اللغة الواحدة ليست حلما مستحيلا
حاورته: فيحاء العاقب
أن تكون محاورا لـ د. عبد المنعم المحجوب، فإن هذا يعنى أنه من الضرورى أن تبحر عميقا فى أفكاره التى تجسّدت بحثا ودراسة على مدى سنوات من الجهد المميز.
د. المحجوب، المفكر العربى الليبي، يدفعك مختارا الى غياهب تتنوع بين التاريخ والفكر والفلسفة والجدل مع الآخر، غياهب لا تودّ الخروج منها وتستزيد، هو لا يتمترس خلف
اليومى الذى تتطلبه إدارة مجلة نوعية مثل ‘فضاءات’ ورئاسة تحريرها، وإنما يغوص فى اتجاهات شتى دون أن يغفل اليومى نفسه، ففى نماذج من كتاباته، تتشكل لديك رؤى مختلفة تماما عما يمكن أن تقرأه فى العادي، مزيج من الفكر الفلسفى ومحاولة استنطاق التاريخ المعرفى لإعادة ترتيب حقائقه واكتشاف ما تمّ تغييبه منه، إضافة إلى الاضاءات الإبداعية على القضايا المعاصرة.
فى ‘ورثة اللوغوس’ يرى المحجوب أن الملحمة السومرية هى التى أنتجت الحكمة الكلدانية وهى التى أنتجت مفهوم اللوغوس الذى سينقلب لاحقا ضد الشرق بعد أن يستقرّ فى اليونان ويتحوّل إلى عقل خارج التاريخ، وأن الغرب الذى يدّعى وراثة اليونان قام بتحويل الفلسفة اليونانية من نتاج للشرق إلى عدو له.
وفى ‘سؤال الكيان’، يطرح د. المحجوب سؤال إلى أى حد ضد الممكنات الجذرية، أصبح الكيان نمطيا ومشدودا إلى مثال قياس مفترض. فهو يبدأ من مساءلة الأصول ليتحقّق من جدارة الفروع، ويرى أن عصرنا هذا الذى اجتاحته العولمة سوف يعيد آجلا أم عاجلا ترتيب تاريخه عندما يتمكن العالم من جعل الصوت الواحد الذى يسميه ‘الصوت الامبراطوي’ يتخلى عن مهمّة السوط، أو أن يتم دفعه ليصمت فتتحدث الثقافات والشعوب، فى نداء متواصل يدعو فيه إلى العالميّة لا العولمة، وهو ما خصص له كتابه القيم ‘القصور الديمقراطي’ الذى يناقش فيه سيطرة الولايات المتحدة على ما يسمّيه ‘الجهاز الانطباعى للعالم’. بل إن أعماله الشعرية مثل ‘كتاب الوهم’ و’عزيف’ لا تخلو من هذا الهاجس الفلسفى أو كما قال فى لقاء سابق ‘الفلسفة بغير الشعر محض لغة، والشعر بغير الفلسفة لغة محض’.
فى كل الأحوال، كانت مناسبة الحوار مع د. المحجوب، صدور كتابه الجديد ‘ما قبل اللغة.. الجذور السومرية لنشأة اللغة العربية واللغات الأفروآسيوية’ الذى يرى فيه أنه يقوم بتصحيح وهم علمى استمر لأكثر من مائة سنة.
* صدر مؤخرا كتابكم ‘ما قبل اللغة.. الجذور السومرية لنشأة اللغة العربية واللغات الأفروآسيوية’، وهو عنوان محيّر، أولا ما قبل اللغة.. أية لغة هي! ثانيا الجذور السومرية، وهذا يناقض تقريبا جميع ما هو معروف عن تاريخ اللغات لأن السومرية كما هو معروف لا علاقة لها بأى لغة أخرى فى العالم، وعلى الأخص اللغة العربية؟
– سأبدأ من الشق الثاني. لقد عاش البحث اللغوى قرابة مائة سنة على وهم علمى مفاده أن السومرية لغة منعزلة عما جاورها، بل أن مقارنتها تمت بأكثر من ثلاثين لغة دون الوصول إلى نتيجة مرضية من حيث المقاربة المعجمية أو الصرفية المورفوفينولجية، وبالتدريج ترسّخ فى البحث العلمى أن هذه اللغة المجهولة البداية أصبحت مجهولة النهاية، وأن السومريين الذين نبتوا فجأة بين نهرى دجلة والفرات اختفوا فجأة كما ظهروا، كما لو أنهم شهاب مرّ فى سماء التاريخ ولم يتوطّن الأرض، أو حتى دون أن يصطدم بها. إن كتابى باختصار هو بحث يناقض هذه الفرضية التى استقرت كيقين علمي، وأقول فيه إن اللغة السومرية متوطّنة قارّة فى اللغة العربية والأكدية والمصرية، بل وبقية الأفروآسيويات، على شكل مقاطع جذرية أولية، وإن اختلفت اللغات الأفروآسيوية فى بنائها العام معجميا وصرفيا إلا أن تلك الحمولة السومرية متوطّنة فيها، بل إنها الأساس الذى تنبنى عليه تلك اللغات بالإضافة والتحوير.
