لم يكن في خارطة حياتي أن أكون شاعراً فكل أهدافي بحثية علمية
وأحب الغناء الشرقي كثيرًا لا أميل إلي الأغاني ذات الإيقاع السريع
عبدالرحمن سلامة
الشاعر محمد الهريوت الذي رحل عنا إلى الدار الآخرة بعد رحلة معاناة مع المرض، التقيته منذ أربع سنوات وكان لي معه هذا الحوار، ولم يكتب لهذه المقابلة أن تنشر ويقرأها الراحل، فالموت كان أسرع.
فالهريوت ولد في مدينة بني وليد عام 1963. شاعر يحمل مؤهلاً علمياً هو بكالوريوس هندسة حاسوب عام 82/83 وهو عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للإلكترونات، له خمسة دواوين لم يطبع منها سوى ديوانه (هذيان) ، ومن مخطوطاته الشعرية (قطرات من روح) و(حب من نوع آخر) أيضا له أعمالاً إذاعية في عدة إذاعات منها إذاعة بني وليد المحلية وكذلك إذاعة الجماهيرية وأيضا إذاعة صوت إفريقيا ومن برامجه المميزة التي بثت عبر أثير إذاعة صوت إفريقيا وكذلك برنامج شهد القوافي وهو برنامج أسبوعي وأيضا برنامج أقلام واعدة من خلال إذاعة بني وليد وكذلك برنامج معارج السموم الذي يعتبر من أفضل البرامج التي قدمت في صوت إفريقيا وكذالك برنامج نسمات وجدانية أيضا برنامج عرائس الفكر ولقد أجريت مع الهريوت لقاءات عديدة بإذاعة الجماهيرية ومعظم إذاعاتنا المحلية ومن أبرز الحوارات التي أجريت معه كانت من قبل الإذاعية عزيزة عبدالمحسن والشاعر الراحل لطفي عبداللطيف والإذاعي عطية باني في سهرته غوالي .
نرحب بالمبدع محمد الهريوت ..
– أهلا وسهلا بك واسمح لي بمناسبة العام الجديد أن أهنئ الجميع وأدعو من الله أن تعم السعادة على الجميع وأقول :
عام مضى أو صفحة طويت نكمل به ما كان من ألم
في صفحة بيضاء قد فتحت بنور نكتب فيه روعة الحلمِ
وننزع البؤس والآهات نطرحها وندفع الحران للعدمِ
نعانق العمر بالآمال نزرعه نجتث ما زرعت دوامة العدمِ
وتشرق البسمة الحلوة علي شفة قد أبهتها حروف اليأس والندمِ.
• كانت لي أمسيات خاصة بدون مشاركة شعراء آخرين ففي كل عام في نفس التاريخ أقدم أمسية شعرية خاصة يوم 25/12 من كل عام فشاركت في بني وليد وفي طرابلس وأيضا شاركت في مهرجان زلة للشعر والقصة في الدورة الخامسة و شاركت في الأيام الثقافية وأيضاً في بعض الأمسيات البسيطة فأنا لم أكن في دائرة الضوء بل لازلت أعمل في الظل ربما لم أكن جاد تلك الجدية فهذا تقصير مني أعترف به أمام الكل .
• كنت مهتما بالشعر منذ الصغر لكنني لم أدون كتاباتي إلا في الأعوام الأخيرة ونشرت العديد من القصائد في صحفنا المحلية ، أيضا كانت لدي عروض أن أنشر مجموعة قصائد في صحيفة العرب اللندنية ، أيضاً كنت أحد المستهدفين من قبل د/ أقريرة زرقون في عمله لأطروحة الدكتوراة ، ومن هنا وجدت نفسي شيئاً فشيئاً أحاول أن ألج عالم النشر والكتابة خصوصاً بعد افتتاح إذاعة بني وليد وكان من واجبي تجاه هذه المنطقة التي ترعرعت فيها أن أقدم لها ولو شيئاً مما كتبت ، وحقيقة أنني لا أميل إلى العمل في المجال الإذاعي ومع هذا فأنا أحب النور وأكره الغموض والكتمان .
