقهن.
القطَر: جمع قطرة.. وهي وكر الوحش.. تكون تحت الأرض أو الصخر.
***
قد يحسن الحاكم في بعض القرارات.. ثم فجأة يتخذ قرارات معاكسة.. فقال الشاعر يوسف الدريبي:
مريوح يا غَلَم راعيك … حَنون وقت واوقات يلغبِك.
المريوح هو المجنون.. جاءت من الريح المتقلّبة.. يقولون في التعبير الشعبي: (فلان ريح بريح).. أي متقلّب المزاج.. واللغب هو الطرد.. ولاحظ أن الشاعر قال (حنون وقت).. بينما القسوة (أوقات)!
الشاعر مسعود اللواج ينتقد إهمال الحكومة لشعبها:
علي هلِك هنتي نين … تردي اعطاش واعطاش تصدري.
***
بعد ثورة 17 فبراير 2011.. عبّر الشعراء عن نقدهم للسُلطة ومقاومتهم لها.. فحين لجأ الحاكم إلى مخبئه تحت الأرض في اليوم الرابع للثورة.. قال الشاعر إبراهيم سعد مجيد:
الضان قايلة للذيب … يجيك يوم ترمي ع القطَر.
وقال الشاعر مسعود اللوّاج:
م الراعي وشِين اعمله … خلاّك يا غلم حيلِك غفَد.
الغَفَد: جمع غَفُود.. وهي التي فقدت ولدها.
يستغرب الشاعر سعد بوخويدم من قسوة الحاكم الذي يُفترَض أن يكون راعياً شفوقاً يحميها من الذئاب.. لكنه تحوّل هو نفسه إلى ذئب:
يدير فيك دَورة ذيب … تخطر عليك راعيك يا غلم؟!
الشاعر عبدالحميد يحيى ينتقد غطرسة الحاكم.. ووهمه بأنّ حُكمه سيدوم إلى الأبد:
يطّيشم عليهم هلِك … يحسابها الراعي اتدوم له.
الشاعر مسعود اللوّاج يؤكّد أن الحاكم جنَى على نفسه:
بروحك لروحك جبت … اطياح يا الراعي قِيمتك.
الشاعر سعد الصادق يمتدح الثوّار:
عليك ضايقة يا ذيب … فزّاعة الغلم بارمين بك.
فَزّاعة: جمع فازع.. وهو المنجد.
الشاعر مسعود اللوّاج يُذكّر الحاكم بالقانون الإلهي: (كما تدين تُدان):
اللي درتّا في الضان … من ظلم يا الراعي القيتّا.
حين تحدّث الحاكم عن تقسيم البلد بعد ثورة 17 فبراير.. قال الشاعر الشتّاي عبدالكريم بوسيف:
راعيها م الخير حرمها … واليوم يريد يقَسّمها.
لقد كانت الغنّاوة بالمرصاد للسُلطة.. فهي برقية سهلة الحفظ والانتشار.. ومن رعب السُلطة من الغنّاوة قامت بتوظيف الشارحين والمؤولين ذوي الخبرة بدلالات الغنّاوة.. وهو نوع غريب من البوليس.. بوليس الغناوي!! لكنّ هذا ليس غريباً على أجهزة الأمن في ليبيا التي من بين مكاتبها: (مكتب مكافحة النجوميّة)!!
__________________________________
نُشر بصحيفة ميادين.. العدد 12.. بتاريخ الثلاثاء 2011.8.2