كانت هناك محاولة أولى على يد لاندزبرغر الذى اكتشف عددا من المفردات لا هى بالسومرية ولا هى بالأكدية، وبناء على ذلك افترض أن قوما سبقوا السومريين أطلق عليهم اسم الفراتيين الأوائل كانوا قد توطّنوا ما بين النهرين وأن تلك المفردات إنما هى بقايا لغتهم، وقد بدأ بحثى قبل عشر سنوات بهذه المفردات تحديدا، وفى محاضرة لى آنذاك بقاعة القبة الفلكية أوضحت أن هذه المفردات لا يمكن أن تكون أساسا لافتراض وجود الفراتيين الأوائل، لأنها ببساطة كاملة مفردات عربية مهجورة، وكل ما فى الأمر أن العلماء والباحثين لم يكلفوا أنفسهم عناء التدقيق فى المتون المعجمية القديمة ليكتشفوا ذلك.. وما أثار حيرتى وغيظى فى ذلك الوقت هو كيف أن الباحثين العرب دون غيرهم مضوا إلى ترديد مثل هذه الفرضيات دون أن يعودوا إلى لغتهم.
من هذا النقد الأولى اتجهت إلى دراسة السومرية، لقد كان الأمر بالنسبة إليّ أشبه بالعودة فى الزمن، وهكذا انقطعت إلى دراسة اللغتين السومرية والأكدية لفترة تزيد عن الأربع سنوات، مع مقارنات بالأمازيغية والمصرية والتغرية، والأخيرة هى غير التغرينية، مع ملاحظة أنهما معا منتشرتان فى أثيوبيا وأريتريا، وكنت كلما تعمّقت أكثر فى دراسة اللغة السومرية وجدت نفسى أعود إلى اللغة العربية..
عندما نقرأ متنا سومريا يجب ألا ننساق كثيرا وراء قراءة الروّاد من ألمان وفرنسيين وغيرهم، هؤلاء الروّاد بقدر ما كان لهم الفضل فى الكشف عن خبايا هذا التراث كانوا هم أنفسهم سببا فى تغييب الكثير من خصائص السومرية من الناحية الصوتية والصرفية أو الصورفية كما أسميها، وذلك من خلال أساليبهم فى نقل العلامات المسمارية إلى الحروف اللاتينية.
* ما الفرق بين قراءات الروّاد وقراءتكم التى تقترحونها؟
– فى قراءة الروّاد تتحوّل حركات الحروف إلى صوائت طويلة، العربية لا تحتوى على صائت ونصف صائت وشبه صائت، العربية تتميّز بالحركات التى تلحق الحروف الصوامت، فإذا ضعّفت الحركة أصبحت مدّا، والحركة مستحيلة فى ذاتها، لا بد لها من بناء تتأسّس عليه، الحركة المنفصلة عن بنائها هى مجرد افتراض تعليمي، مثلما أن البدء بساكن هو أيضا مجرد افتراض تعليمي. هذا ما حفظ اللسان العربي، وهذا أول دروس الصواتة.
المسألة هى أن أولئك الروّاد ربّوا فى تلاميذهم تلك العادات المعجمية السيئة التى نقلها الباحثون العرب، إن اسم الإله utu مثلا يكتبونه ‘أوتو’ بالرغم من أن قراءته السليمة هى ‘ءُتُ’، ولو أخذنا كلمة badtibira مثلا فإنهم يكتبونها ‘بادتيبيرا’ فى حين أنها يجب أن تكتب وتقرأ ‘بَدْتِبِرَ’ لقد أضاعت هذه ‘النقحرة’ – على رأى الأستاذ الفاضل على فهمى خشيم –الكثير من فهم التراث اللغوى للشرق الأدنى واللغات الأفروآسيوية التى تعتبر العربية الآن أحدثها وأهمّها وأكثرها – لنقل – اكتنازا وتفاعلا.
