النقد

ســرّة الكون سرّة الحياة

قراءة في رواية (سرة الكون) * للروائي الليبي محمد الأصفر

(لو كانت السماء دروب لتاهت العصافير).. في كون الأصفر السردي الدروب متاهة، والاستقامة وهم، فكل مستقيم هو في الواقع معوج، روايته لا تستجدي مقولات، مثل البنية، والخط الدرامي والسياق.. وغيرها، إنها متاهة حقيقية، لكنك لا تملك إلا أن تستمتع بالضياع فيها ومعها، روايته لا يكتبها بأصابعه، أو بعقله، أو بوعيه، إنما يكتبها بأقدامه التي أينما حطت أو تحط يشتعل السرد، لا شيء يفعله سوى أنه يتسلى بتحريف (نسبة إلى الحرف) حياته.. وبتحريف (نسبة إلى الانحراف) مسار كتابته كلما أحس أنها تماثلت إلى الحكي الحكيم.. الحياة المكتوبة شيطان ليس أخرسَ، وعلى جميع من دخلوا حياة الأصفر أن يدفعوا الثمن، حيث لا مفر من خضوعهم لطقوس التعري التي يمارسها راقصاً.. إنه بظفر حاد يكتب على البخار المتكثف على زجاج الحياة ليتمكن من الرؤية والرؤيا، ويلهث دون هوادة في صحراء لا دروب لها… آثار أقدامه على الورق تشي بعطش قديم إلى البوح، عطش لأن يحكي ويشعر ويشتم ويقبّل ويبصق في وجه أي أحد، لا شيء بمعزل عن هذه اللعبة الأثيرة، ولا مقعد حجري لا يمكن أن تدفئه مؤخرات الكلام المباح وغير المباح.. في هذه الرواية كما في الصحراء يمكنك أن تعرف مكانك بشم التراب الذي تطأ عليه، أو بلصق أذنك على الرمل القائظ لتسمع نبض قافلة بعيدة.. يمكنك أن تنظر فوق، إلى السماء لتعرف أين تحط أقدامك وأين تتجه.. يمكنك أيضاً (أن ترفع إصبعك الوسطى إلى السماء) ليكف نزيفك على الأرض، ولتعرف أنه ليس بمقدورك أن تعرف إلا حين تتلبز بوحل المكان ومجازه، ولا يمكنك لكي تعيش وتضحك إلا أن تحب كل شيء فيه، الحشرات، الشعراء، مستنقعات المجاري، العاهرات، الأبطال، أذان الصلاة، الدراويش، العاهرات، وحتى (الحجر الأصم).. ليس بمقدورك أن تعرف هذه البقعة من العالم إلا بمزيج الحب والكراهية، أن تحبها كلها.. من باتوس إلى مورينا، إلى اليهود الذين أجبروا على الرحيل منها، أو بمعنى آخر وكما يقول السارد : (هكذا هي الحياة علينا أن نكرهها ونحب هذا الكره لها) حينما نكره نرى بوضوح وحينما نحب هذا الكره نكتب بشغف، لنكتشف في النهاية أن كره الأصفر ما هو إلا شفرة لحب مختلف.

