تقول نادين غورديمير: “قد لا توجد أي طريقة أخرى لفهم الإنسان إلا من خلال الفن ، استطاع الفنان التشكيلي عادل الفورتيه أن يعبر بفنه لمراحل متعددة اختار التجريدي لكي يضرب بفرشاته ألوانا متعددة تصور لنا الواقع بصور مختلفة تعدت المحلية للعالمية ، ولايزال الطفل بداخله يرسم الدهشة المطلقة ، الفنان التشكيلي عادل الفورتيه التقيناه على هامش اليوم العالمي للفلسفة في جامعة مصراتة.
الموهبة بدأت معه من الطفولة فتعرفنا على الطفل الذي بدأ الرسم من المرحلة الابتدائية فيقول الفنان عادل الفورتيه : كانت البداية في المرحلة الابتدائية حيث كانت مرحلة مليئة بالنشاطات خصوصا أنني عشت في فترة كانت فيها المدرسة تهتم كثيرا بالمناشط حيث كانت هناك لجان خاصة مهمتها تنمية مواهب الأطفال خاصة في مجالات الجرائد الحائطية ومجالات الكتابة والقراءة وأذكر أنه كانت لدينا حصة خاصة بالمكتبة .. وأضاف الفورتيه أن الأمر يحتاج لفترة طويلة لكي يكون هناك اهتمام من قبل المسؤولين لتكوين لجان متخصصة بمواهب الرسم وأعتقد أن الزمن تغير ولكن لا نستطيع أن نقول إنه تغير للأفضل فنحن كلما نتقدم في السنين نتأخر في الروح وفي الفكر وهذه معضلة موجودة ونتعايش معها أعتقد أن الأمر مناط بالمسؤولين أكثر فلا نستطيع أن نلوم الناس ولا نستطيع أن نلوم الطلاب على شيء لا يملكونه لأن المسؤولين هم من يملكون القرار في مثل هذه الأشياء والوضع في البلاد صعب الآن لكن أتمنى أن نشاهد هذه اللجان في المستقبل وأعتقد أن الأمر يحتاج لسنين.
وعن الشارع الليبى وتذوقه للفن قبل وبعد الثورة وفهمه للفن التشكيلي ورؤيته حول ذلك يقول الفورتيه:
للأمانة المستوى الثقافي في أي مجتمع يقاس بمدى اهتمام أفراده بالأمور الفكرية الثقافية والمعروف أن مجتمعات العالم الثالث بالعموم ترى الأمور الفكرية والثقافية على هامش الحياة وهذه النقطة موجودة فيما يسمى بالعقل العربي للأسف.
وأردف قائلا أعتقد أنه عدم اعتبار وليس عدم فهم لهذه الأمور وكيف أنها مكون رئيسي في شخصية الفرد، فهم لا يعتبرون أن الموسيقا والشعر والرسم عامل مهم في شخصية الفرد بل يعتبرونها ثانوية، كمثال السياسي العربي بمجرد أن يدخل في معترك الحياة السياسية تغيب عن باله الأمور الفكرية والثقافية حتى أن هناك بعض الدول تولي على وزارات ثقافتها أناسا ليسوا أهلا بمعنى أنه من الممكن أن يتولاها أي شخص، وكما قلت هو ليس تدن في الأمور الثقافية بل عدم اعتبار لها. وتتفاوت دول العالم الثالث فمثلا مصر نلحظ اهتماما بهذه الأمور وإن كان الاهتمام بالشعر والكتابة أدنى قليلا من الموسيقا والسينما ولكن أؤكد أن هذه الدول تقع في دائرة عدم اعتبار للأمور الثقافية.
مُجْتَمَعَاتِ الْعَالِمِ الثَّالِثِ بِالْعُمُومِ تَرَى الأُمُورَ الْفِكْرِيّةِ وَالثَّقَافِيّةِ عَلَى هَامِشِ الْحَيَاةِ
و يضيف الفورتيه قائلا: أما بالنسبة إلى ليبيا والمغرب العربي بعد ثورات الربيع العربي فلاحظنا انفجارا في الأمور الفنية فثورة يناير في مصر لاحظنا أنواعا من الموسيقا والرسم وغيرها، وفي ليبيا الصحف انتشرت بكثرة، وأذكر أنني كتبت مقالا بعنوان “الثورة وفن الجداريات” فبعد الثورة كان الجدار لوحة أو مسرحا للشباب وأفكاره، وهذا كان غير موجود في السابق وبهذا سمي بالانفجار الثقافي، وتنبهت الناس لشيء اسمه ثقافة وفن فظهرت الأهازيج الفولكلورية والفنون الساخرة على الحكام والساسة ولكن الآن نلاحظ انحدارا لهذه الفنون ربما لسلطة العسكر وازدياد حدة الصراع والتصادم المسلح والتراجع الآن أمام القوة المفرطة تذوب الثقافة وتختفي أمام هذه العنجهية.