* إذن، ما العلاقة بين السومرية والعربية، أو بين السومرية واللغات الأفروآسيوية؟ ماهى الفرضية الأساسية فى كتابكم ‘ما قبل اللغة’؟
– أوجز هذه الفرضية فى نقاط سريعة متتالية، علماء السومريات والأشوريات يقولون إن السومرية هى أقدم لغة مدوّنة حتى الآن، وهى لغة إلصاقية معزولة لا علاقة لها بأية لغة أخرى على وجه الأرض، ويقولون إن السومريين ظهروا فجأة فى جنوب العراق، وأن تدوين لغتهم بدأ فى الألف الرابعة قبل الميلاد، ثم نشأت اللغة الأكدية، ويقولون إن اللغتين كانتا متجاورتين، ثم انحسرت اللغة السومرية تدريجيا وسادت اللغة الأكدية بشقيها البابلى والأشوري، وعنها نشأت الساميّات مثل العربية والعبرية والآرامية ..إلخ. وقد تحوّل هذا التتابع إلى يقين علمى لا يتطرّق إليه الشك.
حسنا.. الفرضية الأساسية التى أدافع عنها تنهض فى مقابل هذا التاريخ. أقول أولا إن السومريين لم يظهروا أو يفدوا فجأة إلى جنوب العراق، بل إنهم كانوا فى البدء مزيجا من الأقوام الرحّل الذين قادتهم الضرورة إلى جنوب العراق بعد انحسار آخر عصر جليدى وبعد أن أصبح جنوب الرافدين إقليما صالحا للاستقرار وقد كان مستنقعا كبيرا، وهناك أسسوا أقدم المدنيات وعبدوا أقدم الآلهة ونظموا أول الأسواق واختطوا أول المدن، وبالنتيجة تكونت أقدم الممالك. لقد وجدت أول حكومة بالمعنى الحرفى فى العراق القديم، وانتظم المجتمع إلى مزارعين وحرفيين وجنود وكهنة وكتّاب وشعراء أيضا، وُجد تقسيم العمل، وانتظم دور الرجل والمرأة فى البيئة الاجتماعية والاقتصادية، لقد بدأت الحضارة، بدأ التاريخ الإنسانى منذ هذه اللحظة السومرية.
عندما نقوم بتحيين اللغة السومرية فى السياق التاريخى نجد أن تدوينها بدأ مع الألف الرابعة قبل الميلاد، هذا يعنى أنها كانت آنذاك لغة مكتملة، الفارق بين الكلام وتمثيله بلغ ألفى سنة على الأقل، وربما أكثر، هذه مرحلة كافية لا لحفظ الكلام وتدوينه فقط، بل لمعرفة أن لهجات نبعت من اللغة الأصلية قد نشأت واكتملت، هناك البيئات الاجتماعية المختلفة، والأنماط الإنتاجية المختلفة، بالإضافة إلى المعتقدات، واتساع الرقعة الجغرافية التى لا يجب أن نخضعها للمقاييس الحالية، هذه اللهجات توفر لها من الأسباب ما جعلها تستقل تدريجيا بصواتتها وصورفتها، بدأت لا شك بالأكدية، وعندما توفرت للأكدية أسباب الانتشار تفرعت هى الأخرى عن لهجات متنوعة سوف تتحول بدورها إلى لغات مستقلة بصواتتها وصورفتها، وهكذا.
الأكدية فى الحقيقة لم تكن لغة جاورت السومرية، بل لهجة من السومرية سادت وانتشرت وحلت محل أمها ومصدرها، كاللاتينية التى تختلف صواتتها وصورفتها مع بناتها اللاتى تحدرن منها، المعجم يحتفظ بحد ما من التشابهات والقرابات اللفظية، ولكن سياقات الكلام وبنائه تختلف بحسب المكان والزمان.
هكذا أنتجت السومرية اللغة الأكدية تدريجيا، لكن العربية – وهنا مسألة يجب تدقيقها قدر الإمكان – تحتفظ بالمعجم السومرى والأكدى معا، تحتفظ من الأول بمقاطعه ومفرداته، ومن الثانى بصورفته وجزء كبير من بنيته النحوية، علينا أن نفهم هذا التدرج فى سياقه الذى يمتد لأكثر من ألفى سنة، إن بعض الكلمات العربية قد لا توجد فى الأكدية، ولكننا نعثر عليها فى السومرية، وبعضها لا نجده فى السومرية ولكننا نعثر عليه فى الأكدية، على الباحث هنا أن يتحدّث عن أطياف إذا أراد أن يؤثل المعاجم تاريخيا وبشكل تعاقبى أو تناسلي، لكن البحث اللغوى هو أكثر تعقدا من تتبع المسارات الواضحة والمرئية فى رحلة الكلمات، لقد قدمت فى ‘ما قبل اللغة’ بعض الأمثلة التى تتجاور فيها التأويلات والقراءات بين التأثيل المعجمى الاشتقاقى وبين التحوّل الدلالى فى عملية متواصلة من الإزاحة وإعادة البناء.