• الهريوت ليست لديه أسراراً فانا أحب الشعر منذ الصغر و أتذكر أنني كتبت قصيدة عن الأم وأنا صغير لا أتذكر منها سوى بيت واحد هو البيت الذي يتكرر وراء كل مقطع:
هتفت باسمك حتى امتلأت الآفاق.
وهذه القصيدة للأسف ليست موثقه فلاشك أن الإنسان يمر بمرحلة أو محطات كثيرة ففي تلك السنوات كنا نمر بمرحلة الشباب في الثامنة عشر و التاسعة عشر فهذه السن متميزة لأن الإنسان فيها يشعر بعاطفة أكبر، فكل الأشياء حينها تكون محفزة لقول الشعر فلا شك أن فترة الثمانينات كانت من الفترات الجميلة التي كتبت فيها الشعر.
• المرأة شكلت في حياتي أدوارا مهمة ومختلفة ، شكلت أدوارا ايجابية و أخرى سلبية ولا أستطيع أن أقول أن امرأةً بعينها قد خدعت محمد الهريوت أو لم تكن وفية على العكس تمامًا والنساء التي عرفت وفيات تمامًا فالمرأة تشكل هاجس كبير في حياتنا فهي الأم والعمة والخالة والأخت فالمرأة لاشك أنها تحيط بنا من كل مكان فيجب أن نعترف أنها هي التي تقود حياتنا وتسوق أيامنا.
• وجهة نظري في الحب تختلف عن وجهة نظر الآخرين فأنا بالنسبة لي مرتبة من مراتب الارتباط الروحي فهو مادة خام واحدة ولكن تختلف في المراكز فأبدأها بالإعجاب ثم الارتياح وهاتان المرحلتان ربما تسبق أحداهما الأخرى على حسب الجو المهيأ ولكن التحليل الأكبر إن الإعجاب يبدأ قبل الارتياح ويأتي بعد ذلك الود ثم الحب ثم العشق ثم يصل خياران خيار لا يليق إلا بالخالق وهو العبادة والخيار الأخر هو الجنون وذلك رأيناه في التاريخ العربي من مجانين العشق فأنا أقسم الارتباط الروحي إلي مراحل ولا اقسمه إلي أشكال و المنطلق الوحيد هو أن الحب ارتباط روحي كارتباط الروح بالجماد ومنه حب البيت وحب الوطن وحب الأرض وهناك ارتباط الروح بالحيوان كمن يرتبط بقطة أو أكرمكم الله كلب أو حصان أو جمل ووجدت من خلال القرآن الكريم أن الجمل هو أقوى ارتباطاً روحياً من الإنسان ويأتي ارتباط الروح البشرية في ذاتها وهنا الموضوع متشعب كثيراً وفيه اختلاف نظريات فارتباط الروح بالروح الأخرى هو ارتباط روحي مطلق لا علاقة للجسد به فهو عمل لا إرادي ليس لديك سيطرة عليه.
• قصيدة حب من نوع آخر في الحقيقة كتبتها في الفترة التي جمعت فيها هذا الديوان حيث كنت أكتب عن المشاعر وكنت أرى فيها رؤية جديدة للحب غير التي يقبلها المجتمع والتي لا تنتهي بالزواج فأنا أرى الحب في الحب ولا غيره وهذا هو الحب من نوع آخر أي نوعٍ لا يألفه المجتمع أو يخرج عن طباع المجتمع فكل الأمسيات أفتتحها بقصيدة هناك مقطع فيها أقول فيه:
لقد خلقت لتعرفوا فن الجنون
فتعلموا مني فن جنون الحمق
الأبجدية في الحماقة أن تكون لسان صدق
وتعيش جياش المشاعر
وتكون بين الناس شاعر .
