قاصة من جيل الرواد، تحررت بالإرادة والصدفة معًا من تابوهات العرف والخرافة، وبخروجها من القمقم، اشتبكت بأسئلة الكتابة والمجتمع. في حوار «بوابة الوسط» معها حاولنا معرفة موقف لطفية القبائلي ككاتبة وأنثى من تلك الأسئلة، وكيف كانت تقتفي أثر سرد يحتوي كينونتها بعيدًا عن طوق التصنيف.
كغيرها من بنات جيلها اللاتي تأثرن بالمد القومي الناصري وبحرب التحرير الجزائرية وقضية فلسطين، كتبت أول قصة قصيرة 1958بعنوان «جميلة» تأثرًا بالمناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، في مسابقة أقامها نادي الشباب العربي وتوقيعها السردي أيضًا لم يكن في مزيجه بعيدًا عن تفاعله برواد النص الأدبي الليبي آنذاك، كخليفة التليسي وعلي مصطفى المصراتي ومحمد المسلاتي وفريد سيالة، إضافة إلى تفاعله مع نصوص المنفلوطي وكتابات طه حسين وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، وسميرة عزام.
ولم يكن ذلك إلا إرهاصة أو بروفة التحرر من أسوار القمع الاجتماعي، عززه، صدفة، لقاءٌ أواخر العام 1968 بالكاتبة خديجة الجهمي رئيسة تحرير مجلة «المرأة»، لتصبح لطفية منذ ذلك التاريخ زميلة الكاتبة مرضية النعاس والقاصة نادرة العويتي وفاطمة الطيرة.
موضوعاتها جمعت بين روح النص الأدبي السارد لقضايا اجتماعية، نلمس ذلك من عناوين «مذكرات مدرسة»، ثم سلسلة من «ثقب الباب»، تصف فيه واقع العادات والأعراس وأعراف التقاليد الاجتماعية السائدة، مستعينة أحيانًا باللهجة الليبية الدارجة للاقتراب من ذهن المتلقي، ثم مجموعة «مواقف عائلية» جميعها وُضعت في قالب قصصي يحاكي نمط المشاكل العائلية الواقعة خلف جدران البيت الليبي، وربما كانت هذه المحطات أيضاً مقدمة لحوارات أجرتها المحررة الشابة مع المفكر الجزائري مالك بن نبي، وألبرتو مورافيا، ورجيه غارودي، ويوسف السباعي.
«بوابة الوسط»: كيف تبدو صورة لطفية القبائلي في مرايا الذاكرة؟
لطفية القبائلي: عبر صحف الحائط، تمكنت بشعاع الطموح النفاذ من طوق العزلة إلى النشر في جريدة «طرابلس الغرب»، التي كانت تبحث عبر محرريها عن مواهب في المعاهد والمدارس، وتقوم بنشر تلك النصوص الواعدة، عبرتلك البدايات المحتشمة الخجولة كان منعطف الحياة يرسم لي طريق الولوج إلى عالم الكتابة، وأنا أحدثك عن زمن الخمسينات حيث لا راديو ولا تلفاز، يقابله شغف لامحدود بالقراءة ومراسلة الصحف وكتابة الخواطر وأنا لازلت طالبة.
حالة الجرأة التي تلبستني منذ الطفولة مكنتني لاحقًا من كسر تابوه السياق التعليمي كمدرسة لصف البنين بمدرسة (هايتي) في زمن لا تسمح الرقابة الاجتماعية الذكورية بممارسة المهنة على هذا النحو.
ماذا عن إرهاصات التحرر؟
مع استمراري في الكتابة نصحني الأديب الراحل خليفة التليسي بأن أجمع ما كتبت من قصص قصيرة لتصدر في مجموعة بعنوان «أماني معلبة»، العام 1977، ثم مجموعة «دعني أحلم»، وكتاب في أدب الرحلات لازال حتى هذه اللحظة في طور المخطوطة.
مجموعتاكِ «أماني معلبة» و«دعني أحلم» تتوقان في عناوينها إلى التمرد.. ما تعليقكِ؟
ليس التمرد بالمعنى المباشر ولكن إلى كسر شيء ما، المرأة الليبية والعربية
عمومًا عانت ولاتزال ثالوثًا ضاغطًا تجسده التقاليد والأاسطورة والخرافة،
وطبيعي أن تتوالد اللحظات والمشاعر منصهرة في فضاء الحيرة والتردد، متمحورة
حول الهموم الذاتية للمرأة، وأحيانًا للرجل، لذا جاءت معبرة عن صور تلك
الضغوط بدرجات متفاوتة، من الخاطرة إلى التهويمة إلى الانفعالات السريعة،
لتتحول في شكلها النهائي إلى سرد نصي قصير.
مجموعة «دعني أحلم» التي لم ترَ النور بعد، كتبت فترة الثمانينات وتصور واقع وطموحات المرأة الليبية آنذاك، وكان لابد من كيمياء الكتابة أن تبوح بسرها للحلم، وتبحث لها عن مَخرج من دائرة الوجع كيفما كان.