إذا عدنا إلى النصوص السومرية فإننا نقرأ فى ملحمة ءِدِّنْ دَكَنْ Iddin-Dagan مثلا ما نصه حرفيا: di kuruĝu kiengi kiuri gu teša binsig وعربيته الحرفية: ‘قضى الأمر، إن سومر وأكد صوت واحد معا’ وكلمة صوت gu الواردة هنا ليست سوى اللغة والكلام. لقد ترجمت جزءا من ملحمة ءنمركر وسيد ءَرتَّ فى الفصل الأول، وهذا الجزء ينصّ على وحدة اللسان بين سومر وأكد وغيرهما من المدن، إنها حرفيا ءِمِي-خَمُن eme-hamun أى اللسان المتوافق أو لسان التوافق، لكن الترجمات الغربية لسبب غير معروف تجعلها اللسان المتعدّد أو لسان التعدّد. إن الباحثين الآن يتجاهلون ذلك ويتشبثون بما كتبه القراء الأوائل من ألمان وفرنسيين منذ أكثر من مائة سنة.
* لكن اللغة السومرية لغة مقطعية واللغة العربية لغة جذرية، فكيف تقيم هذه العلاقة بينهما؟
– السومرية لغة مقطعية إلصاقية، والعربية لغة جذرية اشتقاقية، وقد كانت هاتان السمتان حجة قوية للفصل بينهما، لكن هذا التحديد فى الحقيقة يخدعنا أكثر مما يخبرنا بالحقيقة.
* كيف؟
– اللغة العربية فى واحدة من مراحل تطوّرها واستقلالها عن السومرية كانت ذات طبيعة مقطعية، لكننا لم نعرف لغتنا إلا فى صورتها المكتوبة عندما أصبحت لغة جذرية اشتقاقية، إذا عدنا إلى أحد روادنا العظماء وهو الخليل بن أحمد نجد أنه رسّخ القراءة الجذرية فى ‘العين’، لكننا نتناسى محاولته الأولى فى تجريد مفردات العربية، لقد قرأها مقطعيا بادئ الأمر، نعم جرّب ذلك من الناحية النظرية وقرأ الأبجدية مقطعيا، اقرأوا حكايته مع معجمه، هذا التجريب لم يكتمل، وكان أن اختار البناء على النسق الجذرى لأنه الأكثر اكتمالا من الناحية الواقعية.
أنا أعتبر الخليل أول منظّر للسان العربي، وما زال أهم من نظّر له، أبو على الفارسى وتلميذه ابن جنى قاما بنوع من التطبيق نسميه التصنيف التطوّرى genetic على المواد التى رتبها الخليل، ثم لماذا نهمل الآن تفكير محمد دغمان والشيخ عبد الله العلايلى وغيرهما فى اللغة. معظم الباحثين الآن يعتبرون أعمال هؤلاء نوعا من الكلاسيكية الجديدة غير المجدية، هذا فى نظرى منتهى السطحية والغباء، مثل هذه البحوث تمّ بترها بتبنى المناهج الغربية فى الدرس اللغوى واللساني، وأعتقد أن البحث الفيلولوجى يجب أن يتوقف عند محطات تاريخية متصلة إذا كان موضوعه اللغة العربية. منذ دى سوسير إلى تشومسكى لن تجدى شيئا جديدا فى الدرس الألسنى لم يتناوله العرب منذ مئات السنين، وأنا أعنى ما أقول.
أعود إلى موضوعنا، لقد قمت فى الفصل السادس من الكتاب بمعالجة الجذور التى يضمها حرف النون فى المعجم العربي، اعتمدت على لسان العرب لابن منظور لاستظهار الدلالات الرئيسية، وقد تبيّن لى أن الكثير من هذه المفردات يتكون من بادئة هى حرف ‘ن’ الذى يعنى النفى والضديّة فى السومرية، ويليه جذر ثنائى متكون من حرفين فى المعجم العربى هما عادة مفردة سومرية متكونة من مقطعين، فالمفردة العربية هنا أعنى البادئة بحرف النون إنما هى كلمة سومرية دخلت عليها أداة النفى السومرية ‘ن’ بمعني: ‘لا’ أو ‘ليس’ أو ‘ضد’، واستقرت فى اللغة العربية بالشكل الذى نعرفه الآن، هذا واحد فقط من أشكال عديدة نشأت فيها اللغة العربية، فاللغة السومرية متوضّعة فى العربية على شكل بنية أو طبقة تحتية Substrata.
