المقالة

الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة

 

الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة – بِبَسَاطة – هِيَ وُصُول الدَّولة وتَحْقِيقها لِحَالَة الاتِّزَان والَّذي بِطَبيعة الحال لا يَكُونُ إلا بَعْدَ وُصُولِهَا وَتَحْقِيقِهَا لِحَالَة الأمْن والاسْتِقْرَار وَتَحْقِيقِهَا أيْضًا لِكُل ما قبْلَهَا مِن مَرَاحِلِ تَكْوِين الدَّولة.

الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة بَسِيطة وَخَالِيَة مِنَ التَّعْقِيد والتَّكَلُّف، أرَاهَا وأتَصَوَّرُهَا مُتَّسِمَةً بِالبساطةِ والْبَدَاهَةِ والاعْتِدَال، تَوَازُنٌ بَيْنَ تَحْقِيقِ الْحُقُوقِ والْوَاجِبَاتِ فِيهَا، لا إفْرَاطَ ولا تَفْرِيط في كِلَيْهِمَا، بل اتِّزَانٌ فِي كُلِّ أمُورِهَا، وَجَمِيعُ مَن فِي الدَّوْلَةِ الْمُتَّزِنَة هُم سَوَاسِيَة أمَامَ الْقَانُون.

الدَّوْلَةُ الْمُتَّزِنَة تَعِيشُ حَالَة تَوَازُنٍ بَيْنَ سِيَاسَاتِهَا الدَّاخِلِيَّة والْخَارِجِيَّة، بِاهْتِمَامٍ تُكَرِّسُهُ بِدَاخِلِهَا قَبْلَ أن يَكُونَ اهْتِمَامًا بِخَارِجِهَا، اهْتِمَامٌ بِالدَّاخِلِ يَتَمَثَّلُ فِي اهْتِمَامِهَا بِكُلِّ مُكَوِّنَاتِهَا وشَعْبِهَا وَمُؤَسَّسَاتِهَا والْوُقُوف عِنْدَ مَسَافَة وَاحِدَة مَعَ الْجَمِيع وَتَعْزِيزِ التَّوَاصُل مَعَهُم، وَاهْتِمَامٌ بِالْخَارِج يَتَمَثَّلُ فِي اهْتِمَامِهَا أوَّلا بِالدُّوَلِ الْمُجَاوِرَة لَهَا وَتَوْطِيدِ الْعَلاقَاتِ مَعَهَا، تِلْكَ الدُّوَلُ الَّتي هِي على نِطَاقِ حُدُودِهَا الْجُغْرَافِيَّة، واهْتِمَامُهَا أيْضًا بِتَوْطِيد عَلاقَاتِهَا الْخَارِجِيَّة عَلى نِطَاقٍ أوْسَع وَإنْشَاء صَدَاقَاتٍ دَوْلِيَّة تُعَزِّز بِهَا سُبُل التَّعَاوُن الدَّولي وَتَبَادُل الْمَصَالِح والْمَنَافِع الْمُشْتَرَكَة، تِلْكَ الَّتِي تَرْتَقِي بِالدَّوْلَة شَعْبًا وأرْضًا وتَرْتَقِي بِالإنْسَانِيَّةِ خَارِجَهَا.

الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تَعِيشُ حَالَة تَوَازُن فِي الْبِنَاء والتَّنْمِية، بَيْنَ بِنَاء وَتَنْمِية الْمُوَاطِنِين وبِنَاء وتَنْمِية الأرْض وَالْمُؤَسَّسَاتِ بِهَا، بِبِنَائِهِمَا وَتَنْمِيَتِهِمَا مَعًا فِي آنٍ وَاحِد، فَالدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة لَيْسَت دَوْلَةً ذَات بُنْيَة تَحْتِيَّة قَوِيَّة وَنَاطِحَات سَحَاب شَاهِقَة وَشَعْب فَقِير يَعِيشُ حَالَة تَدَنِّي فِي مُسْتَوَى مَعِيشَتِه وَمَعْرِفَتِه، وهي أيْضًا لَيْسَت دَوْلَة ذات بُنْيَة تَحْتِيَّة هّشَّة وبِيئةٌ بِمُؤَسَّسَاتِ مُتَرَدِّيَة وَشَعْبٌ يَعِيشُ بمُسْتَوَى غَنِي مَادِّيًّا وَمَعْرِفِيًّا، بَلْ هِيَ دَوْلَةٌ تَتَّزِنُ فِي الْبِنَاْءِ وَالتَّنْمِيَة – بِبِنَاء وَتَنْمِية الشَّعْب والأرض والمؤسَّسات مَعًا فِي آنٍ واحد ، لا إفْرَاطَ ولا تَفْرِيط فِي بِنَاء وَتَنْمِية أحَدِهِمَا عَلَى الآخر.

الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تُعَزِّز الاحْتِرَام الدَّوْلِي الْمُتَبَادَل وَتَحْفَظ سِيَادَتها واسْتِقْلالِيَّتَها بَيْنَ الدُّوَل، وَتَحْفَظ كُل ثَرَوَاتِهَا الطبيعِيَّة واسْتِثْمَارَاتِهَا لِتَكُون عَوَائِدُهَا تَرْجَمَةً للأرْضِ والْمُوَاطِن والْمُؤَسَّسَات بِهَا، في التَّعليم والْمَعْرِفَة والصِّحَّة والْبِنَاء والتَّنمِيَة والأمْن وكُل الاحتِيَاجَات الأسَاسِيَّة والْحَيَاتِيَّة بِدَاخِلِهَا لاسيما كل المُتَطَلَّبَات اللازِمَة والضَّرُورِيَّة للارتقاءِ بِالدَّوْلَة شَعْبًا وأرْضًا مَعًا فِي آن واحد.

الدَوْلَة الْمُتَّزِنَة تَضَع الْحَد الأدْنَى لِمُسْتَوَى مَعِيشَة شَعْبِهَا بِنَاءً عَلَى مقدراتِهَا وعَوائد ثرَواتِها الطبيعِيَّة واسْتِثْمَارَاتِهَا وَتَمَاشِيًا مَعَ تَوْفِير كُل الاحْتِيَاجَات الأسَاسِيَّة والْحَيَاتِيَّة لِشَعْبِهَا واحْتِيَاجَات أرضِهَا وبِيئَتِهَا ومُؤَسَّسَاتِهَا وَمُنْشَآتِهَا وكُل مُتَطَلَّبَاتِهَا اللازمة والضَّرُورِيَّة، الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تَضَع الْحَد الأدْنَى لِمُسْتَوَى الرَّوَاتِب بِمُؤَسَّسَاتِهَا وقِطَاعَاتِهَا الْخَدَمِيَّة والإنْتَاجِيَّة بِنَاءً عَلَى مُستويات الأداء ومستوى الإنتاجِيَّة والْعَوَائد السَّنَوِيَّة بِهَا.

الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تُعَزِّز التَّعْلِيم والْمَعْرِفَة لِكُل أبْنَائِهَا وَمُوَاطِنِيهَا، وَتُوَاكِب كُل التَّطَوُّرَات بِهَا عَلى جَمِيع الأصْعِدَة، وَهِيَ دَوْلَة دَائِمة التَّوْسِعَة لِنَشَاطِهَا واقْتِصَادهَا لِتَسْتَوْعِب سَنَوِيًّا أكْبَر عَدَد مُمْكِن مِن خِرِّيجِي مُؤَسَّسَاتِهَا التَّعْلِيمِيَّة وجَامِعَاتِهَا ومَعَاهِدِهَا بكافَّة التَّخَصُّصَاتِ بِهَا، بذَلِكَ تُقَنِّن الدَّولَةُ الْبَطَالَة إلَى أدْنَى مُسْتَوَيَاتِهَا، وتَفْتَحْ آفَاقًا تَوْظِيفِيَّة جديدة لِكَافَّة التَّخَصُّصَات الَّتِي تُدَرِّسُهَا فِي مُؤَسَّسَاتِهَا التَّعْلِيمِيَّة وجامِعَاتِها ومَعَاهِدِهَا.

الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تُوَفِّر سُبُل كُل الاحْتِيَاجَات الأسَاسِيَّة والْحَيَاتِيَّة لِكَافَّة مُوَاطِنِيهَا، وَتَقُوم سَنَوِيًّا بِتَوْسِعَة رُقْعَتِهَا السُّكَّانِية وَمُدُنِهَا بِإنْشَاء الْمَسَاكِن سَنَوِيًّا بِنَاءً عَلى تِعْدَاد سُكَّانِهَا وَتمْنَح الدَّولة هَذِهِ الْمَسَاكِن لِلْمُوَاطِنِين بِأقْسَاط تَتَمَاشَى مَعَ دَخْلِهِم الْمَحْدُود، الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تَهْتَم بِالْبِيئَة وَالطُّرُقَات وَالمُدُن والأزِقَّة وَتُنْشِئ الْمَلاهِي للأطفال وَتُنْشِئ الْمُنْتَزَهَات الْمُنَاسِبَة لِخُرُوج الْعَائِلات وتَنَزُّهِهَا، وغيرها مِن كَافَّة الاحْتِيَاجَات الأسَاسِيَّة والْحَيَاتِيَّة لِمُوَاطِنيهَا.

الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تَحْفَظ أمْن واسْتِقْرَار مُوَاطِنِيهَا وَتَحْفَظ أمن حُدُودها الْجُغْرَافِيَّة ومنافِذهَا وَتَحْفَظُ أمْنَ مُنْشَآتِهَا وَمُؤَسَّسَاتِهَا وَتَحْفَظ أمْن واسْتِقْرَار كُل مَنَاحِيهَا وَأرَاضِيهَا، الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تَدْعَم جَيْشَهَا وأمْنَهَا وَكُل نِقَاط الْقُوَّة بِهَا، وَتُقَنِّن كُل نِقَاط الضَعْفِ بِهَا وَتُقَزِّمْهَا إلَى أدنَى الْمُسْتَوَيَات، الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تَنْشُر قِيَم التَّسَامُح والتَّصَالُح والتَّحَاوُر والتَّشَاوُر والتَّوَافُق بَيْنَ كُل أبْنَائِهَا وَمُكَوِّنَاتِهَا لاسيما بَينَ سُلُطَاتِهَا وَمُؤَسَّسَاتِهَا بِكُلِّ الْمُوَظفِين والْعَامِلِينَ بِهَا، الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تُرَسِّخ كُل الْقَنَاعَات الْحَسَنَة والْمَبَادِئ والْقِيَم النَّبِيلَة وتَنْبُذ كُل الأفْكَار الْهَدَّامَة والسَّيِّئَة وَتَنْبُذ الْبَغْضَاء والكرَاهِيّة والتَّفْرِقَة والْعُنْصُرِيَّة، الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تَنْبُذ كُل أشْكَال النِّزَاعَات بَيْنَ أبْنَائِهَا فِي أرْضِهَا وَتَحْرُص دَائِمًا عَلَى تَآلُفِهِم واتِّحَادِهِم، الدَّوْلَةُ الْمُتَّزِنَة مُتَّحِدَة بِكُل سُلُطَاتِهَا وَشَعْبِهَا وأرْضِهَا وَمُؤَسَّسَاتِهَا وَمُكَوِّنَاتِهَا وهِيَ دَوْلَةٌ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلتَّقْسِيم، الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تُعَزِّز الثِّقَة بَيْنَهَا وَبَيْنَ شَعْبِهَا وَكُل مُكَوِّنَاتِهَا وَمُؤَسَّسَاتِهَا بكُل مُوَظَّفِيهَا والْعَامِلِينَ بِهَا مُنْتِجَةً بِذَلِك حِصْنًا مَنِيعًا ضِد أي أعْدَاءٍ دُخلاء قَدْ يُحَاوِلُون اختراقها والْعَبَثَ بِهَا وَبِشَعْبِهَا وبِأرْضِهَا وَمُؤَسَّسَاتِهَا وثَرَوَاتِهَا الطبيعِيَّة واسْتِثْمَارَاتِهَا.

الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تُخَطِّط وَتُنَظِّم وَتُوَجِّه للخَيْر، لِكُلِّ قَوْلٍ وعَمَلٍ يَخْدُم الصَّالِح الْعَام بِمَا يُرْضِي الله،  الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تُوَزِّع الْمَهَام والْمَسْؤُولِيَّات بِاتِّزَان وَأمَانة وانعِدَامٍ للمَحْسُوبِيَّة، الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة  تُوَزِّع الْمَهَام والْمَسْؤولِيَّات بِنَاءً عَلى الْكَفَاءَة والْجَدَارة وحُسْن السِّيرَة والسُّلُوك مَعَ الْمُوَاطِنِين، الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة لا يُوجَد بِهَا تَغْلِيبٌ للمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّة والأهْوَاء المُتَنَازِعَة، الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تَخدُم لِلصَّالِحَ الْعَام والْمَصْلَحَةُ الْعَامَّة تَخْدُمُ الْجَمِيع، الدَّوْلَة الْمُتَّزِنَة تُعَزِّزُ مُشَارَكَة الْجَميعِ فِي بِنَائِهَا وَالْمُشَارَكَةُ فِهَا أسَاسٌ لِلْبِنَاء، الدَّوْلَةُ الْمُتَّزِنَة بالْجَمِيع وَلِلْجَمِيع تَصْنَعُ حَاضِرًا وَمُسْتَقْبَلاً أفْضَل، وعَلَى اللهِ فليتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون.

 

مَا طرَحْتُهُ هُنَا – كَمُوَاطِن مِن عَامَّة الشَّعب – لا يُعَذُ إلا تَصَوُّرا لِمَا بَعْد تَحْقِيق حَالَة الأمن والاسْتِقْرَار وَهَذَا التَّصَوُّر أَسَاسُه حُسْنُ الظَّن بِالله، وَأعِي تَمَامًا أنَّ هذا التَّصَوُّر قَد لا يَمت حَالِيًّا للوَاقِعِ بِصِلَة، ولكننا لسنا مُلْزَمِين بِأن نفَكِّر فِي الْوَاقِعِ السَّيِّء فَقَط، فقد نَبْدَأُ جَمِيعًا واقِعًا أفضل بطريقةِ تَفكيرٍ أفضل وأفكارٍ أفضل، وَهَذَا تَصَوُّرِي كَمُوَاطِن وَأمَلٌ بِاللهِ أن تَتَحَقَّق هَذِهِ الحَالَةُ مِنَ (الاتِّزَانِ) لِأيِّ دَوْلَةٍ تَشْهَدُ حَالَةً مِنَ الاضْطِرَاب كَحَالَةِ الاضْطِرَابِ الَّتِي نَعِيشُهَا الْيَوْم فِي وَطَنِنَا الحبيب ليبيا والتي قد نقُولُ أنَّهَا قد بَدَأت فِي التَّعَافِي  تَدْرِيجِيًّا، وعلى أملِ بالله أن تَتَحَقَّق لِدَوْلَتِنَا حَالةُ الأمْنِ والاسْتِقْرَارِ للمُضِيِّ قُدُمًا بِتَحْقِيقِ حَالَةِ اتِّزَانٍ يَتْبَعهُ نَجاحَاتٌ وإتْقَانٌ فِي شَتَّى مَجَالاتِهَا، كما نتمنى ذلك أيضا إلى كل الدول التي لم تُبادِر دولنا العربية والإسلامية بالظلم والعدوان ، وَهُنَا يَجْدُرُ بِي أن أذكُر فِي الْخِتام أنَّ الاتِّزان لَيْسَ غَايَةً تَقِفُ عِنْدَهَا الدَّوْلَةُ بَعْدَ تَحْقِيقِ حَالِ اتِّزَانِهَا بَل الاتِّزَانُ وَسِيلَةٌ وَمَحَطَّة تَسْتَمِرُّ الدَّوْلَةُ المُتَّزِنَةُ مِن خِلالِهِ فِي مَسِيرَةِ الْبِنَاءِ والتَّنْمِيَة لِتُحَقِّق حَال النَّجَاحِ والإتْقَان فِي شَتَّى مَجَالاتِهَا ومَا التَّوْفِيقُ إلا بِالله.

 

نوفمبر / 2015

مقالات ذات علاقة

أربعة وربع

محمد دربي

حوار تشكيلي

يونس شعبان الفنادي

كنت ضوءا لم يهادن العتمة

المشرف العام

اترك تعليق