وهذه كانت لدي فأنا لدي أبجدية الحماقة .
– قطرات من روح هو عنوان ديواني الأول والذي كتبته قبل الثمانينات ولكنني جمعته في منتصف الثمانينات وكان أول مجموعة وأسميته قطرات من روح .
لكل روحٍ أن تدعي فكل كلامنا هو قطرات من الروح وفي أحدى القصائد أقول:
دموعي دم الأمنيات .
ودموع الكل هي دم الأمنيات .
• قصائد ديواني الأول جاءت في بدايات الشباب أتذكر في هذه الأثناء قصيدة عنوانها (مَنْ)أقول فيها :
مَنْ يرحم الوردة مِنْ جور العقاقير
مَنْ يقبل الحلم في دنيا العصافير
أو هذه الشمس مَن يحمي مواكبها
مَن سطوة غيم أو اشراقة نور
الأحلام لن تقع ضد الزمان وئدا
بالعصافير من يجعل الثغر حرًا
من يطلق العطر من سجن القوارير
من ولد الحب والإخلاص في صدري
توالد الثأر في أعماق مقتولي
من علم القلب إن يبقي محبته في
حصة الحب في عصر الدنانير
لو انفق الدهر لم يأت بالحبِ
في عالم الدرى لا حكم الأقادير
هذه المقطوعة من الديوان الأول على ما أعتقد فهي قديمة جدًا .
• إن الكتابة قد تولد من ألم معاناة الكاتب و يستطيع الإنسان الواسع الخيال أن يتخيل تلك المعاناة ونرى بعض الشعراء يكتبون عن المناسبات بحروف مضيئة فأنا أكتب بقلم مزاجه من دمع لكن هذا لا يؤكد أن الكتابة تكون وليدة المعاناة ، و لا شك أن هناء شعراء كتبوا عن مناسبات مفرحة للغاية وقدموا لنا قصائداً جميلة والقضية هي الاندماج الوجداني مع الحدث ولذلك ليس كل من يكتب هو شاعر.
• في الحقيقة أنا لم اجعل في حياتي إن أكون شاعرًا فإن الشعر الذي كتبته لمدة ربع قرن كان عبارة عن فترات افرغ فيها بعض الشحنات وكنت اقرأ كثيرا لساعات تصل إلي 14 ساعة في اليوم الواحد فأنا أحرص على القراءة كثيراً .
• من هوياتي الرياضة بصفة عامة و الموسيقى فأنا اعزف وأكتب كلمات الأغنية وألحنها أكتب الشعر أكتب القصة والمقالة وأحب الغناء الشرقي كثيرًا لا أميل إلي الأغاني ذات الإيقاع السريع التي تريد ردة فعل جسدية راقصة فهناك مطربين ليبيين أحب أن أسمع لهم منهم سيف النصر عادل عبد المجيد والمطرب القديم محمود أكريم غنى قصائد من ألحاني .
• لم يكن في خارطة حياتي أن أكون شاعراً فكل أهدافي بحثية علمية ولكن كنت أكتب الشعر كنوع من الترويح أو نوع من تفريغ شحنة ما.
ولقد توقعت أن تسألني عن خصوصية يوم 25 من شهر 12 من كل عام فلا توجد له أي خصوصية غير أن أول أمسية شاء لها القدر أن تكون يوم 25/12 فقررت أن يكون هذا اليوم يوم لأمسية خاصة بي.
• مجلس تنمية الإبداع الثقافي كمبنى هو إنجاز جميل جداً وأنا أُكْبِر الناس الموجودين فيه أكثر مما أُكْبِر هذا المبنى ولي أصدقاء هناك منهم الأستاذ علي الفلاح و الدكتور أحمد عمران بن سليم والحقيقة أن الأخوة بالمجلس عرضوا علي طباعة كتبي ولكنني مُقصِرٌ جداً .