* هل لنا أن نتعرف على بعض الأمثلة؟
– نأخذ الجذر الثلاثى ‘ندر’ على سبيل المثال، إن واحدة من دلالاته الرئيسية فى المعجم العربى الآن هى السقوط، نَدَرَ أى سَقَطَ. والندور هو السقوط، هذه الكلمة فى تأثيلها السومرى هى نون النفى زائد المقطع ‘دَرْ’ الذى يعنى العلو والارتفاع، ‘ن + دَرْ n+dar’، ألا ترين أن ضدّ العلو والارتفاع إنما هو السقوط والانخفاض. وكلمة ‘نسق’ مثلا التى تفيد الانتظام، هى فى تأثيلها السومرى نون النفى زائد المقطع ‘سق’ الذى يعنى التبعثر والتحطيم، ‘ن + سَقْ n+sag’، فنفى دلالة التبعثر بإدخال أداة النفى والضدية يؤدى معنى الانتظام، وهكذا.
إن الفصل السادس من الكتاب يحتوى على 47 مثالا من الكلمات البادئة بحرف النون فى المعجم العربي، وأعتبر هذا حصرا أوليا لم أتعمّد فيه الاعتماد على الظواهر اللغوية من قلب وإبدال، بل رأيت أن ألجأ إلى إثبات هذه الفرضية بما يتوفر من أمثلة صريحة. على أن أقول هنا إن العربية بهذا القياس هى أقدم لغة على وجه الأرض، هذا ليس معتقدا دينيا يتكئ على السماء، هذا حَفْرٌ فى الأرض بالمعول نفسه الذى انتج معنى العمل، المعول القديم نفسه الذى جعل الحياة ممكنة.
* هل هناك أشكال أخرى لعلاقة اللغة السومرية باللغة العربية؟
– أفترض أن هناك متوالية أفروآسيوية، وهى متوالية تكوينية مرت بمراحل متعاقبة، لقد بدأت باللغة السومرية التى تعتبر أصغر حلقات المتوالية، وبنشأة اللهجات وتطورها وانفصالها بمنظومة صوتية وصرفيّة كانت تلك الحلقات تكبر وتتسع لتشمل ألفاظا وأساليب جديدة، إن آخر حلقات هذه المتوالية هى اللغة العربية التى اكتملت دون أن يتوقف استخدامها أو ينحسر كما حدث لبقية اللغات، بالرغم من أن نموّها توقف بظهور القرآن الذى أزاح اللهجات العربية التى كانت منتشرة آنذاك وكان سببا فى سيادة واحدة منها، وأقول إن نموها توقف او اكتمل لأننا لا نستطيع الآن ابتداع كلمات جديدة إلا بالاشتقاق أو النحت من خزانة مقفلة. المسألة كانت مختلفة فى مرحلة ما من نشاة اللغة.
الآن.. عندما يتلفّظ العربى بكلمة عربية واحدة مكوّنة من ثلاثة حروف صوامت فإنه يقول فى الحقيقة كلمتين أو ثلاث من السومرية دون أن يدري، وهو لا يدرى لأن الكلام تداول للدلالات لتحقيق التواصل وليس بحثا فى بنية المفردات والألفاظ. لنأخذ مثلا كلمة ‘كتب’ العربية، هى فى الحقيقة تنطوى على ثلاثة مقاطع سومرية: ‘كَ ka’ بمعنى: فم، كلام. ‘تَ ta’ بمعنى: بـ أو بواسطة. ‘بَ ba’ وهى أداة خشبيّة لكشط ألواح الطين والرقن أو النقش عليها. هكذا تكون الدلالة الأساسية لكلمة كَتَبَ العربية، هي: الكلام بأداة النقش. أو الكلام بالقلم.
ونأخذ كلمة ‘لغة’ التى ليست سوى مقطعين سومريين هما ‘لُ lu’ أى رجل أو إنسان. و’گو gu’ أى صوت. فاللغو أو اللغة هما فى التأثيل السومرى صوت الإنسان، وهى الكلمة التى ستتحول فى ما بعد إلى Logo أو Logos اليونانية.
