محمد سليمان الزيات
في دار حسن الفقيه حسن للفنون بالمدينة القديمة طرابلس التقينا بثمانية وعشرين فتنة للعين بقاعة المرحوم “عبد المنعم بن ناجي” للفنون للمصور الفنان “أحمد السيفاو” وذلك في الفترة من 1/6 إلى 23 / 6/ 2002 ف تحت عنوان “نفير الشمس “.. حيث بحيرة قبرعون وسيوف الصمت التي تعتقل العطب في هجير مسكون بالماء لينفرش الضوء شاهد إثبات ليعمل على تحرير الوحشة باللون يقول رائحته من لحم الصحراء.
الأسطورة مرت من هنا، فاليباس ليس عاريا في قيلولة الصمت والرائحة الأخرى للضوء عنوان داخلي للتوتة، فسلام للظل أنصاب متحررة تحت نفير الشمس، والجدة تدرك المعنى من أنين الذاكرة.. حيث دفء الروح خيوطاً للريح وسترة للصحراء ذات الصلابة الباذخة.. بينما صاحبة الستر ربما تتأمل نقشاً لخطوات سفينة شامخة بإيقاع ما قبل المعنى صادحة بلحن جرمة.
كانت تلك عناوين للفتنة….
الصورة عند “أحمد السيفاو تبدو لنا ككل صورة فوتوغرافية غير خاضعة لمنطق غائي، وذلك لأننا تعودنا أن نشاهد الصور بمرجعية ذهنية تفيد بنقلها عن طبيعة ثابتة وساكنة، وسوف نجد أنفسنا مواجهين بالسؤال الذي ينطرح على أذهاننا: وماذا يمكن أن تكون غير ذلك؟
ليدخلنا التساؤل ذاته في مغامرة شيقة لركوب مجازفة التأويل.
حيث الصورة في إطارها تبدو لنا مجمدة في الوهلة الأولى، ولكنها سرعان ما تحدث انجذابا للعين نحو التفاصيل التي تنتظم في الصورة بفعل زاوية التصوير المختارة ذاتها حينئذٍ سنشعر بأن سكونيتها قد بدأت تهتز متأبية على جمود التأطير، حيث تبدأ في اكتشاف علاقات بين الأشياء تحيل دلالاتها إلى حوار داخلي يتأتى من التماثل والاختلاف بين عناصرها ليؤدي التباين المتلاقي إلى وحدة حوارية بين عناصرها.. بينما نتأمل التفاصيل الدقيقة فنلاحظ بروز نتوء خلف الأشياء المحورية يسجل علامته غير الغائية لأنه وجد هكذا في الطبيعة.
وعندما تدخله يد الصور عن قصد رؤيوي فيحيلنا إلى دلالات محددة تستوقف تأويلنا لرؤاه كما في المصور التي عنونها بـ “تحرير الوحشة ” حيث أدخل العنصر الإنساني والصناعي – متمثلاً في الدراجة – على المشهد الغدامسي. مازجاً بذلك سكونية الزمن المعتق بزمن معاصر يبرز تقنية سنمائية تشي دلالتها بدور ما منتظر من إنسان ذلك العصر، بينما يحرص “السيفاو” بتقنية عالية على إظلام صور الكادر ليبرز الضوء منبثقاً من العمق الغدامسي مسجلاً بذلك رؤية أصولية تمكن تقنيا من تحميلها على الفن الفوتوغرافي لينطق المشهد بحمولته الأيديولوجية وهذا الالتقاط هو ما ميز تلك المشاهد وجعل منها عملاً فنياً يحمل رؤية تتجاوز آلة التصوير ليشد ذلك انتباهنا إلى تلك العين التي تقف خلف العدسة فتؤلف من رؤاها فتنة لعين المشاهد تكمن في هذا التفصيل أو ذاك.