• أحب أن أختم هذا اللقاء بقصيدة ليست الأجمل ولكنها الأقرب إلى نفسي :
لربما الصبر أهدى الفكر نسيانا وخطف القلب تأسيةً وسلوانا
وهتف الصمت للأصوات خارصةً وأهطل الجفن أمطاراً ونيرانا
وأسلم القلب للأحلام في سعةٍ ففجر الشوق في الأضلاع بركانا
تصاعدت زفرةٍ حرى تمازجها آهات لحنٍ تفيض أساً وتهمانا
كم قيد القيل عبرات يهددها بالموت حيناً وبالكتمان أحيانا
عبثاً نحاول والأسماع صارخةٌ لن نخرص الصمت آلاماً وعصيانا
تفاقم الجرح في الكبد فيا كبدي يقر عيناً وتنثبرين أحزانا
يا عاشق الصمت هذا الصمت أرهقني وأزهق الروح إعياءً فأشقانا فأنعم بصمتك نعم الصمت مفخرةٌ دعني وذلي ولا تحكم به الآن فحبذا الذل في صوتي وفي حرفي لولا الكلام لما أدركتُ إيمانا لا تقتل الطفل فينا فإن الطفل سلوتنا وإن كبرنا فإن الطفل سلوانا.
وأشكر لك هذا الاهتمام وأنا يسعدني أن أزور البطنان وأن أحيي أمسية هناك وأتمنى للجميع التوفيق والإبداع .
رحل الهريوت ولم يمهله الموت حتى يرى البطنان ويصدح بعذب قصائده في مدينة طبرق، فرحمك الله أيها الصديق المبدع وأسكنك الله فسيح جنانك ، رحل الهريوت بعد معاناة مع المرض لكنه كان مخلصاً للحرف والكلمة كان شاعراً يحب الوطن ، يحب الناس ، مخلص للأصدقاء ، كانت له رؤية مميزة وصراحة غير معهودة ، كان محباً ومشجعاً للشعراء الشباب فهو كان يقول عن نفسه أنه ليس بالناقد الاكاديمى ولا ينتمى إلى مدارس النقد المعروفة والمألوفة فقط يحاول أن يقرأ كما أرادت له ذائقته البسيطة وانه يعتمد على فكر غير عاجز عن سبر أغوار الامتدادات النفسية والاجتماعية التي امتدت في شرايين الكاتب أو الشاعر ليولد النص الادبى بأية صورة كانت والهريوت كان يرىالكثير من النقاد والكتاب والشعراء بل والمتذوقين ولا يستثني نفسه منهم أنهم يرون في كتابات الشباب نصوصا بعيدة عن الشعر ولا تمت له بصلة بل إنها مجرد كلمات متضادة متنافرة مرصوصة وصور متداخلة لا يستطيع الخيال أحاطتها.