وعن قيمة الفن في الحياة سألناه عن كيفية بسط هيمنة الفن في المجتمعات العربية أجاب الفورتيه قائلا: أنتم الشباب عليكم مسؤولية كبيرة جدا ومطالبين كجيل أن يكون لكم حضور بمعنى أن تنقبوا عن الفنانين والشعراء والكتاب وتحاولوا التواصل معهم وإجراء لقاءات معهم والمقارنة فيما بينهم ومحاولة تكوين عقلية نقدية ولو كانت بسيطة دون التعمق لما نراه من فشل لعقد جلسات للمثقفين على مستوى موسع والسبب يرجع للحساسيات فيما بينهم وهذا شيء مزعج الصراحة، وأنتم مطالبون أن تكونوا حاضرين أكثر كطلبة في مجال الإعلام وأن تمكنوا حضور الثقافة في المجتمع في الوقت الذي نعاني فيه من قضية الانتشار الأفقي فهناك مشكلة أن الثقافة تكون محصورة في فئة معينة وهذا طبعا له مساوئه الكثيرة، ولكن أنا أثق بأنكم كجيل تستطيعون خلق ثقافة متجددة وأن تفرضوا ثقافة معينة، ولكن هناك نوع يسمى ثقافة رجعية أو متخلفة تحاول المحافظة على السائد ونسبب فيها شرخا بمحاولة إبدالها بجديدة، ودائما ما أقول لطلابي انتبهوا أن تعيشوا كما عاش آباؤكم لأن نوع حياتهم يختلف عما نعيشه نحن وتستطيع أن تقول إنك عشت حياة مختلفة عندما تغير وهو شيء صعب في الحقيقة في ظل مجتمع متمترس حول عادات وتقاليد ونمط من التفكير أي حركة فيه تكون محسوبة. دائما ما تكون هناك صورة ذهنية مسبقة عن الفن أي أنه لابد من الانطوائية لإنتاج الأعمال الفنية.
بَعْضُ الدُّوَلِ تُولِّي عَلَى وَزَارَاتِ ثَقَافَتِهَا أُنَاسًا لَيْسُوا أَهْلاً بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنَ الْمُمَكِنِ أَن يَتَوَلاَهَا أَيّ شَخْصٍ
ما أهمية الانطواء لدى الفنان؟
هو ليس انطواء إنما أخذ خطوات للوراء، هناك ما يسمى بثقافة الوعي الجمعي وهي التي يسير خلفها جموع الناس وهي في الغالب الثقافة السائدة لسهولتها وفي مرحلة ما تبدأ عملية التقليد وهو ما يسمى بثقافة القطيع ولا يوجد أسوأ منها؛ لأنها ثقافة تكرس للتقليد وللنمط الواحد ونحن نسعى لأن يكون هناك تنوع في الثقافات وأن تسعى للتعايش مع اختلافات الآخرين وغالبا ما تلتصق الثقافة بالشعراء والفنانين ويتم وصفهم بأنهم منطوين ومنعزلين.
وهي أبدا ليست انعزالا أو انطواء بقدر ما هي أخذ خطوات للوراء لأن أحيانا انغماسك في الثقافة العامة يؤثر على إبداعك؛ وكما يقول ابن عربي “اترك مساحة حتى تستطيع أن ترى الصورة أشمل” وهذه الحالة هي أقرب للفنان والأفضل في ذات الوقت فهو يرى الأشياء بعين المبتعد وهناك حالة للفنان لو غابت يصبح مثله مثل الآخرين ألا وهي النظرة الفاحصة الدقيقة للأشياء، ولا وجود للفنان دون أن يتبعه ناقد فالفنان هو ناقد والناقد مشروع فنان لم يكتمل، واحتياجنا للفنان الناقد يلزم عليه أن يبتعد فأنت لا تستطيع الحكم على الشيء وأنت تعيش ضمنه.
ويتضح من خلال الحديث مع الفورتيه النابع من إنسانيته فنانا تشكيليا في هذا المجتمع يقول عن الفنان والإنسان:
هذه إحدى الإشكاليات التي يعاني منها الفنانون بصفة عامة لطبيعة مجتمعاتنا التي تعطي قداسة للأشياء فنقدس الفنان والسياسي وهذه طبعا صورة خاطئة فالفنان والإنسان لا ينفصلان فكونك فنانا يجعل من الطبيعي أن تحمل نظرة إنسانية للأشياء وللكون فلا ترضى بالحروب ولا القتل ولا الدمار.