كلمة ‘أدب’ العربية أصلها السومرى هو édubba ‘ءدُبَّ’ التى تعنى مدرسة أو بالأصح مكتبة وهى متكونة من ‘e’ بمعنى بيت و’dubba’ بمعنى لوح أى بيت الألواح، والألواح فى الحضارة السومرية- الأكدية هى الكتب الآن، تحولت فى العربية إلى أدب بمعنى أدب النّفس والدَّرس ومنها الفعل أدّبَ أى عَلَّم.
وهناك مثلا كلمة ‘سلام’ التى توجد فى أكثر من 20 لغة، إن تأثيلها السومرى يفصح عن مقطعين أساسيين كوّنا أولا كلمة silim السومرية بمعنى السلام والتحيّة.
وهما sil، بمعنى: فرح، سعادة، و lum بمعنى زاد ونما وربا وامتلأ وأخصب. فكلمة السلام العربية المستخدمة للترحيب والتحية هى بالمعنى السومري: عمّ بهجة، أو فلتمتلئ حبورا أو زدْ سعادة.
وهكذا، لقد خصصت الفصلين الرابع والخامس من الكتاب لكشف وتوضيح هذه التواشجات.. بل إن بعض الكلمات الواردة فى القرآن غير المتفق حولها والتى اختلفت فيها التأويلات يمكننا تأثيله سومريا باستظهار مقاطعه الأساسية واكتشاف دلالاته أو معناه العام.
* ألا يقلّل ذلك من قدسية اللغة العربية؟
– على العكس تماما، المسألة ليست فى القدسية من عدمها، لا يمكن تحويل اللغة إلى دين، الدين لا يوجد خارج اللغة، لكن اللغة توجد خارج الدين، اللغة أعم وأشمل من المعتقد، أما تحويلها إلى دين، فذلك يعنى أننا ننكر أصلية الدين وإمكانية أن يوجد خارج اللغة، عموما هذه مسألة فلسفية أكثر مما هى ذات صلة بالبحث اللغوى المجرد، إذا أشرت إلى ظاهرة المقطعية فى اللغة العربية فأنا لا أصيب قدسيتها، إذا كان ثمة وجود لهذه القدسية، عندما أطرح هذه الفرضيات أنا أؤبّد اللغة العربية، أجعلها أزلية وأبدية، أجعل مصدرها ضاربا فى التاريخ السحيق، كتابى ما قبل اللغة يجعلها أيضا تمضى إلى المستقبل السحيق، العرب بوصفهم أحفاد السومريين هم ورثة الأرض، وإذا تكلمنا ببيان القرآن سأقول إنهم خلفاء الله فى الأرض. إذا جئنا إلى منطق اللغة لا شيء يقع خارج اللغة العربية، نحن العرب نمتلك مفتاح هذه الخريطة، نستطيع أن نخبر العالم بأحقابه القديمة، نحن نستطيع كذلك أن نخبر العالم بأحقابه القادمة، العرب هم أنبياء التاريخ، لا علاقة للدين بهذه الحكاية، هذه حكاية لغة وعلم ومعرفة وخبرة بشرية على الأرض لا فى السماء.
* لكن اللغة العربية الآن تواجه تحديات كثيرة!
– صحيح، أعتقد أن العرب لا يستعملون الان أكثر من عشرة بالمائة من لغتهم.. هذه جنايتهم على أنفسهم، فى المستقبل غير البعيد لن يفقه العربية الفصحى إلا الذين يدرسون القرآن، بالرغم من أن القرآن جاء بلهجة جامعة من لهجات العرب ثم سادت وانتشرت دون أن تنفى غيرها من اللهجات، أما الآخرون الذين يميلون إلى التبسيط فإنهم لا يقومون إلا بنقل الأساليب الغربية إلى الكلام العربي، هذا العبث يقتل العربية من جهتين، الأولى أنه يغيّب معجمها الحقيقي، والثانية أنه يستبدل أسلوب العرب وطرقهم فى التعبير بأسلوب أجنبى مختلط، كما يحدث الآن فى وسائل الإعلام التى أصبحت تتحدث بعربية لايفهمها إلا الناطق الرسمى للبيت الأبيض.
* بعد هذا العمل ‘ما قبل اللغة’ ما هى مشاريعكم القادمة؟
– لدى الآن أربعة كتب جاهزة للطبع، ملوك سومر، واللغة السومرية، والمعجم السومرى العربي، وهو أول معجم اشتقاقى فى حقله، وأخيرا هناك كتاب التجريد، وهو يتكون من 15 جزءا كما أتوقع، سوف يصدر الجزء الأول منه فى العام القادم، وهو مسح لغوى أقوم فيه بتجريد جميع الجذور العربية كما حفظتها لنا أمهات المعاجم بمقابلتها بأصولها السومرية والأكدية، وأتوقع أن أصرف له سنواتى القادمة، فإذا تولت مؤسسة للنشر أو البحث رعاية هذا العمل ربما استغرق ثلاث أو أربع سنوات. وعلى كل حال سوف أصدر الجزء الأول فى العام القادم.