وفى هذا إجحاف كبير في حق الكتابات وذلك بالتعميم والشمول ويرى أنه للوقوف على حدود الإنصاف يجب إن نمعن النظر فيما دفع الشباب وبعض الشيوخ أحيانا لكتابة قصيدة النثر ، والهريوت رحمه الله كان من المعترضين على تسمية القصيدة النثرية بهذا الاسم وليس بينيه وبين هؤلاء خلاف إلا على التسمية ..فهوكان يلومهم لوما لطيفا في أنهم بتسميتهم لنصوصهم بالقصيدة النثرية وكأن النثر فضيحة أو عار لا يجب إن الانتساب إليه حتى وان كان النص ابنا شرعيا للنثر ..فلا بد إن ننسبه للشعر حتى ينال التقدير والاحترام وكان يرى أيضاً أن أروع الأعمال العالمية نثرية ويعترف بأن كثيراً من النصوص ترسم بخيال جميل ترتقي فيه الصورة فوق مراتب الخيال من الدرجة الأولى بل تصل إلى ظل الظل ولكن تظل تقاسيم الفكرة واضحة ، الشاعر محمد الهريوت كان شاعراً حالماً لم يهزمه المرض ، ولم تقف أمام إبداعه الظروف ، كان يحب الحياة كثيراُ في الوقت الذي يؤمن بقضاء الله وقدره ، لديه العديد من المخطوطات الشعرية لكنه لم يدفع بأي منها سوى ديوانه هذيان وكأنه يشعر بدنو أجله ، فهذيان الهريوت كان ممتعاً وكلماته جاءت صادقة ، فعلى الرغم من نبرة الحزن التي تسللت إلى بعض قصائده إلا أن شعره يأخذك إلى عالم جميل ، وأبياته تحلق بك في عنان السماء ، شكر كثيراً زهرة الليمون لأنها أوقفت مارد لا يهدأ ولا يمل ، حيث كان يقول :
زهرة الليمون
شكراً لكِ
أوقفتِ
ثورة ماردٍ لا يستكينْ
فـبهـمسةٍ
لمـلمـتِ ضوضاء التشتتِ
بالسكونْ
لكنني ..
لا أستحق
بأن أعيش مواطناً
في زهـرة اللـيمونْ
فـأنا
طُـبعتُ على الجنونْ
كسّـرتُ قيد العـقل
أتلفتُ الحجى
ألقـيتُ أشلاء التـروّي
في غيابات السنينْ
حـطّمتُ
جـدران التمنطق
و المواريث القديمة
من تخاريف القـرونْ
و رفضّـتُ
خـارطة التوجـس
و احتـواء الحلم
في قعر الظـنونْ
بدّ لـتُ أطرافي
بأجنحةٍ
بريـش الـنور
سابقـتُ المـنونْ
و غـزوتُ
تاريخ المسافات العقيمة
بالتـهـتّـك بالـمجونْ
و عـزفتُ
ألـحان الـوجـود
رقـصتُ
فوق مراثيَ الفـكر الهجينْ
و سـكرتُ
من خمر التمـرّد
في سماوات الفتونْ
و نسفتُ ما كتبتْ يـداي
و عـدتُ أعبثُ بالحنـينْ
أَوَ لمْ أقـلْ ..
لا أسـتحقْ
بأن أكـون مـواطناً
في زهـرة اللـيمـونْ
عبثـاً .. فإني لن أكونْ
مهما أحـاول .. لن أكونْ
فـأنا حريقٌ
يُـسْتَـفزُ بومضةٍ
من برق حوراء العيونْ
فـأصبُّ جـام النار
في حطب الجفونْ
أنا أرفـضُ التسلـيم
للحـرف المحنّـطِ
في صـدور الميّـتينْ
و أمـدُّ أسماعي
لـوشوشـة الـحياةِ
بـعمق لبِّ الأرض
أحـترفُ التّـسولَ و التّـشردَ
أحـتسي الظـمأ الحـنونْ
و أبـللُ الشـفتين
بالقـول المُـرَفِّهِ
عن قلـوب العابـثـينْ
متـمردٌ في كلّ أوقاتي
فلا وقتٌ بخـيسٌ أو ثمـينْ
متـعثرٌ في ظلِّ خطـواتي
و أسبـقها الـسنينْ
و أخطُّ مجـد الحمـقِ
فوق الأنـجم الـغراء
في صفحات ليل المارقينْ
و أشي
بأنفاس البنـفسجِ
بالـندى المـصلوب
في أكمام زهـر اليـاسمينْ
لا أستحق
بأن أكونَ مواطناً
و محاصَـراً .. ومكمَـماً .. ومـقـيَّـداً
بل عابـثـاً
و أعانـق العمر الحقيقيّ
المُـعَـنْوَنَ بالخـلود
على مـجرات الجـنونْ
أو حـرف صمتٍ حالـمٍ
في زهرة اللـيمونْ .
