يقوم موقع بلد الطيوب بالتنسيق مع إدارة المسابقة، بنشر المشاركات الفائزة في جائزة القارئ للكتابة الإبداعية، في دورتها الأولى.
الترتيب الثاني: قصة (ارتطام غريب)، للقاصة: نهى سليمان المختار.
– كنت هنا، ولا زلت، في مدينة لا تشبه مدينتي التي جئت منها قبل أشهر قليلة؛ مدينة هادئة لا تعجّ بصوت الرصاص والقذائف.
كنت أحب مدينتي، لكن الحرب لم ترحمها، غيّرت فيها كل شيء: نسيمَها، شوارعها وحتى أناسها الذين صاروا يتناقصون شيئا فشيئا، يهربون للحياة من الموت المتربص في الزوايا، يقولون على استحياء من أنفسهم ومن أيامهم الحلوة التي خلت:
“مدينةٌ لا تنال منها إلا الشرور والشمس الحارقة، مدينة تشرب من دمك بدل أن تسقيك، ليست إلا مدينة الموت!”.
عندما غادرنا بيتنا كانت نفسي تتخبط بين الفرحة لترك ذاك المكان المروّع، وبين عيني أمي الجزعة من الأوضاع، وأبي الحانق لسبب لم يتبين لي. كانا يقولان عكس ما يبدو عليهما، وما يبرحان حتى يقنعاننا أنا وأخي الصغير أننا ذاهبون لمدينة جديدة بعيدة عن الحرب والموت، حيث العمل يتوفر لكليهما والحياة تتيسر في بيت أجمل وسنغدو في راحة وسلام. خلصت في النهاية إلى أن هذا الشعور الذي لم أفهمه لاشك أنه سعادة غامرة، غير أني لم أعتد الوصول إلى ذروتها فلذا لم أفهمها.
سعادة مغموسة في شيء من الحزن والتخوّف، لأن أبي الذي علمنا أن العين مغرفة الكلام، كان كلما تكلم عن الأرض الحلم التي سنغادر إليها علّق عينيه في مكان بعيد عن عيوننا متظاهرا بانشغاله بأي شيء؛ تقليب وسائد الكنبات، مواربة الباب، أو حتى ترتيب أصابعه. يمسك بكل واحد على حدة ويشدّه بقوة، يتأكد من قوة التصاقه براحة يده. عيونه ولأول مرة لم تكن مغرفا لكلامه الذي كان مبشراً وزاهياً سعيداً.
وبعد رحلة طويلة وصلنا..
في بيت جميل كما وعدونا – رغم ضيقه – صوت الشوارع في أذني، رائحة السلام والاستقرار في السماء، أخيراً لا قذائف. كان ما يهمني هو أنني بعيدة عن الموت الذي كنت أنتظره في كل لحظة أسمع فيها صوت طائرة في الجو.
مدينة مكتظة مليئة بوجوه ومبان تشهد أن الحرب مرت من هنا، لكنها لم تلبث إلا قليلا، رأيت سيارات مرعبة تشبه تلك التي كانت تملأ مدينتنا الأولى، لكنها كانت تسير بسلام في الشوارع كأي سيارة أخرى، أي كأن حربها انتهت. أذكر أنني خفت عندما رأيتها للمرة الأولى، خفت من الموت ثانية، ثم عرفت بعدها أنها لم تعد تمارس صلاحيات القتل.
رويداً رويداً بدأنا نمارس حياتنا كمستوطنين، نزور السوق والمشفى والمسجد والمنتزه القريب، نتجوّل في شوارع البلاد بسحنة لا تختلف كثيرا عن سحنة أهلها، ولسانٍ أثقل بشيء يسير، يحقق مخارج الثاء والظاء عكس ما يفعل السكان هنا.
حفظنا الاسطوانة التي تكررت على ألسنة العابرين؛ أسئلتهم الثقيلة فور انتباههم للهجتنا، تبدأ بـ: من أين؟ إلى متى؟ لمْ تحاولوا العودة؟ وهكذا، إلى أن ينتهي كلامهم بدعاء فَرَضهُ الموقف المتملص:
“الله يرجّعكم سالمين”.
ينعطف حاجباي وأتساءل: هل يدعون علينا بالرجوع إلى ذلك الجحيم؟. أشعر أنهم لا يطيقون وجودنا بينهم، وأننا ضيوف ثقال الظل. ولكنني أزحزح فوراً هذه الفكرة من عقلي محاولة البحث عن نية حسنة في كلامهم، لعل دعاءهم هذا خير.
