من أعمال التشكيلي الليبي عادل جربوع
طيوب النص

يا سيدي الشعاب ..

من أعمال التشكيلي الليبي عادل جربوع
من أعمال التشكيلي الليبي عادل جربوع

 

خطوة إثر خطوة تتداعي الأماكن في خاطر القلب , فهل أنسى (سيدي الشعاب) قلب الذاكرة هو , ذاكرة القلب , ذاكرة الروح ,ذاكرة البنت الصغيرة ,البنت التي تغدو هي البهجة وجدتها (صالحة) تهيب بأمها (زهرة) أن تسرع في إعداد (الكسكسي), يااااه, كيف تفوح تلك الرائحة, تتسلل لمسام الجسد, تعبر من أنفها المفرطح وتوا تصعد إلى الرأس فتدوخ, تسكرها رائحة الزهر والقرفة, رائحة زيت الزيتون الذي عتّق طعم كل شيء, لحم الأبل والبصل والحمص, والقرعة الحمراء, أمّا (الكسكسي) فهو الملك المتربع في قصعة الخشب بلونها الغامق, ويد أمي ترص قطع  اللحم ثم تغطيه (بالياهني) تُرى هل اشتقت تسميته من الهناء, فالكسكسي المغطى بالبصل والحمص بالمرقة اللذيذة كأنّه يجلب الهناء لقلب من يطعمه.

وهكذا يفوح غي بيتنا يوم الجمعة أو عشية الخميس في بعض الأشهر حين تقرر جدتي صالحة (حناي) أن تذهب عشية الخميس حيث (سيدي الشعاب) حتى لاتفوتها (الحضرة) وختم القرآن على الماء الذي لابّد أن تجلب منّه , وتجيء عمتي (امني) رافلة في فراشيتها لتؤنس جدتي, وجدتي لاتأنس إلاّ معها, وهكذا نبدأ مشوارنا المقدس  تحفنا دعوات أمي بالسلامة والتوصيات لعمتي كي تردّ البال مني, فمازلت أنذاك بنتا وحيدة, من سقيفة بيتنا ندلف إلى (فم الحياش) ثم نشق المسرب تحفه طابية عن يمين وشمال وتظلله أغصان التوت والزيتون وشجر الحنة والليمون تطلب مني عمتي الركض لأرقب إذا كان ثمة (كريللة) أو (التوبوس) كما تنطقها جدتي, فأركض جيئة وذهابا, خاصة حين أجد الحافلة تنتظر لأخبرهما فيبدأ الإسراع  الجماعي, والإنتباه لقصعتنا المشتهاة ولخبزة الفرن التي ترقد في (علاقة السعف) ورائحة الشاي والقهوة ولون السكر في عشية خميس رائقة, نصعد الحافلة تحي جدتي الجميع (السلام عليكم) فيردون بتحية تبجيل ويفسحون المكان.

وتبدأ رحلة مفعمة بالتوق, أسرح مع غيمات الصيف البيضاء ورائحة تهلّ من وراء (طوابي الهندي) أرقب الأخيلة المترائية, انظر جناح بير هنا وهناك, (بير خيار) وسانية الدالي, سانية جدي امحمد, هكذا تدور الحافلة ويدور رأسي الصغير وعيناي تزوغان, وأصوات تحكي وتهدرز وتنزل في محطات, حتى ينكشف تلألأ في غبش العشية, شمس تصارع كي تبقى والبحر يجذبها لحضنه الازرق, تظهر القبة, يشّع البياض (تستور ياسيدي الشعاب تلهج (حنّاي وعمتي امني), رؤوس صغيرة وكبيرة, ألوان ثياب, رجال, نساء أطفال, والبحر, درجات صغيرة تنهبها قدماي, عمتي تنادي (ردّي بالك) يتمسح زبد الموج بقدميّ, أركض لألحق بركب البنات ومثلهن أذوب مثل حبّة ملح, حتى يعلو صوت الأمهات, هل كان ثمة ليل, يرتفع أذان وتعلو همهمات, وضوء خافت يغمرنا, لسعة برد ورائحة تفوح, وطعم (طاسة الشاهي) وخبزة الفرن, يأخذني حنين لأبي لأمي ولإخوتي, ترى ماذا يفعلون الآن..؟

وكأن (حناي) تقرأ مافي قلبي فتقول : (هيا يا امني).

وتبدأ رحلة جديدة مفعمة بتوق آخر, ومشوار يغمره ليل نجومه ساطعات وقمره فضي ويحفّه (سيدي الشعاب) بركة عباد الله الصالحين.

_____________________________

نشر بموقع بوابة أفريقيا الإخبارية.

مقالات ذات علاقة

وحيد

أمل بنود

نزلة برد حادّة

مفتاح العماري

البسطاء

مقبولة ارقيق

اترك تعليق