بدأ الأصفر روايته من قورينا الغائبة تحت حشائش النسيان والحاضرة في وجداننا بحب مشوب بأسئلة الهوية.. قورينا في ليبيا لكنها ليست ليبية، نفتخر بها ونخاف منها، لذلك تركنا الحشائش تتراكم فوق أطلالها، ورق التوت الذي نستر به عورتنا التاريخية، أو إهمالنا للذاكرة التي لا تخلو من الريبة، من هنا بدأ الرواية لكنه كان لابد أن يذهب إلى طرابلس ليبحث عن السلفيوم وليكتشف ليبيا، كان يفر من ميثولوجيا الكتب ليشيّد أساطيره الخاصة في حاضرة هذا الكيان، وكان لا بد أن تقتحم مورينا هذه الرواية لتصبح قدرها، وليحفر في مناجم كحلها بحثاً عن مخلفات ليبيا القديمة الراهنة، ليبيا التي سيعشقها حتى الجنون، ويعطيها كل شيء حار في داخله، والتي بدورها ستبخل عليه حتى باسمها الذي عليه أن يسحبه من الرواية، كان لابد أن يخترع أسطورة مهجة لتستمر الرواية.. شخصية يستدعيها من نطاف الأصلاب، من الحلم العصي، من ركام الكذب الذي يردم حياتنا اليومية المقنَّعة، لنحاكم الجميع، ولترافع عن الخطيئة المرعبة التي مازالت تلاحقنا.. مهجة هي المسيح الذي (نطح البكارة برأسه)، وأصبح في وجدان العالم معجزة.. بين الخطيئة والنبوة شعرة، تحاول مهجة أن تلفها على ظفر سبابتها وتشير بها إلى السماء المخدوشة.. بين الخطيئة والمعجزة عَقْد أخلاقي هو الذي دشن الإنسان فوق الأرض في أكثر لحظاته صدقاً وتمرداً، مهجة لم تتكلم في المهد لكنها تكلمت وهي مشطورة بين الصلب والمبيض، مهجة هي عبدالسلام الأسمر الذي أختار أن يغني من منفاه المعتم، معجزة الأصفر الذي يحاول بها أن يثبت نبوته المارقة في أرض يتآكلها الضلال.. تتسع لكل شيء، للقمامة ومحطات النفط والمقاصل والسجون والبوليس، وتضيق عن حالة حب تكتب نفسها، أو تنكتب كل لحظة في شوارع طرابلس وأزقتها ومقاهيها.. كيف يمكنك أن تحلم في أرض، فيها اسم الأنثى عورة، والمزهرية قرب السرير تهشمها الأحذية التي تدخل دون استئذان ؟ أسئلة الأصفر الضمنية التي لا يبحث عنها، وليس مأخوذاً بأية إجابة لها.. يهذي لأن أقدامه تهذي.. يسير مثلما يسير النائم على حافة الجسر.. يسقط بمجرد أن يستيقظ، والأشياء التي يمر عليها تتأنسن بنزواتنا، جذوع الأشجار والجدران والمراحيض.. لا تتأنسن وتدفأ إلا بالبذاءات التي يخطها العابرون، وما وعدنا به في بداية وأثناء السرد لم يأتِ أبداً، لأن مورينا العصية لم تخرج منه.. هذا المس الذي لم تنفع معه التعاويذ ولا الضرب، هو في الحقيقة ليبيا المليئة كهوفها باللوحات والغيلان والجنون، البحث عن السلفيوم، وحلول روح باتوس في الكاتب الذي سيؤسس ليبياه هو، سيملؤها بالأساطير والمذابح والمعابد، الرواية بمجملها نبتة سلفيوم تنمو بداخله.. (رواية تائهة كالكرة الأرضية لأن لا أحد يعرف شيئاً، حتى الكاتب نفسه عن مصيرها) إنها لا تتوخى سوى المتعة كشرط فني وحيد لها (فمن رحم المتعة يولد الأحرار ويتلاشى الدمار) هو يحب أن تتشكل في الظلام حيث الأحلام اللذيذة والهترسة التي لا يحكمها منطق..الظلام الذي يضئ نورنا الخادع.. من ظلام الرحم يستنطق مهجة.. نبتة السلفيوم الأخرى التي يبحث عنها في ارتعاشة حلمية مؤجلة لزواج أزلي، يقع في التاريخ واللحظة، في الواقعة والأسطورة، في النور وفي العتمة، في أحلام الظلام اللذيذة وكوابيس النور التي تحيكها المدينة بعناية.

هذه الرواية تستفزك من جملتها الأولى.. تتشاجر معها وتلعن ديكها فتلعن ديكك.. تُضحكك وتبصق في وجهك، توشوش في أذنك نكتة بذيئة ثم تصفعك وأنت تضحك.. يدخلها كاتبها وهو لا يعرف شيئاً عنها، حيث الكتابة وسيلة للمعرفة وليس العكس.. يدخلها القارئ متوجساً أن يجد اسمه فيها، وخائفاً أن يتيه فيها إذ يتيه بها، القارئ الذي يدعي المعرفة المتعالية عن نص يتشكل بين يديه سيتعب كثيراً ويكابد هذا التداعي الذي يهدد نرجسيته، وسيقابل كثيراً من الشتائم الموجهة إليه مسبقاً، بإمكان أي قارئ أن يكون أحد شخصيات الرواية حسب موقفه منها.. رواية حدسية لا تحكمها رقابة تقليدية أو محدثة، تحتاج لأجل ذلك إلى مساحة شاسعة من التسامح في فعل القراءة ولكثير من تجاوز الذائقة المألوفة، كاتبها كما يقال ( الّي في قلبه على لسانه) أو بالأحرى الذي في قلبه على رأس قلمه.. يكتب ما يفكر فيه ولا يفكر في ما يكتب.. الرجل هو روايته والرواية هي الرجل، لا يمكن أن تفصل بين الأصفر وكتابته.. نصه مستنسخ عنه، يمشي كمشيته مترنحاً.. دائماً يتصبب بالعرق.. نص ثقيل السمع يحكي ولا يسمع.. سخي، دائم الترحال ومحير.. النص فاضح بكشافه المسلط على حياتنا السرية وشوارعنا الخلفية وذواتنا المهمشة، مسلط بقسوة على عتمة هذا المكان التي فيها نمارس كل متعاتنا المحظورة، حيث الحياة تتدبر نفسها في الظلام والزوايا المهجورة لتلقي بنا مع شروق الشمس في كوابيس النهار.. فاضح إذ الفضيحة وجه آخر للمعرفة، من نسيج الحياة ومرادف للحرية، وللذات المتعدية بتاريخها كله على اتفاق الجماعة المؤدلج.. الرواية كما يؤكد كونديرا شرطها الأخلاقي الوحيد هو المعرفة ويكفيها هنا أنها قالت ما لا يقال بغير الرواية، أو كما يقول الأصفر ضمنها: السراب دليلها، وكما قال في البداية: لو كانت السماء دروباً لتاهت العصافير… فتنحوا أيها الأساتذة و دعونا نسمع العصفور.

مقالات ذات علاقة

ابتسامة ساخرة في وجه الألم!

غازي القبلاوي

شِعريّة الصّورة وتشكّلاتها في قصيدة “ظل مـآقي الرّيـــح” للشّاعرة/ أُميلة النيهوم.. مُقاربة بدئيّة

المشرف العام

(رحيل آريس): دلالاتُ الأسطورةِ وجمالياتُ التداخلاتِ الأدبية

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق