الراحل عبدالله السعداوي.
المقالة

نص تمثل وصوغ استحضار.. في ذكرى رحيل السعداوي.. الشاعر والإنسان

حسن الأمين

الراحل عبدالله السعداوي.
الراحل عبدالله السعداوي.
الصورة: السقيفة.

الخلوة فسحة جلوس إلى الذات وإهمال للمحيط، اعتزال في جنان الخصوصية وتوطن في مملكة الاعتكاف بغية التأمل والتدبر والاسترجاع. براح الذات شاسع ومؤثث بالذكريات والمراجعات والأحداث وتفاصيل من صور وأصوات تجمعها مشاهد مرت وأحاديث مضت وأناس عبروا ويؤطر الكل ساعة الزمان وفضاء المكان…

التسارع المنفلت لعجلة الحياة في درب التراكم والتقادم يستدعي الرؤية والتروي في مطالعة الجاري وملاحقة الواقع. غير أن الفائت يجذبنا نحوه ويحنو علينا متى ضاق الحاضر وتعملقت الهموم. الماضي الجميل وهو الأفضل والأحلى رغم ما قد يعتريه من مرارات ويشوبه من ضيق في حينه، لكننا نتحايل على ضنك العيش ومواجع أحزان اليوم باستدعاء فرحات الأمس ورفاق الأمس…

من أجمل الذكريات وأحلاها تلك التي تربطنا بآخرين أعزاء، بأناس عرفناهم وتقاسمنا معهم خبز يوم وملح زمن, جمعتنا بهم مدارات حوار. هموم رؤى وأمال عمر. أولئك الذين تركوا مقاعدهم وغادروا خميلة الرفقة الطيبة فأبكت مآقينا صورهم وأشجتنا كلماتهم وأحاديثهم…

لم تنجح بيئة الاغتراب الإجباري الباردة في خفض وهج الوطن ولا في تجميد الذاكرة، لا زالت الذكريات دافئة بالحياة نابضة بالحضور وعامرة بسواقي لا تنضب ينهل من فيضها جذري المغروس هناك ويقطف ثمرات قصها أولادي في تراب المهجر. كانت ومازالت سلواي ومبعث سروري وإن صاحبتها دفقات الوجد وكثيرا من الأشجان…

عبدالله السعداوي كان جارا ضمن جيراني السبعة وصديق من حينا القديم بمصراتة… كان الراحل رحمه الله، جليس ورفيق “حائط المبكى” في مقهى (الحاج) حيث كنا نلتقي ننفق الوقت في مقهى الفائدة ونشتري بضاعة المعرفة والأدب من أمسيات الهدوء. كان الراحل صاحب طرفة ومالك بديهة لا يشق لها غبار، يلتقط الحكاية والتعليق من فم اللحظة ويطرحها على مائدة الندماء فيبعث في النفوس بهجة وسرور…

أخر مرة رأيته فيها كانت هنا بلندن بتاريخ 6 مارس، عام 1989. في زيارته تلك التي جمعتنا لمدة أسبوعين تداعت لكلينا صور تلك الأيام البهية التي عشناها في حينا القديم وتجاذبنا أحاديث البلاد بنكهة مصراتية مترعة بالأسئلة عن فولان وعن علان وماذا فعل بذاك الزمان وما هي أخبار الجيران والأصدقاء والخلان؟…

طيلة اربعة عشر يوما كنت مستمتعا برفقته وحديثه الذي لا يمل وقفشاته العذبة. كان الراحل كما عرفته في الديار… أديبا أريبا وإنسانا ذي حسا مرهف وذوقا رفيع يحمل في داخله ضميرا طاهرا وقلبا نبيل…

حين غادرني مسافرا ترك لي معطفا شتويا. لعله أراد أن يقيني من صقيع لندن… كانت هديته الدافئة تلك ولا زالت ذكراها دافئة كدفء عباءة ليبية وعبقة برائحة الوطن…

أحزنني نبأ مرضه العضال الذي داهمه به قدره وطلبت له من العلي القدير أن يهبه صبرا على صبره وتمنيت له الشفاء العاجل ودعوت له… لكن نبأ وفاته صعقنا وهيج الأحزان فينا فاستعرت في الحشا نار فقده… وهاهي ذكرى رحيله الأولى قد أعادت ذكراه التي لم ننساها وتجلت ذكريات رفقته كأنها الأمس… وهاهي نصوصه وأشعاره تعزينا وتترك أثرها الدافئ في صقيع الأيام كما هي هداياه…

من هنا إلى هناك… إلى مصراتة، حيث مرقده الطاهر بمقبرة المطاردة بقرية زمورة الطيبة، أتلوا فاتحة الكتاب على قبره وادعوا له ولوالدي ولسائر المسلمين بالمغفرة والرحمة…

لقد افتقدناك يا عبدالله لكننا ذاكروك…

_______________________________________

28/07/2007

* غادرنا عبدالله السعداوي، الشاعر والإنسان، يوم الجمعة 23 يونيو 2006. اللهم اغفر له وارحمه واجعل مثواه الجنة.

نشر في السقيفة الليبية.

مقالات ذات علاقة

رسالة النظرية الاتزانية: تكامُل المنافع .. وتعاطُل المضار

علي بوخريص

الخيميائي الذي فخخته الكلاب

منصور أبوشناف

عرائس أنجامينا

أحلام المهدي

اترك تعليق