أنجح في تصديق هذا الادّعاء، كأنه قشة تنقذني من الغرق في بحر هذا المنفى الآمن. كنت دائما أقول في نفسي أنه يجب أن أحب هذه المدينة وأن تحبني، أنه ليس للناس شيء علي والأرض لله، هكذا قالت أمي: “الأرض لله”.
مرت ثلاثة أشهر ونصف منذ قدومنا، عمل أبي في شركة -موظفا إداريا- والتحقت أمي بمدرسة تُـباشر فيها مهنتها معلمة، وبسبب عدم اكتمال الأوراق اللازمة فإنني لم ألتحق بالمدرسة في بداية العام، وفضلت أمي أن نعتاد على المدينة أولا ومن ثم أبدأ دراستي في العام التالي دون ضغوطات ولا مخاوف.
تحسنت صحتي النفسية سريعا، واعتيادي على الجو كان محموداً, أمي أيضا بدأت تتعود، أما أبي فقد كان يعيش على رضا أمي البادي في عيونها، وعلى عكس ما كانت عليه في الشهور الأولى من قدومنا، تبدو أمي الآن راضية جدا ومطمئنة ومنسجمة مع زميلاتها في العمل، لا تكف عن قصّ حكايا ومواقف فتيات الثانوية. بِتّ أعرف أننا وفي كل مساء سنظفر بعشاء لذيذ وحديث أمي الماتع المليء بالقصص.
بدأت الأمور تسير على نحو أفضل مع قدوم شهر رمضان، أخيراً والداي أصبحا يشاركاني الهناء الذي خلقته في قلبي منذ أن حطت أقدامنا في هذه المدينة. أخيراً اتفقت عيونهم مع كلامهم.
لم تختلف مراسم رمضان عن تلك التي نقوم بها في مدينتنا، أو لعل أمي حرصت على ألّا يكون هناك اختلاف.
كان هناك مسجد قريب من بيتنا تذهب إليه أمي مع أبي لصلاة التراويح، كانت تأخذني أنا وأخي الصغير معها، لم تثق بعد في المدينة ولم تستطع أن تبقينا وحدنا ليلا في مدينة “غريبة” حسب قولها. نخزت قلبي هذه الكلمة، لكنني لم أتأملها كثيرا.
أيام رائعة، آذان المغرب، خبز السمسم، التراويح، قراءة القرآن، السحور، والسهر مباح في بيتنا أخيراً. كل هذا بلا خوف ولا قلق ولا رصاص ولا موت. أهذا هو النعيم؟ صرت أخاف أنني لم أعد راغبة في العودة حتى في حال هدأت الأوضاع.
تعرفت أمي على بعض النساء الطيبات في المسجد، عندما نذهب هناك كنا نضع أخي وراءنا وأنا أبقى بجانب أمي محاولةً تقليدها في ما تفعل، لم أكن على قدر من الفهم لماهية الصلاة ولا ترتيب السجود والركوع، لكنني كنت على معرفة واحدة وصلة مؤكدة، إنها صلتي بالله. كنت عند السجود أسمع أمي تهمس وتدعو بحرقة، أميل برأسي على رأسها الساجد لأسترق السمع، أعيد ما يصل إلى أذني وفي كل مرة يغيب صوتها عني أقول:
“يا رب كما تقول أمي، يا رب!”.. كان يقيني من الخير الذي تطلبه لنا أكبر من أي شيء آخر.
مر نصف الشهر بشكل مبهر، أيام لطيفة جميلة أحسب أنني لم أعش مثلها حتى في مدينتي، عقب مغرب اليوم الخامس عشر سمعت أمي تقول لأبي إنها تريد أن تشتري لنا ملابس العيد، وإنها تريد أن تذهب باكرًا خوف الازدحام. كتمت ضحكتي، رقص قلبي وقتها، وأصبحت أطقطق بأصابعي وأقفز على رجل واحدة خلف باب الغرفة، كانت سعادتي تفيض.
اتفقنا على أن نذهب عقب صلاة التراويح، كنت أسأل أمي كل خمس دقائق عن موعد الصلاة، كان بالي منشغلا بحياكة ذلك الفستان الذي لم أره بعد.
حان الوقت، ذهبنا للمسجد وبدأت الصلاة وعقب كل ركعتين كنت أسأل أمي بتملص “كم باقي صلاة؟”، بعد وقت طويل أخيراً جاءت لحظة الطيران – ولعل تلك اللحظة طارت بنا حقا – ركبنا في سيارتنا وانطلقنا حيث كانت الشوارع مليئة، وكأن العيد غداً، بل كأننا قصدنا الازدحام ولم نهرب منه!.
