أيضاً وفي سياق التعريف بالفنانين الليبيين والتوثيق للحركة التشكيلية نسلط الضوء في هذه السانحة على تجربة الفنان التشكيلي محمد القريتلي , الذي وفي ضوء ما شاهدنا له من أعمال فنية من خلال موقع التواصل الأجتماعي الفيس بوك وبمحل تسويق الأعمال الفنية تتضح لنا مهارته العالية في رسم الوجوه ” البوتريهات ” إلى جانب أعمال أخرى تمثل مشاهد نصفية أو متكاملة لشخصيات فنية وسياسية مشهورة وحتى شخصيات عامة , والملفت في تجربة الفنان أنها اقتصرت على خامة أقلام الرصاص أو أن الفنان متخصص في الرسم بهذه التقنية , وهذه المادة بمختلف درجاتها التي يعرفها كل فنان , كون الرسم بأقلام الرصاص يمثل البداية لكل من أراد أن يتقن فن الرسم قبل أن ينتقل إلى المواد الأخرى الأكثر تعقيدا , سوى أنَّ الفنان محمد القريتلي أختار الإقامة في محطة الرصاص مع الخروج منها لفترات قصيرة بإنجازه لأعمال بمواد أخرى , كما في اللوحة التي استعمل في إنجازها مادة القهوة , وتبدو الأقلام لمن لا يعرفها ولم يشتغل بها سهلة التطويع وملائمة للرسم بها ولا تحتاج إلى خبرة ودراية بأسرارها , ولكن في واقع الأمر هي مادة يصعب تسخيرها إلا بعد طول مِران واحتكاك كما لو أنها لا تبوح بأسرارها إلا لمن تثق فيه وفي شغفه بها .
والفنان الذي طاب له المقام في هذه المحطة لم يتسنى له ذلك , أو لم يقرر هذا إلا بعد أن امتلك كل أدواته وسيطر تماما على اشتغالاته حتى صار الرسم بأقلام الرصاص شيء سلس وهين وخفيف بالنسبة له , بدليل اللوحات المتتالية التي يرسمها الفنان ويعرضها على صفحته بالفيس بوك , وحين نتحدث عن أعمال أقلام الرصاص فإننا نعني بذلك لوحات في غاية الدقة والإتقان ولا تقل عن مثيلاتها التي ينجزها فنانون عالميون في بعض دول العالم المتقدمة , إننا نتحدث عن بورتريهات مطابقة للواقع تماما وتنافس الصورة الفوتوغرافية بل تتفوق عليها أحيانا , غير أنها بالأبيض والأسود فقط , ومع أنها متقشفة لونياً باعتمادها هذين اللونين إلا أنها غنية بدلالاتها وإيحاءاتها , كون اللونين يحملان بداخلهما متى ما اجتمعا في وجه أو في لقطة دفقة تعبيرية هائلة وطاقة إيحائية , ولعل الحنين والبساطة بمعانيهما الواسعة يمثلان بعضا من إيحاءات الأبيض والأسود , نتحدث هنا عن لوحات تستنطق الوجوه المرسومة فيها , لا بل تتجاوز الظاهر لتغوص في بواطن الشخصيات في محاولة لاستجلاء دواخلها وقول أفراحها وهمومها وهواجسها وحتى طموحاتها وأمالها , وواضح أن الفنان لا يرسم إلا من يحب وتعكس الوجوه المرسومة أعتقاداته واهتماماته وإيمانه بقيم الخير والحب والجمال والسلام والتسامح وتقبل الآخر وغيرها من القيم النبيلة والسامية , ذلك أنَّ الشخصيات في أغلبها من الفنانين والساسة المشهود لهم بالنزاهة والحكمة والألتزام .
يرسم الفنان ويراكم أعماله دون أن يفكر في عرضها في إحدى القاعات كما يبدو باستثناء عرض بعضها في محل بيع اللوحات الفنية الواقع بشارع امحمد المقريف قرب قصر الخلد , وهذا سبب إضافي يجعلنا نسلط الضوء على تجربته الفنية التي تتطور هناك في الظل بعيدا عن المشهد الرسمي .
أما عن طريقة استعماله لأقلام الرصاص فإنها تصل إلى حد الأحتراف , ذلك أن الناظر إلى أعمال الفنان يكاد يشك أحيانا في أنها أعمال تم رسمها باليد وليست صوراً , فاللوحات باستطاعتها أن تخدع الكثيرين وتوهمهم بأنها عبارة عن صورة , وهذا يعود كما أسلفنا للطريقة الأحترافية التي تُنفذ بها , والفنان إذ يرسم بهذه المهارة ويقدم أعمالا متكاملة فنياً يعمل – من حيث لا يعي ربما – على محو ودحض تلك الفكرة أو القناعة التي تعتبر أقلام الرصاص مجرد مادة لرسم الأسكتشات أو التخطيط الأولي السريع للمناظر المراد رسمها فيما بعد بمواد أخرى أكثر رسوخا كالأكريليك والزيتي , ولعله بهذا الفعل وهذا الشغل يقول بأن لأقلام الرصاص إمكانات فنية وحيل تكتيكية لا تنفد لرسم لوحة مقنعة تُصنف كأثر فني راقي وتمتلك كل شروطها الجمالية مثل أي عمل فني استعملت فيه الخامات المتعارف عليها , سيما وأن الفنان يرسم فقط لوجه الرسم ويستمتع بهذه العملية المتكررة , وأتصوره يجد من البهجة والمسرة ما يدفع به إلى امتشاق حزمة الأقلام والممحاة والمدعكة وطرح الورقة كل مرة ليغيب في تلافيف هذه النشوة السرية التي لا يدرك كنهها إلا فنان حقيقي.