من أعمال التشكيلي عادل الفورتية
قصة

كذبة مارس

من أعمال التشكيلي عادل الفورتية

بطرقات خفيفة على النافذة علمت أن موعد الخروج قد حان، كانت زينب تجلس أسفل نافذة الغرفة التي تجمعها وزوجها وأولادها في بيت أهله، بعد أن تعرض بيتهم للقصف وخسر زوجها سيارته التاكسي التي كانت تؤمن الجزء الأكبر من احتياجاتهم اليومية إضافة إلى راتبها كمعلمة، خسر مورد رزقهم أثناء اشتباكات مسلحة قبل عامين ووافق جاره مشاركته العمل على سيارته التاكسي على أن يتقاسم معه دخلها مناصفة، والأهم من كل هذا فقدوا ابنتهم التي اخترقت رصاصة جسدها المستند على الجدار أسفل النافذة وخلف فقدها جرحاً لا يندمل.

ارتدت وشاحها وخرجت على أطراف أصابعها حريصة على عدم ايقاظ زوجها وولديها النائمين، ألقت تحية صباحية هامسة على جارتيها قبل أن تحاول فتحية تشغيل السيارة بمساعدتهما هي وعويشة بدفع السيارة أو ما يمكن وصفها ببقايا سيارة داوو سيلو بنوافذها المغطاة بأغلفة بلاستيكة مرنة بدل الزجاج وهيكل صدئ ومحرك لا يعمل إلا بالدفع نظراً لضعف بطاريته وعجز فتحية عن شراء بديل لها، كان الظلام لا يزال يخيم حين هدر المحرك بصوته القوي وكاد أن يوقظ أهل الحي النائمين، لكن أهل الحي اعتادوا الصوت وأصوات أخرى مرعبة أكثر فلم تعد تؤرقهم الأصوات إلا نادراً، ضحكن وكدن يصفقن فرحاً حين اشتغلت السيارة بعد دفعها لمسافة قريبة، ركبن مع فتحية وانطلقن إلى طابور المصرف قبل أن يزدحم ولم تكن الساعة قد تجاوزت الرابعة صباحاً.

خيم السكون على الراكبات وكل واحدة منهن غرقت في أفكارها الخاصة، أسئلة معتادة تدور في أذهانهن دون الإفصاح عنها، هل سيتمكن اليوم من سحب مبلغ بسيط؟ هل سيطول وقوفهن في الطابور؟ وهل سينجون من الإساءة والشتم؟ وإن تمكن من السحب اليوم فيما سيصرفن المبلغ وعلى أي أولويات؟ زينب كانت حائرة مع سؤال أخر اضافي ، ترى هل سيصدق معها الموظف الذي وعدها قبل اسبوع بأن يساعدها على سحب راتبها الشهري كاملاً ؟ صدقته رغم احساسها بأنه كاذب، فلم تكن المرة الأولى التي يعدها فيها ويخلف بوعده، “يا إلهي رغم أنني معلمة لعلم النفس ولكن تنطلي عليّ حيلة تكرار الكذبة لتصبح حقيقة وأصدقها، أدرك أنها كذبة واختار تصديقها لعل الصدفة أو القدر يحققها.. كم أنا حمقاء!”.

بدأ الازدحام أمام باب المصرف بعد انجلاء عتمة السماء وظهور تباشير الصباح وأشعة الشمس الباهتة التي عجزت عن تفتيت الضباب وبعث الدفء للطقس البارد في صباحات شهر مارس المتقلبة كنهاراته ولياليه كل ساعة يدخل فصل ليخرج أخر في تبادل غريب لفصول السنة، مثل الكذبة التي صدقتها زينب رغم علمها أنها كذبة، هموم تتكاثف فوق وجوه الناس الواقفين في الطوابير تسبق الشكوى التي تقفز إلى الشفاه في أحاديث بعضها هامس وبعضها يعلو ويهبط حسب حماس المتحدث ولوعته وقلة حيلته، تسللت زينب بخفة ناحية أحد النوافذ ونادت بصوت أشبه بالهمس على الموظف، لكن أحد الحراس نهرها وأعادها للطابور وهو يمسك بعصا طويلة وكأنه يهش الأغنام صارخاً فيها أن تعود لمكانها وإلا فلن تتمكن اليوم من الدخول، ابتلعت الإهانة مع لعابها كي تخفف الغصة التي علقت بحلقها، مر كالعلقم كان لعابها زاد الوجع على الوجع، ابتهلت في سرها أن تتحصل اليوم على ذاك الراتب الملعون لتتمكن من تصريف أمورها العالقة.

بعد ساعات أربع وضمن فوج جديد دخلت زينب بهو المصرف ووقفت خلف الشباك تمد “الصك” المتجعد الباهت من كثرة تعرق يديها وقبضها عليه بقوة لأيام متتالية، نظر إليها الموظف من خلف نظارته ببرود وقال: فرغت الخزينة عودي غداً.