كانت ليلة صيفية بنسيم رطب, بدأنا نتجول وبعد ساعة ونصف انتهت هذه المهمة بنجاح. اتجهت للسيارة وأنا أحمل كيسي الذي فيه فستاني الجميل. كان قلبي يدفعني أن أقول لوالدي كم أحبهما وكأنها أول وآخر مرة أقولها. أغمضت عيناي وقلت:
“أمي أبي أنا سعيدة لأني في هذه العائلة، أحبكما”.
ضحكا، ثم بدا وكأنّ أبي اصطدم بشيء أمامنا، ما هذا؟ سيارتنا؟ لم نكمل ثمنها بعد. بدأ قلبي يدق، خرج أبي من السيارة محاولا رؤية الضرر الذي أصابنا وأصاب من كان أمامنا، ناولتني أمي أخي لأحمله، وكانت تحاول أن تهدئنا من روع الموقف، تصر على أبي ألا ينفعل وأن ما حدث قدر من الله. جلست أرقبهم صامتة! أنا التي لا تكف عن الأسئلة والثرثرة في أي وقت وأي مكان وفي أي موقف. التزمت الصمت كأن صوت الارتطام أخرسني!.
خرج صاحب السيارة التي أمامنا لكنه لم يبدو عليه الهدوء أو الخير، كان يمسك بيده سلاحا أسود اللون، صغير! اسودّت الصورة عندي، لم أعد أفهم المشهد؛ لماذا كان يصرخ على أبي ويلوح بيده؟ ماذا اقترفنا؟ توقف لساني لكن عقلي لم يهدأ لحظة!.
استمر أبي في الوقوف أمام سيارتنا بهدوء كاذب، كان يحاول أن يتكلم إلى الرجل، أن يوقف تأزم الموقف الذي بدا وكأنه يتحول إلى عراك. قال أبي الكثير واعتذر، لكن الرجل لم يتوقف عن الصراخ والانفعال!.
وأخيرا وجه سلاحه نحو سيارتنا، الناس من حولنا يراقبون لكن لا أحد يجرؤ على الاقتراب أو التصرف، لعل الموقف كان أكبر من الجميع أو لعل خوفهم منعهم. رجل شبه مجنون يصرخ بسبب حادث بسيط وبيده مسدس وعيونه تقدح غضبا!.
صوت قلب أمي يصلني, تقول: “لا تخافوا، سيغدو كل شيء على ما يرام”. وسرعان ما انتهى المشهد, بدأ بإطلاق الرصاص على زجاج وعجلات السيارة، أراد الانتقام بإفسادها، لكنه أفسد شيئا أعظم.
أحد رصاصاته تخترق الزجاج لتدخل قلب أمي. قلب أمي الرحب الواسع المليء بالخير والحب والإيمان، انطفأ. عرفت الآن أن الذي ارتطم بنا كان الموت.
هرع أبي للسيارة بوجه مخذول خائف، يناديها يحاول إيقاظها، صرخ كثيرا لكن صراخه لم ينفع، بكى في حضنها، خارت قواه، أبي الرجل ينهار ويبكي. ما الذي يحدث يا أمي؟.
دقائق قليلة جعلت الناس تنصرف، تنفض من حولنا. وكأنه ولأول مرة الشعب الثرثار الفضولي يتخذ مبدأ الصمت، مبدأ “ليس من شأننا”.
اتكأت على مقعد السيارة وأخي في حضني يحدق بي. عائلة ناقصة في مدينة غريبة بسيارة مثقوبة العجلات مكسورة الزجاج، بالإضافة إلى قلب منطفئ. كيف لنا أن نتخطى كل هذا يا ربي؟.
فقدت تتمة المشهد, لا أذكر كيف انتهت تلك الليلة. صباح يوم الدفن كنت أحسّ أن قلبي في مكان آخر غير جسدي, مشاعري بعيدة معه، ليس هناك ما يقرّب الحقيقة إلي.
امتلأت المدينة بالخبر, الناس, صفحات الإنترنت, الجرائد, كل مكان. تأكدت أنهم يجيدون الكلام ولكن في غير حينه. انتهت مراسم الدفن وضجّ البيت بالكثير من غرباء هذه المدينة “الغريبة” كما رفضت أن أسميها سابقا، لكنها كذلك.
كانت أمي في الثلاثين من عمرها عندما ماتت، اليوم على مائدة العشاء يقف أبي ليقول لنا أنا وأخي: اليوم تتم أمكم عامها السبعين.