(1)
أحتاجك الآن ..
أروي لكِ المزيد ..
دائماً أهوى أن أروي لك المزيد ..
أليست الاستزادة منك نعمة ؟
أليس القرب منك نعيم ؟
ربما لهذا أحتاجك سيدتي ..
ربما لأروِي لعينيك الأساطير ..
وهل ثمة أروع من أسطورةٍ مثلك لأروي لعينيها الأساطير ؟
سأحدثك الآن عن زهرة النرجس ..
تلك الهادئة كتمام هدوئك ..
الفاتنة كاكتمال فتنتك ..
لم تكن زهرة النرجس قد خلقت بعد أيتها الرائعة ..
عندما كان الإغريق ينسجون من خيالهم آلهة لكل شئ ..
كانوا يبحثون عن الدرب المؤدي إلى الله ..
أثناء ذلك كانوا يخترعون الآلهة وينسجون حولها الأساطير .
تخيلوا أن الآلهة عديدة ..
وصدقوا أنها تسكن جبلاً من جبالهم كان اسمه ” الأوليمب ”
كم كانت مذهلةً أساطيرهم ..
وكم كنتِ مذهلة عندما رأيت عينيك لأول مرة
وكم هي رائعة البدايات ..
سأعود بك الآن إلى الأسطورة ..
سأخبرك كيف اجتمع آلهة الأوليمب ذات يوم ..
كانوا يتجاذبون أطراف الحديث والعالم بأسره تحت أرجلهم ..
والدنيا تحت رعاية أبصارهم التي لا يكل لها بصر ..
كانوا على تلك الحال عندما قرروا أن يملأوا فراغ أوقاتهم بشئ .
وأي شئ سيملأ فراغ الآلهة سوى البشر ؟
لهذا قررا ان يخلقوا لهم بشراً في منتهى روعة البشر ..
جميلاً في منتهى روعة الجمال ..
وفاتناً على أروع ما تكون الفتنة ..
ومدهشاً كالدهشة في أبهى الصور ..
وهكذا كان ..
خلقت آلهة الأوليمب بشراً بمواصفات إله ..
وأسمته ” نرسيس ” ..
كان ” نرسيس ” خارق الجمال سيدتي ..
كوجهك عندما يمنحني مودته .
وكان ” نرسيس ” في منتهى الحنان سيدتي ..
كحنانك عندما تغمرينني به ..
وكان ” نرسيس ” جميلاً كالجمال نفسه ..
مشرقاً كوجه شمس ..
مضيئاً كبدرٍ في ليلة تمام البدر ..
مغرياً كعينيك وأنت تهمسين لي دون أن تتفوهي بحرف .
هكذا كان “نرسيس” أيتها الرائعة ..
فهل تسمحين لي بالمزيد ؟
أكاد أشعر بك تمنحين لي الإذن ..
وأكاد اشعر بحروفي تسبقني إليك .
فهل سمعت يوماً بحروفٍ تسبق صاحبها الي حبيبته ؟
(2)
وأقبل ” نرسيس ” يسعى في الأرض ..
كان حديث الناس بروعة تكوينه ..
وكان حديثهم بمخارج حروفه البديعات ..
وكان حديثهم بابتسامته التي لا يرد لها طلب .
وذات شتاء مدبر ..
وربيع يتأهب للحلول ..
كان “نرسيس” يتجول في الأرض مختالاً بنعيم روعته ..
عندما وقعت في هواه ربة من ربات الجمال ..
كانت آلهة من آلهات الأوليمب الفاتنات ..
لكنها أغرمت بالبشري المذهل الحسن فتواضعت ..
وذهب بها العشق كل مذهب فتنازلت ..
تجسدت لنرسيس والشوق يعبث بجلال مقامها الرفيع :
” أحبك با نرسيس ” ..
همست له بلا حروف ..
كعادتي عندما أتوجه إليك بالكلام ..
ألا تلاحظين أني أهمس لك بلا حروف ؟
لكن نرسيس رفض هدية السماء ..
أعلن رفضه ، واغتر بجمال تكوينه .. وتناسى أن روعة ملامحه منحة ..
والقادر على العطاء هو القادر أيضاً على استرجاع ما تفضل به ذات يوم .
لم يحسب الفتى حساباً للأيام عندما تدير وجهها ..
ولم يحسب حساباً للدنيا عندما لا تبتسم ..
ما أقبح الدنيا عندما لا تبتسم .
وهكذا كان ..
(3)
عادت الربة إلى سماء الأرباب باكية ..
مجللة بخيبة الأمل ..
مبللة أجفانها بدموع لا تليق بإله ..
وهناك ..
على قمة الأوليمب سكبت أوجاعها بلا حدود ..
كانت الجبال تنصت وتبكي ..
وكانت الوديان تمعن في النحيب ..
وكانت الطيور تدفن رؤوسها الصغيرة في الأعشاش كي لا تسمع المزيد .
كم هو مؤلم أن يفيض الوجع سيدتي .
وكم هو قاحل هذا العمر عندما لا يمنحنا سوى خيبة الرجاء .
(4)
وقرر الآلهة أمراً ..
أن يعاقب ” نرسيس ” على غروره ..
وأن يعاقب نرسيس بما لم يعاقب به بشر .
وهكذا كان ..
(5)
أعدوا للأمر عدنه ..
أوحوا إليه أن يدخل ذات صباح إلى غابة بكر ..
فهل تعلمين سيدتي ماهي الغابة البكر ؟
إنها تلك التي تصحو لتوها من سبات شتاء طويل ..
طازجة تعبق بروائح أشجارها الرائعات ..
وتلمع تحت الشمس برك المياه الصافية التي لم يلوث صفاءها البشر بعد .
كان نرسيس يتجول مأخوذاً بجمال المشهد عندما أحس بالعطش ..
عندها قصد إحدى البرك وركع ليحتسي بيديه شهد المياه العذبة
عندها رأى “نرسيس” وجه “نرسيس” ..
عندها بدا كل شئ ..
أو لنقل سيدتي ..
عندها .. انتهى كل شئ .
أغرم “نرسيس” بجمال وجهه ..
وذهب به العشق كل مذهب ..
فتنته روعة التقاطيع .. وسلبت إرادته الملامح .
كان كلما استبد به العطش يمد يديه إلى صفحة الماء ليشرب .
فتتكسر صورته البهية بفعل ملمس الأصابع على وجه البركة النقي ..
يفزع الفتى من ضياع الصورة فيبعد يديه ..
ثم يعاوده العطش فيمد أصابعه من جديد ..
وهكذا كان ..
لم يشرب .. ولم ينهض من مكانه .. ولم يملأ عينيه بعد من جمال وجهه .
أسمعت بعقاب كهذا العقاب ؟
ظل نرسيس على هذه الحال حتى ساء حاله ..
وظل حاله يسؤ حتى انتهى أجله ..
وما أن مات الفتى حتى أخرجت الأرض مكان موته زهرة اسماها البشر
زهرة “نرسيس” ..
ومع الزمن تحور الاسم إلى زهرة النرجس ..
تلك التي كانت يوماً بشرياً مذهل الحسن .. كان اسمه نرسيس !!
(6)
هل أعجبتك الأسطورة سيدتي .. ؟
عندي من الأساطير ما يملأ وادياً من فراغ ..
وعندي من الوجع الكثير ..
غير أني أملأ فمي بالصمت كلما خطر ببالي الكلام .
وغير أن أصابعي ترتبك كلما كتبت بها حرفاً إليك ..
فهل تعرفين الآن كيف ترتبك الأصابع كلما كتبت حرفاً إليك ؟!!