قراءة في مجموعة جمعة بوكليب ‘حكايات من البر الانكليزي’
يتميز السرد النثري بأشكاله المتعددة بقدرته على التطور بحسب التغيرات المستحدثة على حياتنا اليومية، فالسرد بشكل عام يمنح الكاتب الفرصة للتعبير عن الحالة المعاشة بطريقة تبتعد عن التقريرية والمباشرة الصحفية أو الغنائية الشعرية وخاصة في الثقافة العربية التي ما تزال أسيرة للقوالب الأدبية التقليدية في التعبير واختزال الواقع إلى كلمات والمعاني التي تختبئ وراءها.
وإن كان السرد النثري قد اقتصر على شكل القصة القصيرة والرواية بنوعيها الطويل والقصير وتفرعاتها من رواية أدبية إلى رواية الإثارة، والجريمة، والفانتازيا، وقصص وروايات الأطفال والمراهقين، فإن الكتابة التي تجمع ما بين المقالة الصحفية بتقريريتها واعتمادها على اللغة المباشرة والقصة التي تتميز بالجمل القصيرة والتكثيف وفي بعض الأحيان اللغة النثرية الغامضة بما في ذلك من محدودية المكان والزمن الواقع فيهما السرد، فإن ما اصطلح على تسميته بالمقالة السردية أو ربما المقالة الحكائية، تظل من الأجناس السردية التي لم تتعرض للتجريب بشكل واسع في الأدب العربي المعاصر.
في كتابه الصادر حديثاً عن دار ليبيا للنشر بالقاهرة (حكايات من البر الانكليزي) يجمع الكاتب (جمعة بوكليب) بين عدة أشكال سردية مختلفة، ولكن الشكل العام الذي يحتويها هو المقالة السردية القصصية، فالكاتب هنا لا يفصل بين الراوي ونفسه أو بين الشخوص التي يحتويها النص، فهو يجعل القارئ يتماهى مع شخصية السارد والكاتب مما يمنح النص خصوصية وحميمية تتميز بطابع السيرة الذاتية وهو ما يجعلها أقرب للتصديق لواقعيتها وفعلها المباشر من التركيب السردي المتخيل الذي تعتمد عليه القصة القصيرة أو الحكاية. كما أن لجوء الكاتب إلى المكاشفة والمجاهرة بوجهة نظره في ما يرى ويسمع وما يتابعه من خلال سرده لأحداث من سيرته الذاتية أو حياته تمنح الكاتب وسيلة للتعبير من خلال شكل المقالة الصحفية، فاللغة المستخدمة وإن انتحت جانب الاختزال والتكثيف الذي تتميز به القصة أو الحكاية فإنها في كثير من الأحيان تتميز بالمباشرة وسلاسة الوصف وسهولة البناء.
جمع الكتاب خمساً وأربعين حكاية أو مقالة سردية. وباستثناء الحكايتين الاولتين في المجموعة (العد من الواحد إلى العشرة) و(حصار) اللتين كتبتا في أوقات سابقة وبطريقة اقرب إلى المقالة في الأولى والقصة القصيرة في الثانية فإن باقي الحكايات اتخذت من أسلوب المقالة السردية وسيلة للتعبير عن الحالة المعاشة. وبشكل عام يمكن للقارئ أن يتبين عدداً من المستويات للسرد تشترك فيها هذه الحكايات.
فالراوي/الكاتب لا يختفي وراء شخصية مركزية متخيلة وإنما لا يدع مجالاً للشك بأن من يروي الحكاية هو الكاتب ذاته، لذا يجد القارئ نفسه يتفاعل مع هذه الشخصية بشكل مباشر ويتعايش مع الكاتب/الراوي في جميع مراحل حياته التي يسردها وهذا المستوى الأول من السرد هو المفصل الأساسي لقدرة الكاتب على كسر الحواجز بينه وبين القارئ بل إنه يكاد ينجح في إخفاء المتخيل لحساب الواقعي والحقيقي.