هل كنت تضعين أمامك قالبًا معينًا في الكتابة؟
عندما أكتب لا أضع نصوصًا مدرسية أمامي، أتناول الحدث بعفوية تقربني من أبطالها، ونهج الأسلوب السردي الذي يقتضيه الموقف، كاستخدام الحوار العامي والمزج بين ما هو تراثي وحداثي، وترك النهايات لذهن القارئ لافتراض جميع الاحتمالات الممكنة، أنا هنا أتمثل بقول الروائي الفرنسي جان ماري غوستاف «كي نكتب ينبغي أن تتوفر فينا أشياء أخرى غير حفظ المعاجم والتراكيب اللغوية»، هي هضم كل كل ما يقرأ وجعل مادته تنتقل إلى النفس انتقالاً وتتحول في الأعماق بكيفية تلقائية.
أنتِ ككاتبة وصحفية ناشئة آنذاك في مجلة معنية بتوعية المجتمع.. ألم يضعكِ في مواجهة معه؟
السياق التحريري لمجلة «المرأة» متفهم لطبيعة البيئة المجتمعية، وإدراكي تلك الخصوصية مكنني إلى حد ما من اختيار الأسلوب الذي يوصل الرسالة بأقل الأضرار. ثم أن واقع الحياة الثقافية شجع على تكوين قاعدة واسعة من القراء، عدا أن فورة الوعي آنذاك شجعت على تأسيس المنتديات والمؤسسات الأهلية، وحتى الجمعيات النسائية التي كنت أهاجمها في كتاباتي.
مهاجمتكِ الجمعيات النسائية يناقض دوركِ ككاتبة تنادي بتحرر المرأة؟
الجمعيات النسائية هي مكان للثرثرة، وتدعو للنسوية الخالصة وهو منطق في رأيي يجافي مفهوم التحرر الذي يجمع المرأة والرجل في خندق واحد، حتى على مستوى الكتابة أرى في مصطلح الأدب الذكوري والنسوي، ضربًا من الوهم، فالأدب هو الأدب ما تكتبه المرأة أو الرجل، ولا تفوتني الإشارة إلى أن مجلة «المرأة» لم تكن نسوية في كادرها، فصفحاتها احتضنت أقلام كتاب كبار أمثال يوسف الشريف وكامل عراب وأمين مازن وغيرهم. أنا وبنات جيلي لم نقع في مصيدة الأدب المكشوف أو الإباحي كما في أعمال بعض الكاتبات الليبيات اليوم.
إذًا ما جوهر السؤال النهضوي في كتاباتكم؟
أن تتعلم المرأة وتتمكن من معرفة حقوقها وتدخل ميدان العمل أسوة بالرجل، هذا منجز مكافئ لجوهرها الإنساني، والمرأة الليبية حققت جزءًا من هذه المقاربة التنويرية أواخر الستينات والسبعينات على مستوى المشاركة في الفعاليات الثقافية والندوات، ثم بدأ حضورها يتراجع، والسبب أن المرأة الليبية والعربية عمومًا أُغتيلت في كيانها واُستغلت وتم تشيئوها وتحولت إلى مجرد ديكور، وأصبح ارتباطها بالسرد يكاد يكون مشروطًا بوضعها في قالب واحد وهو لغة الجسد.
تناولها في هذا القالب قد لا يعني تشويه المرأة وإنما فضح واقعها المتخلف؟
أنا لست ضد هذا المبدأ ولكن اختلافي في أسلوب التناول وهو أن لا تكتب قصة فاضحة جدًّا باسم الحرية، والاشتغال على لغة الجسد لشد الانتباه، والأمثلة على ذلك كثيرة في السرد العربي الحديث والإشارة هنا إلى ما يكتبه الرجل والمرأة معًا، في المقابل نجد أعمالاً تناقش جوهر الإيقاع الحياتي دون الارتماء الكامل في حضن الإباحية، بدءًا بليلى بعلبكي في «أنا أحيا» وصوفي عبدالله في «لعنة الجسد» ثم أحلام مستغانمي في «ذاكرة الجسد» و«عابر سرير» وغيرها، نجد شواهد لهذا الإيحاء لكنه بقي محكومًا بالمضمون العام للنص ملتمسًا مسلكه نحو عوالم الكيان الإنساني.
إلى أين تتجه مسيرة هذا الكيان؟
هذا الكيان سيبقى مشتركًا يذوب فيه كلانا، ولكن ذلك لا يمنعني من القول إن الرجل دخل عالم المرأة وشيأها ونجح في ذلك، والمضحك عندما يكتب عن المسكوت عنه سيحميه رولان بارت بـ«موت المؤلف»، في مقابل أن المرأة عندما تتناول المسكوت عنه، تلصق بها تهمة أن ما هو مسرود يعكس ماضيها الخاص وإرجاعها دائمًا إلى المعادل الفيزيائي، لا أحد يحاسب الرجل والمرأة تبقى دائمًا في قفص الاتهام.