وأتمنى هنا أن أتمكن من تأسيس ورشة أو مخبر لغوى يعمل على هذا الأساس، أعتقد أن هذا العمل يتجاوزنى كجسد له إحداثياته الضئيلة فى الزمان والمكان، أنا أنتمى له فى الحقيقة كروح، روح فى البحث والمعرفة، على أن أقول هنا أن اللغة العربية محيط لم تبحر فيه حتى الآن سوى قوارب صغيرة، محيط بالمعنى الذى ذهب إليه مجد الدين الفيروزبادى عندما سمى معجمه القاموس.
وكان العنوان الكامل لهذا المعجم هو’القاموس المحيط والقابوس الوسيط لما ذهب من كلام العرب شماميط’. لقد أدرج كلمة قاموس وهو يعرف جيدا أنها ليست عربية متداولة، هى كلمة لا صلة لها بمعنى القاموس الذى نعرفه الآن، هذا نوعٌ من التأسيس فى اللغة لا يلتفت إليه الباحثون كثيرا.
* تنوعت مؤلفاتكم ومجالات اهتمامكم بين الأدب والانثربولوجيا والسياسة والبحث اللغوي، وكما يبدو فأنت تطرح نفسك بشكل موسوعى غير متخصص؟
– الموسوعى والموسوعية لفظ يحيلنا إلى القرن الثامن عشر وتاريخ الفلسفة الفرنسية، لابأس، سوف أدّعى أن هناك خيطا رفيعا يجمع كل ما كتبت وينظمه فى نسق واحد، سوف تجدين أن العودة إلى سومر هى عودة دائمة متكررة فى كتابتي.
* تعنى عودة لغوية؟
– نحن صنيعة اللغة، نحن أبناؤها، أو هى سُكْنانا بتعبير هيدغر، إن الأساس فى الاختلاف بين البشر هو اختلاف ألسنتهم، الصراع الحضارى الذى نشهده الآن والذى يصيب كياننا كان فى البدء صراعا لغويا.
ياقوت الحموى فى لحظة رائعة بينما كان يصف قوما من الأقوام قال: ‘لسانهم كل لسان’، هل تتوقعين أن قوما من الأقوام يتحدثون ألسنة الأرض، أعتقد أن السومريين كانوا كذلك لأن لغتهم هى التى شكّلت وكوّنت اللغات واللهجات الأفروآسيوية، بل كانت أهم محطّة أيضا فى هجرة اللغات الهندوأوروبية التى أفترض أن تكون قد تأثرت بالسومرية، لقد أنتجت اللغة السومرية هذا التنوّع من خلال المقاطع الجذرية المؤسسة لهذه اللغات، وهى التى شكلت المعجم العربى الذى لا يُضاهى.
هذا يقيني، هذه عقيدتي، وعندما أقول إن العربية هى البداية والنهاية فى التلفظ فأنا أعنى ما أقول.
* تعتز بلغتك العربية التى تؤصّلها فى السومرية، كما أنك تعود فى هذا الكتاب إلى الأكدية والمصرية والفارسية والعبرية والأمازيغية فضلا عن الإنجليزية وغيرها، هل تتحدث جميع هذه اللغات؟
– أتحدث بعض هذه اللغات، ولكننى أتعامل مع جميع هذه اللغات معجميا، أعرفها فى سياقاتها المعجمية وتراكيبها البنيوية وتاريخيتها، يحضرنى هذا المثال: ليس على عالم الفلك أن يكون رائد فضاء لكى يعرف ما فى السماء، و’مع ضحك وتردّد’ رواد الفضاء غالبا ما ينتهى بهم الأمر إلى الانتحار.
هنا مسألة تطبيقية أرجو الانتباه لها، كل من يستطيع من العرب أن يتقن السومرية يستطيع تلقائيا أن يفهم جميع لغات الشرق الأدنى وحوض المتوسط شماله وجنوبه طالما أن الأمر منحصر فى مفردات الطبيعة، أعنى دون الانتقال إلى ما نسميه مفردات الحضارة أو الثقافة.
وإذا تعلم العرب اللغة السومرية فإنهم يستطيعون توحيد ألسنة العالم، سوف يصلون إلى اللغة الواحدة، أنا لا أتحدث عن الاسبرانتو، أتحدث عما لا تختلف عنه الشعوب، مفردات الطبيعة هى مسميات الأشياء التى كانت متداولة يوميا وهى دلالات المشاعر التى لا يختلف حولها البشر، وأقول العرب لأن اللغة العربية بالنسبة إليّ هى سجل أو أرشيف اللغات فى الشرق الأدنى وحوض المتوسط، ولكنه سجل من طبقات متعددة بعضها عميق جدا وبعضها يطفو على السطح. اللغة الواحدة ليست حلما مستحيلا.
* هل هناك غيرك من السومريين؟
– ربما كنت السومرى الأخير، سومرى بلسان عربي.
* لم تجبنى عن الشق الأول من السؤال الأول، أية لغة هى التى ترد فى عنوان الكتاب؟ هل هى اللغة العربية؟
– لا، هى اللغة فى مفهومها الذى ترسخ فى الأذهان، اللغة المعجمية الواضحة، الغالبية ينظرون إلى المفردات كما لو أنهم ينظرون إلى صور، مدخل، تفسير، اشتقاق، أعلام، وانتهى الأمر.
أنا ضد هذا التصور الذى يحيل المفردات إلى حجارة، المفردة الواحدة خلية حية، ربما تنقسم وتتضاعف، ربما تتحد بغيرها فتنتج جملة أو عبارة، كل ذلك ينتج سياقا.
عندما نتكلم أو نكتب لا نرصف حجارة إلى بعضها البعض حتى لو بنينا تاج محل، نحن نخلق كائنا جديدا، العناصر هى ذاتها ولكنها تأخذ شكلا جديدا كل لحظة، كل جملة أو عبارة تبدئين بها صباحك هى حياة جديدة، تشكيل جديد يعيد ترتيب تلك الخلايا ويمنحها إمكانية الانبعاث مرة أخرى.
* سؤال أخير، مَن مِن الباحثين الذين يشاركونك رؤيتك إلى تراثنا اللغوي، أو الذين تعتقد أنهم قدموا شيئا جديدا فى هذا المجال؟
– أفترض أن ما أطرحه فى هذا الكتاب مبحث جديد، بل إنه يناقض اليقين العلمى السائد الآن، إلا أننا إذا فكّرنا فى اللحظات المضيئة فى تاريخ البحث اللغوى العربى فلا بد أن أذكر الأستاذ د. على فهمى خشيم، أختلف معه منهجيا ولكن أعماله العظيمة وبحوثه فى المصرية والأمازيغية حفزتنى على أن استرسل فى البحث، لقد درست معاناة هذا الرجل ومثابرته الملحمية فى البحث اللغوي، وأستطيع أن أقول إن تجربته هى الأهم والأخطر فى إعادة قراءة التراث المصرى القديم، لقد بوّأه مكانه ومكانته الحقيقية، سيذكره التاريخ كلما جاء ذكر اللغتين العربية والمصرية.
والأستاذ الدكتور فوزى رشيد الذى جعلنى كتابه قواعد اللغة السومرية ‘وهو الكتاب الوحيد فى اللغة العربية فى هذا الحقل’ اختصر الكثير من الزمن. كذلك وائل حنون الباحث الذى اختار معبده الخاص، وأنا أحترم عمله وأجلّه. سوف أقول اختصارا أولئك السادة المبجلين والسيدات الفاضلات الذين كتبوا موسوعة حضارة العراق، التاريخ يذكر هذا الجهد العظيم الذى بذلوه، وإذا استعرت من المعلم الكبير الصديق فوزى رشيد عبارته سأقول إن الحمد موجّه إلى ‘نيسابا’ التى جعلت هذه المنظومة من الأشاوس تصبر وتعمل فى أحلك الظروف لكى تنقذ تاريخها، بل لكى تنقذ المستقبل أيضا.
أما من خارج الوطن العربى فإن جميع الباحثين فى اللغة السومرية يدينون لجامعة بنسلفانيا التى بدأت مشروعا رائدا هو المعجم السومرى والذى نأمل أن يستمر ويتواصل لأنه لم يصدر حتى الآن سوى جزئين منه، وكذلك الأستاذ هالران الذى أتمنى أن ينعطف باتجاه لغات الشرق، لأن البحث فى السومرية على ما يتطلبه من رهبنة وانقطاع فإنه ليس منقطع الجذور وهو ليس معادلة رياضية مغلقة، بل هو بحث ذو تراث عظيم، تراث منحته اللغة العربية حياة جديدة، اللغة العربية معجزة دائمة نراها متحققة أمامنا كلّ يوم.