رحل الهريوت وهو يحمل هماً كبيراً ولوما للحكام العرب ويقول لهم دعونا نصيح بأنا انتصرنا وان فلسطين حررناها من الأسر حيث يقول للحكـّام الـعرب:
دعونا
دعونا نصيح بأنّا انتصرنا
لماذا تريدوننا حكر دمع الهزيمة .. ؟
ألا نستحقْ ..
بأن نتبنّى وميض البروقْ .. ؟
كفانا خداع التمائمْ
فإن كريّات دمنا من هزائمْ
وغصص إنكساراتنا في الحلوقْ
دعونا
فكل الوجوه غدت سافرةْ
و أقنعة الزور
مزّقتها الشقوقْ
بحثنا عن النصر
في همهمات الخيال
وبين غيابات جبِّ السؤال
فألبستمونا ثياب العقوقْ
كفرنا بآبائنا منذ خمسين عامْ
كفرنا
كفرنا بكل الزياتين كل الحمام
دعونا نمازج حَب التراب
بسيل العقيقْ
دعونا
كراسيّكم من عظام الشعوبْ
وتيجانكم شُكِّـلتْ بالعروقْ
وتخنقـنا أمنيات الرجاءْ
تفشّى بنا الصمت مثل الوباءْ
وصارت حناجرنا من رياءْ
لكي لاتبيعوا بقايا الخفوقْ
و لسنا بسعر كرامتكم
فليس لطهر الجراحات سوقْ
ألا أيها القائمون
على جَـلْدِنا
لتستلّوا من بين أفواهنا
الاعتراف
و يا أيها الراكعون
خلف باب التفاوض والاعتراف
دعونا نقول
بأن المسافة
بين الحجارة في كفّ طفل
و بين المداد الذي تبصمون
كمثل المسافة
بين الملوك وبين الرقيقْ
دعونا نقول انتصرنا
أَبَعْدَ الجراح و بعد الألمْ
تَـعُدٌّون أنفاس زغرودةٍ
على ثغر ثكلى
و تحصون كم حبةٍ من دقيقْ
ستفصل بين صراخ الجياع
و بين النفوقْ
لخمسين عاما
و نحن نعدّ التراجعْ
وأدمنت الأمهات المواجعْ
وهذا الفراتْ
بحمّى امتياز طعام اليتامى
غدا من لهيبْ
و من شبح الموت والقتل
والاغتصاب الرهيبْ
أَما تستحون.. ؟
(عبير) تباريحُ لم تنتهِ
تصبّ على مدّعين الرجولةْ
دم الفاجعةْ
رَمَتْ في وجوهكم
صرخة الطفلة البكر
لتهتك عذرية الأمّة الخانعةْ
دعونا ليومٍ نقول انتصرنا
فإن الشفاه غدت من رمادْ
نكاد نغصّ من اللاهواء
وتسقون فينا موات الجمادْ
و بذر الفسادْ
وحبّ الغروب .. و كُرْهَ الشروقْ
إذا كان جفنٌ لنا مغمضا
فـإنّا بكل صباحٍ نفيق
هذا الحوار الذي أجريته مع الراحل محمد الهريوت الشاعر المبدع لم أنشره في حياته وظلت كلماته حبيسة أوراقي كل تلك الفترة آملاً في لقائه مرة ثانية نتحدث عن المشهد الثقافي الليبي وعن طموحه رحمه الله ، لكنه رحل إلى مثواه الأخير وترك لنا دوايينه وكتبه المخطوطة وما تحمله من قصائد وموضوعات وأنا أدعو الأخ أمين اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام أن يبادر بطباعة كل مخطوطات الهريوت تخليداً لذكراه وإثراء للمشهد الثقافي الليبي والمكتبة الليبية ، كما نأمل أن يقام للشاعر الراحل حفل تأبين يليق به