إلى روح / محمد الفقيه صالح
هكذا ،
مذ كنت صبيا ،
تمطط الوقت بكسل كعادتك أحيانا ،
تعابث النهارات الطويلة ،
و لا تركن إلى مساء كنت تعرف جيدا أنه قادم ،
. .
تداعب الشغف بين يديك الطريتين ، و هو لا يستجيب ،
يشغلك الواقع ، فتتحسس أزرار قميصك ،
و تشاغب النقود المعدنية الرابضة في جيب سترتك البنّية ،
. .
تتطلّع إلى أعلى بوله الفراشات ،
و على مرأى من أسراب السنونو التي تسبح هائمة في الفضاء ،
تلامس السحاب و هو يخب في الجوار ،
و لوقت طويل بعد ذلك ،
تحاول أن تذرع الدروب الضاجة بالخطى العابثة و هي تناغي الريح ،
و في الأثناء تظل عيناك تضيئان مسارب الحقول ،
عيناك اللتان كانتا دوما ، تبرقان بشعاع الغرابة ،
و تحرضان من طرف خفي ،
أصابعك التي تعابث الحروف ببراءة مذهلة ،
و تنسج منها كيفما اتفق ، عقد من كلام ،
كل ذلك كان يحدث في بواكير أيامك الواعدة ،
و قلبك الذي ظل يخفق بانتشاء ،
قلبك الذي ظل يذرع براري الأحلام النبيلة ،
قلبك الذي ظل محملا بسلال الدهشة و متجاوزا طفولته اليانعة ،
قلبك الذي غالب المرارت ،
قلبك الذي لا ينصاع خفقانه إلا للذهول !
هكذا قادك ، و مبكرا جدا ،
و كما يفعل دائما شعاع الشمس المبهر ،
إلى أن تتطلّع بجسارة باهرة إلا ما وراء الأفق ،
و أن تترك أوهامك البريئة تحلّق في سماء ما لها سقف !
. .
هكذا علّمتنا رغم المرارت ،
أن النهارات الواعدة لا تكف عن الغناء ،
و أن الطموحات المجهضة ،
مهما حدث ،
ستظل إنشاد جماعي في البراري و مسارب الحقول ،
و أن اللحن عادة يسبق الإيقاع !
. .
و حقا ، كما أخبرتنا ذات بوح ،
و أنت ترى إلى بعيد ،
كانت الحدأة على مشارف التلال ،
لا تكف عن الأنين ،
كانت طيفا باهتا و ظلالا مخادعة ،
وهما لا نهاية لامتداده ،
و كانت الأيام ،
أفعى تتلوى على إيقاع شعاع الشمس الملتهب ،
ترقص على ساق واحدة ،
و ترسل فحيحا مرعبا تفزع له لكائنات ،
فحيحا ينحدر من بطون الوديان ،
كهدير سيل مدمّر ، قادم من شعاب الجبال ،
. .
نعم ،
أيها الرفيق ،
كان العوسج دما غادرا لا يعرف الحياد ،
و كانت الأيام ، أهداب قلقة تجرح مسارب الأحلام ،
و كان الأفق ، وهما راديكاليا بامتياز ،
و كان العشب الرمادي ، بروليتاريا حقّا ،
و كانت البراري تقاسي العطش ،
و لا أمطار تأتي من وراء قمم الجبال الباهتة
و كان دبيب خطى الإبل على الكثبان ، حوارا شائكا ،
قد بدأت ترفضه رمال الصحراء ،
. .
و في الأثناء أيضا ،
كانت طرقعات مطارق النحاس ،
نبضات أصابع بيانو ، تخفق هي الأخرى ، و تأن في ألم نبيل ،
نبضات أصابع بيانو ، كانت تنبئ عن مجيء قد يتأخر قليلا ،
لكنه لا محالة قادم ،
. .
كان الليل في براري الوهم ،
أرجوحة هائمة ،
وردة تظم أكمامها في خفر و أمنية لاشتعال نبيل !
. .
نعم أيها البهي ،
كان الوقت ليلة عاصفة لا تكف عن الغواية ،
و براح الصحراء دوّامة من غبار كالح ،
و موعدا للوعول القادمة ،
و كان الوقت أيضا ، أنينا خافتا لعراجين البلح ،
و أفقا لا يكف عن الشرود ،
. .
فما الذي دفعك إلى الإبحار و اللجة ما لها من قرار ،
هل واعدتك النوارس بالرسو إلى بحر من اللذات و المتع خفية ،
تلك التي لابد أنها لا زالت رابضة هناك ،
في الأعماق المظلمة السحيقة ،
فهل كنت تتوقع لقاربك الوصول ،
رغم أنينه الذي لا يكف عن النداء ،
أم أن الشراع ، بدون أن يخبرك خانته الريح ،
و ابتعدت عنه الجزر ،
و اختفت من حوله الخلجان !
. .
أيها النبيل ،
لما تركت الخيال يغص بشهقاته و لا يبوح ،
هل ودّعته سرك المكنون ،
و هذا النهار ظلّ يناشدك آملا ، كي لا يتجرّع كأس المرارة ،
و لا تنطفئ جذوة الأشواق ،
هل واعدته بلقاء بدا لك في وقتها قريبا ،
أم ودعته هكذا ، في غفلة من نهار لا يريد أن يبرح المكان ؟!
. .
أيها المولع بصراخ النوارس ،
يا رفيق الشراع و القوارب ،
هكذا في نهاية المطاف راودتك الأماني الخجولة ،
و أنت تتطلّع من قمرات المراكب ،
إلى تلك المرافيء البعيدة ،
و المنارات تنده لك ،
على بعد خطوتين من انكسار الظل ،
حيث أوقفتك اللجّة هناك ،
حيث فاض البحر بالحسرات الجريحة ،
إذ كنت غير مكترث ، لليل غارق في الوهم ،
و الوقت كما كنت ترى ، لعنة مارقة ،
كنت الحاكي الذي أضاءت لأفق خياله العتمات ،
كنت ترى إلى ما هو قادم و لا تفزع من المجهول ،
فكم من أقبية تجاسرت على زحزحت مغاليقها ،
و كم من جبال تسلٌقت ذؤاباتها بخيالك الجموح ،
. .
أيها الراحل محتضنا بهاءك ،
الوقت حقا لم يكف عن الشرود ،
و لم تكن هناك أبدا نهاية لامتداده ،
فلا عليك ، إذا كنت ذات يوم موعود بالانكسارات ،
لا عليك ، و أنت القامة التي لم تنحن ،
لا عليك ، إذا كان الأفق يزداد قتامة ،
فالغيم عادة لا يداري انفعالاته ،
متدحرجا أو مرتبك أو متواريا بلا ظلال ،
. .
و الغيم ، ذلك الذي بدا لك ذات مساء ،
و أنت تبحر في السديم ،
منحسرا في غلالة زرقاء ،
يلوّح لك من بعيد واعدا أو حزين ،
علّه يقول لك ،
أو كأنه يقول لنا ،
لا عليك ،
لا عليك ،
ها هو الغيم ،
بدأ حقّا ، ينثر ما تيسر من رذاذ !