وأضاف: لا يوجد خط فاصل؛ فالفنان يثور ويغضب ويفرح والإنسان كذلك ولكن المشكلة كما أسلفت هي في الناس التي تعطي هالة من القداسة وترى الفنان في تلك الصورة المكتملة المبتسم دائما المتفائل وعندما يشاهد الفنان غير ذلك يلومه الآخرون فما الفنان إلا إنسان في النهاية، ودائما هناك سعي متواصل للمحافظة على هذا الخط والاتزان بين الفنان والإنسان ولكنني أحيانا أحيد ..أحيد للإنسان بكامل تطلعاته وغرائزه ونوازعه ولكنني في ذات الوقت أحاول أن أعطيها بعدا فنيا لكني مع هذا أملك السيطرة على تصرفات الفنان والإنسان في ذات الوقت.
لِيبْياَ وَالْمَغْرِبِ الْعَرَبِي بَعْدَ ثَوَرَاتِ الرَّبِيعِ الْعَرَبِي لاَحَظَنَا انْفِجَارًا فِي الْفَنِّ أَيِّ ثَوَرَةٍ فَنِّيّةٍ
يوافق الفورتيه على أن الفنان يستطيع قول ما لا يراه الآخرون فيشرح لنا صورته التنبئية عن الواقع:
الفنان إنسان تنبئي طبعا وهو أكثر شجاعة لأنه قادر على كشف ما يعتريه خصوصا أن الناس أصبحت تتكلم من خلال أقنعة والفنان التشكيلي عندما يخرج ما يعتريه على لوحة هو شجاع والموسيقي عندما يخرج ما بداخله ونزواته على الآلة فهو شجاع، الفنان شجاع وتنبئي بمعنى أن الله وهبه هذه الملكة فهو يستطيع أن يتوقع حدوث الأشياء طبعا هذا بالنسبة للفنان الذي يشتغل على نفسه ويطور نفسه من خلال القراءة والتحليل؛ فمن وجهة نظري أن الفنان إنسان رؤيوي يمتلك توقعا وتصورا للأشياء. يحكي لنا عادل الفورتيه عن الفنان وولادة فنه وتعلم الفن فيقول:
الفن موهبة من المفترض أن تكون موجودة داخل الفنان والفن يُعلم كذلك وهو مجال موجود فهناك فنانون تعلموا الفن ولكن بالأساس الفن موهبة ولكن ليس بالضرورة أن يولد كل فنان فنانا لكني أؤمن بالفن الذي يكون موجودا ضمنا داخل الإنسان كموهبة لأن الفنان عندما يكون موهوب يكون أكثر قدرة على فهم واستيعاب الفن وأكثر قدرة على نشره فالموهبة تجعل الفنان يتحكم بما ينتج ويكون أكثر قدرة على توزيعه ويكون أكثر ثقة ممن يتعلم الفن.
نَحْنُ نُعَانِي مِنْ قَضِيَّةِ الانْتِشَارِ الأُفٌقِي وَالْمُشْكِلَة أَنَّ الثَّقَافَةَ تَكُونُ مَحْصُورَةٌ فِي فِئَةٍ مُعَيَّنَة ٍ.
المتلقي العادي يحتاج لأن يكون متفهما ومستوعبا للفن التشكيلي فيتحدث عادل الفورتيه عن كيفية فهم المتلقي العادي للفن التشكيلي: القراءة ثم القراءة فمن لا يقرأ لا يستطيع أن يتذوق الفن ولا أقصد الدراسة الأكاديمية إنما القراءة الحرة المتنوعة التي يستطيع فيها الإنسان أن يقرأ ما يشاء فالقراءة مهمة ليس للفنان فقط إنما للسياسي كذلك ورجل الدين والطبيب لأن من مهام القراءة تنمية الخيال، فما يسمى بالذائقة الفنية لا نستطيع أن ننميها إلا بالقراءة فأي إنسان يريد أن يستمتع بالحياة عليه بالقراءة ..نحن نفقد القدرة حتى على الاستمتاع بالحياة، فمن لا يقرأ دائما ما نجد عقله مقفل جامد غير قابل للتجديد فالقراءة هي من تمكننا أن نرى العالم بعيون مختلفة. للفن رؤية خاصة في توظيف اختلافنا والفنان عادل لديه وجهة نظر عن كيفية هذا التوظيف:
على أبسط تقدير لو فرضنا أن في هذه المدينة ثلاثة مسارح و ثلاث دور عرض للفنون وأنها تقيم كل شهر منشطا فنيا تعرف الناس من خلاله على الفنون المختلفة ” ولأن كما نعرف أن الناس عدوة ما تجهل ” وتستمر تلك العروض وتتكرر فستتأقلم الناس وتتعود فبالتكرار نستطيع أن نغير المنظومة الفكرية فالفنون تستطيع أن تفتح لنا مجالات أخرى وقادرة على تغيير أفكارنا ومنحنا فرصة لتقبل الآخر المختلف عنا ولكن أعيد وأكرر التكرار مهم فنحن نحتاج مجهودا ونحتاج كذلك لنبذ الملل لأنك ستكرر نفس الأفكار حتى تستطيع ترسيخها.