يحرص الفنان ” أحمد السيفاو ” على اختيار زاوية التقاط تتضمن مجموعة من العناصر وسمت معظم الكادرات التي اشتمل عليها معرضه “نفير الشمس” فنجد أولاً الأرض والسماء كثنائية لا تكاد تغيب عن المشهد إلا نادراً.. حيث تقتضيها الضرورة في التقاط ما هو جزئي، ولكن الأشياء الصغيرة والمحورية تتحاور في تباين متجاوز لتعطي إمكانية مشهدية ناطقة بالدلالة كما في صورة “دفئ الروح “.. حيث يتقدم صور الكادر مجموعة من الصخور الصغيرة المرصوصة بطريقة تعلن عن وجود قبر إنسان كان قد مر من هنا يوماً ما بينما في أعلى الوسط تجثم صخرة ضخمة على هيئة إحدى الزواحف الأسطورية المتحجرة تحت قبة السماء الزرقاء وكأنها كانت هنا لحراسة رفات الإنسان، وبقليل من التدقيق سنلاحظ نتوءاً صغيراً فوق رأسها على شكل سلحفاء ممطوطة الرقبة كدليل على الحياة وإن كانت في بطئها الراسخ والمعاند هذه العناصر التي يشكل تلاقيها إمكانية لإنطاق الصورة الجامدة فتخرجها من سكونيتها لتناوش تأويلاً يفرض نفسه على المشاهد.
وهذا ما فرض نفسه على حوار بين مجموعة من الفنانين والنقاد دار دون ترتيب مسبق على هامش “نفير الشمس “.
حيث يرى الفنان التشكيلي “القذافي الفاخري” في صورة “إيقاع ” أن خفي الجمل يحرسان قدم الإنسان كدلالة على أهميته في الصحراء.. بينما كان يتساءل الفنان “عبد الرزاق الغرياني ” عن الشاعرية في صور “السيفاو” كان الناقد ” حسن الفيتوري” يشرح طغيان الشعرية على التقنية.. بينما نرى أن الشعرية في الصورة الفوتوغرافية لا يمكن أن تتأتى بمجرد وجود رؤية عند المصور ما لم تكن التقنية موظفة بدقة في خدمة الشعرية كضرورة فنية تقتضيها طبيعة هذا الفن.. ففي صورة ” سلام للظل” كمثال لم يكن يتأتى للفنان أن يبرز قرص الشمس في السماء ما لم يلعب على التقنية ليجعل السماء أكثر دكنة حول قرص الشمس.
محاصراً بذلك انتشار الضوء في السماء من حول الشمس لتبرز كفنار مشع أو هالة مقدسة كتلك التي على رأس “مريم العذراء ” أو ابزيس المصرية.. بينما يظهر الرجل وظله ككائنين مستقلين كما يرى الفاخري.
لنرى هنا السماء بشمسها مسلطة على الأرض بإنسانها الذي تمدد ظله وكأنها تستكمل أو تفسر تأويل الهالة المقدسة فوق رأس الإنسان مستحضرة الآية الكريمة ” ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا” ليسجل المشهد بذلك اختراق الحركة لسكونية الطبيعة الظاهرة وكأنها تقول لنا إنها ليست كذلك.
ويعلق “الفاخري” مرة أخرى على صورة الجدة تدرك المعنى” حيث يتصدر الكادر شجرتا “برمبخ” متقاربتان كأنهما في حوار معاً يتذكران ذلك العصر المطير الذي كان في حقبة من الزمان.
وهنا أيضاً نكتشف حوارية التباين والتلاقي في الحياة المتمثلة في “البرمبخ” والجماد الساكن في الجبل الصخري الذي يتعالى ليمس خط الأفق الأزرق في أعلى الكادر لتشكل هذه العناصر الثلاث معا جدلية التباين والتلاقي مفرزة حوارية محتملة أنتجتها زاوية التقاط مدروسة كاشفة عن تقنية مميزة خلقت شعريتها التي تشد الانتباه للالتفات لدلالات عناصرها التي تقول لنا أن الصورة الساكنة المجمدة في إطارها تنبض بدلالات تخرجها من مواتها لتحيلها حركة معنوية وفتنة للعين تجذب المشاهد نحو مغامرة التأمل الشيقة فيرى العناصر المبعثرة في الطبيعة وقد انتظمتها زاوية التقاط لفنان لا يمكن أن يكون سوى ” السيفاو “.