جف حلقها مما منعها من الصراخ الذي ضج بداخلها، خرجت تجر أذيال الخيبة والقهر والدموع تكاد تفر من عينيها الذابلتين من الحزن والأرق لعامين كاملين، لحقت بها جارتيها اللتين خاب مسعاهما أيضاً، وكان لا بد لهما من دفع السيارة مجدداً قبل العودة إلى منازلهن خائبات الرجاء، في رحلة العودة بينما كانت جارتيها تتحدثان بعصبية وتشكوان وتشتمان ما أوصلهما لهذا الحال البائس، فضلت زينب الصمت وهي تفكر كيف ستتدبر ثمن الطلاء لتتمكن من العودة لبيتها بعد أن قضت سنتين هي وزوجها يقتطعان الجزء الأكبر من المصروف على ترميم البيت ولم يتبقى سوى طلاء الجدران وتنظيفه لتعود إليه.. كم تمنت لو أنها استطاعت بيعه وشراء بيت أخر، هذا البيت يذكرها بابنتها البكر التي طالتها رصاصة غادرة اخترقت الجدار أثناء متابعة هناء لرسوم متحركة تعرض على إحدى القنوات، لا يمكن أن تنسى لكنها في غمرة المصاعب ومشاق الحياة تسهو ذاكرتها عن الحادثة، وبمجرد عبور تلك اللحظات أمام شاشة ذاكرتها الحية يشتعل جسدها بحرقة لتعيش ذات اللحظة التي غمرت ابنتها فيها وأخذتها إلى حضنها وهي تصرخ بلوعة طالبة النجدة ودماء ابنتها تسيل دافئة حولها، انتشلوها من بين يديها لإسعافها، لحقت بهم حافية بملابس البيت الرثة تتضرع أن ينقذوها ويعيدوا لها ابتسامة عمرها وفرحتها البكر، لم تستوعب ما حصل أو أنها رفضت الاستيعاب حين أخبروها أن روح ملاكها غادرت إلى السماء وحلقت بعيداً، كانت لاتزال تسمع صدى ضحكاتها وحتى رسوماتها وألوانها هي لم تأخذهم معها.

تلقاها زوجها أمام البيت سألها: ماذا حصل معك هل… أشارت بيدها بالنفي والاستياء فلم تكن راغبة بالكلام ولا قادرة عليه حتى، دفعها برقة لتدخل إلى البيت قائلا “لا عليك تفاهمت مع جارنا على مدخول أمس أن يتركه لي ومع ما ادخرناه سيكفينا ثمناً للطلاء، سأذهب بعد قليل لأشتري الطلاء ومن الغد سنذهب ونطلي الجدران ونستقر في بيتنا.. أرجوك خففي عنك لا أحب أن أراك حزينة.. عودي زينب المشرقة المبتسمة التي عرفت”.

في صباح اليوم التالي انطلقت زينب وزوجها إلى البيت وبدآ بطلاء الجدران وتنظيف الغرف إلى أن وصلا غرفة الصالون “المربوعة” حيث قتلت ابنتها والتي كانت تتجنبها زينب، تركت زوجها يهتم بالطلاء وانشغلت بإعداد وجبة سريعة للغداء المتأخر فقد انتبهت أنهما تجاوزا الرابعة عصراً دون طعام وهما يعملان بهمة ونشاط، فلم يكن البيت سوى ثلاث غرف وصالة ومطبخ صغير وحمام أصغر، أعدت الوجبة السهلة والسريعة لدى جميع الليبيين “المكرونة المبكبكة” وانطلقت مسرعة نحو زوجها بعفوية تناديه لتناول الطعام، تسمرت على باب الغرفة حين رأت زوجها يقف متجمداً أمام الجدار الذي كتب عليه قبل سنوات “قرار حماية المدنيين – قرار الحياة” وقتها كان سعيداً ولم يجرؤ على التعبير عن فرحته بهذا القرار التاريخي خشية من جارهم ضابط الأمن فأخذ ألوان ابنته والتي كانت قد نسيتهم مبعثرين على طاولة الصالون وأزاح المسند أسفل النافذة وكتب تلك الجملة على بعد سنتيمترات قليلة من ثقب الرصاصة التي اخترقت الجدار وجسد ابنته الطري الصغير، رفع نظره نحو زينب وهاله شحوبها وعيناها الغارقتين في عتمة الأرق المحيط بهما وتجاعيد الحزن التي حفرت وجهها، أشاح بوجهه نحو الجدار بسرعة وأغرق الفرشاة بالطلاء وغطى تلك الجملة بحركة سريعة وطبقة كثيفة لتختفي من أمام ناظريه، تماسكت زينب ولملمت حزنها وعضت على جرحها فلا يزال أمامها مستقبل طفلين يحتاجان إليهما وقالت لزوجها بصوت مرتجف “في الحرب لا أحد ينتصر سوى الموت”.

_____________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

الغولة

محمد العنيزي

قصة أحدب القرية

المشرف العام

القلم

فتحي محمد مسعود

اترك تعليق