نَحْتَاجُ لِأَخْذِ خُطْوَةٍ إِلَى الْوَرَاءِ أَحْيَانًا انْغِمَاسُكَ فِي الثَّقَافَةِ الْعَامَّةِ يٌؤَثِّرُ عّلَى إِبْدَاعِكَ
الجمع بين الفلسفة والفن وأن تكون اللوحة الفنية رافدها الفلسفة هذا يعطينا تأولا كبيرا نحو التأمل: حقيقة أنا أميل للفنان أكثر من الفلسفي أتحرك في زاوية الفنان أكثر من الفيلسوف، واخترت الفلسفة لتكون رافدا ولم أبتعد كثيرا فأنا اخترت الجماليات في الفلسفة فعملت الماجستير في الرمزية في الفن الليبي المعاصر، وكما قلت وأقول دائما أنا أقرب للفنان منه للفيلسوف وتساعد الفلسفة على فتح مدارك للإنسان وهذا مهم خصوصا للفنان وأفادتني كثيرا الحقيقة من الطبيعي أن يتأثر الفنان والمثقف والإنسان بمرجعيات أو فنانين عالميين وعن هذا يقول أيضا:
الْفَنَّانُ يَسْتَطِيعُ قَوْلَ مَا لاَ يَرَاهُ الآخَرُونَ فَيَشْرَحُ لَنَا صُورَتَهُ التّنَبّؤيّةِ عَنِ الْوَاقِعِ
الحقيقة هناك الكثير وأنا محظوظ جدا لأنني ولدت في بيت كانت به مكتبة زاخرة تضم جميع أنواع الكتب وقرأت من بداياتي وكان لدي عم عاش في مصر وترك وراءه أعماله الفنية وهاجر؛ وبالتالي كنت أنام وأصحو على تلك اللوحات. وكما تأثرت ب “فان غوغ” الفنان المجنون “فرنسيس بيكون” أما عربيا “على العباني” “محمود سعيد” “محمود مختار” “طه المغربي” والكثير الحقيقة.
دائما عندما نقابل فنانا تشكيليا تعترينا مشاعر متناقضة ودائما ما يصيبنا الفضول أمامهم كيف يرسمون وما هي طقوسهم ويبدو أن السينما صورت لنا أشياء غير حقيقية عنهم وهذه طقوسه وإلهامه وتصوره قبل أن يرسم: كلما تسنت لي الفرصة أرسم، فالفنان كلما نظر للحياة يرسم عندما يدخل السوق أو في الشارع يرسم، ولهذا دائما ما يهرب منا الناس لأن غالبا ما تقع أعيننا على المحظور فالرسم لا يختصر على الفرشاة واللوحة فقط ،أما عندما أقوم بالتأسيس للوحة وأدخل إلى مرسمي “فسيله” وأنا طبعا أسميه معبدا أو محرابا تقفل كل المنافذ وأقضى أحيانا من أربع إلى خمس ساعات. ويضيف: حاليا أرسم في المدرسة التجريدية لذلك أدخل للوحة هكذا بدون ترتيبات عدا تلك التي تكون موجودة ضمنا في الذهن، فالفنان وهو موجود في هذا العالم يخزن كل ما يمر به وهذه الأشياء عندما تبدأ مشروع تأسيس اللوحة تخرج وتبدأ مرحلة الميلاد للوحة عن الاحتفاء من عدمه:
الدولة عامل مساعد لو حصل لا بأس به ولو لم يحصل لا بأس ، فمع انتشار وسائل الاتصال أصبح الانتشار الثقافي والمعلوماتي أسهل وأنا شخصيا أحظى بتقدير كبير حتى من خارج بلدي، ممكن في البدايات يكون احتفاء الدولة مهما وقد يحتاج الفنان إلى دعم وخصوصا عندما تكون تعيش في بلد يحتاج شغلا كبيرا، وأنا ألوم المسؤولين الذين من المفترض أن يكون لديهم جهد أكبر وأسقط اللوم عنهم ومع هذا دائما ما أنتقدهم.