المستوى الثاني، هو المكان الذي يقع فيه السرد والذي يدور معظمه في (البر الانكليزي) بحسب تعبير الكاتب أو انكلترا بمعناها السياسي العام الشامل للجزر البريطانية وبعاصمتها (لندن) المدينة التي اختزلت في زمن ما إمبراطورية امتدت لتشمل العالم بأسره. فمعظم الأحداث تدور في مدينة لندن ليس بأسماء شوارعها أو ميادينها أو مبانيها القديمة والحديثة ولكن بحمولة هذا المكان التاريخية والحضارية، وفي حالة السارد بشخوصها والتي تمثل الوقود الذي يحرك تروس هذا الوحش العملاق المسمى (لندن) لكي تستمر في الحياة والازدهار تاركة وراءها أكواما من الجثث البشرية التي طحنتها عجلة الحياة في هذه المدينة التي لا يعرف قلبها الرحمة، بينما في البعد تلوح مدينة أخرى يحاول السارد تبيانها أو ربما الوصول إليها، مدينة تظهر باستحياء في النص، في بعض الأحيان، أو ربما تظهر بقوة وبلا مواربة في أماكن أخرى من الحكايات، وهي مدينة (طرابلس) الليبية مسقط رأس الكاتب، لكن (الفرق بين لندن وطرابلس كالفرق بين مدينة لا تراك وأخرى تنكرك) فلندن مدينة (لا تحب إلى نفسها) وطرابلس (كالقطة تأكل بعض أبنائها ومن نجا منهم… عليه مواجهة مصير العيش مكابداً ألم نكران أمه له!!).
أما المستوى الثالث فهو الشخوص التي اختارها الكاتب لتشترك معه في أداء هذه الحكايات وهي في مجملها شخصيات تبدو وكأن السارد قد تعثر بها نتيجة عيشه في البر الانكليزي، وفي اغلبها تجدها تدخل النص بشكل مفاجئ وتخرج منه بشكل سريع مما يوحي بغربة هذه الشخصيات عن المكان وعن بعضها البعض فالجميع يحمي نفسه بجدار من الحزن واللاجدوى، بعضهم عابر سبيل، ومنهم من يقيم في انكلترا لسنوات طويلة ولكنه ما يزال يعتبر نفسه عابر سبيل، بعضهم شارك الكاتب فنجان قهوة أو سيجارة على باب مقهى أو مطعم وآخرون ساقتهم الأقدار أو العبث أمام الكاتب فلم يجد مفراً من التعامل معهم ولكنهم في آخر المطاف يرحلون ليبقى النص مفتوحاً أمام فراغ مكان لا يحوي سوى شخصية (الرواي/الكاتب) وهو ما يعمق إحساس الغربة، المحور الرئيسي لهذه الحكايات.
أما على مستوى اللغة الموظفة في النص والتي تتكئ على أسلوب السخرية التي تتلون باللون الأسود في بعض الأحيان فقد منحت هذا اللغة، وخاصة من خلال استخدام تعابير محلية وأمثال شعبية ليبية وعامية، بعداً حميمياً يجعل النص أكثر التصاقاً بالواقع المحكي وهو ربما ما جعل الكاتب يصنف نصوصه السردية في فئة الحكايات أو (الخرافات) الشعبية التي كانت الجدات تحكيها للأطفال قبل النوم وتنحو إلى استخدام الأمثال والحكم الشعبية المستوحاة من حكايات بها الكثير من المفارقات الساخرة والمضحكة في بعض الأحيان. إلا أن الكاتب لا يخفي شغفه باللغة الشعرية المتأنقة والتي استعملها في أكثر من حكاية أو في جمل قصيرة ضمن حكايات أخرى أكثر واقعية ومباشرة.
وتبقى (حكايات من البر الانكليزي) للكاتب (جمعة بوكليب) نصوصاً سردية تمتاز بالعفوية والتلقائية والالتصاق بالواقع بعبثه ولا معقوليته ولكنها في نفس الوقت ترسم على شفاهنا ابتسامة متمردة تقفز بين فكي الألم والغربة المرة في هذا البر البعيد عن الشمس والألق، وبذا ينجح جمعة بوكليب في تقديم حكاياته/حكاياتنا بتواضع يقل نظيره في مثل هذا اللون الأدبي وبسرد لا يتعالى على القارئ ولا يمارس تسلطاً على عقولنا مما يمنح مساحة رحبة للخيال بالتحليق دون حدود، دون قيود.. هذه حكايات أولى وفي انتظار المزيد.