النقد طيوب النص

(رحيل آريس): دلالاتُ الأسطورةِ وجمالياتُ التداخلاتِ الأدبية

رواية (رحيل آريس) للروائية فاطمة الحاجي
رواية (رحيل آريس) للروائية فاطمة الحاجي

من رحم التغيرات السياسية والتحولات الاجتماعية التي طالت بعض البلدان العربية تخلَّق البناء السردي لرواية (رحيلُ آريس)(1) للدكتورة فاطمة سالم الحاجي بجميع دوافعه وأيديولوجياته وأحداثه وشخصياته ومفاهيمه للتغيير والديمقراطية، وانعكاسات كلِّ ذلك على الراهن العربي والظروف المعيشية التي عصفت بالآمال المتوقعة، وبخَّرت الطموحات والأحلام الوردية التي حيكت خارج الوطن العربي ونسجت بكل أوهامها وغاياتها وأهدافها المريبة.

وتمثل رواية (رحيل آريس) شهادة أدبية ليبية معاصرة تعرضُ مجريات الواقع الليبي وضحاياه، بصوت نسائي عاش آلاماً حقيقية وواجه ظروفاً ومعاناة شخصية داخل البلاد وخارجها، ومكابدات قاسية بكل ما فيها من مرارة وحزن على فقدان الحياة، وضياع القيم الإنسانية، وإهدار النفوس البريئة، والخراب بكل أصنافه الذي طال البلاد كافةً.

الغلاف:

عند أول مصافحة لرواية (رحيل آريس) الصادرة عن دار خريّف للنشر في تونس، ومحاولة قراءة العناصر السيميائية لواجهة غلافها نجدها تكتظ بعدة علائق لونية ودلالية، تنصهر مجتمعةً لتشكل لوحة متوحدة ذات إشارات إنسانية ورموز هوية وطنية ليبية. فانبساط صفحة الغلاف التي تستريح عليها الألوان الثلاثة الأحمر والأسود والأخضر موزعة بتسلسل ينزرع فيها الأبيض بشكل بارز، تقودنا إلى ألوان الراية الوطنية وعلم الاستقلال في ليبيا وهي إحالة سياسية وطنية واضحة، تتعزز بمسارات الخريطة الجغرافية لليبيا وهي تتوسط قلب الواجهة التي تستوطنها ملامح خطية لوجه إنسان متخلق من كل الألوان كناية عما يمكن أن يحمله من أراء وتوجهات سياسية ودينية وفكرية، أو الانتماء للشرائح الاجتماعية والمناطقية بجميع تعدداتها واختلافاتها، بصرف النظر عن جنسه البيولوجي. ومن زاوية أخرى مغايرة نجد أن تأمل اللوحة من حيث تفاوت مساحاتها اللونية بشكل يجعل الأخضر أقلها وكأنه إحالة لنظام سياسي يترنح في مرحلة التراجع والأفول، بينما الأحمر الدموي يتربع على مساحة أكبر ليأتي بعده الأسود الكالح ليطغى على المساحة ويعم البلاد ويغمر خريطتها معاً بكل دلالاته السودوية القاسية. ليظهر في الأعلى اللون الأبيض بالمساحة الأقل كبصيص لبؤرة الأمل التي تواجه الناظر لعنوان الرواية وحلمها المأمول.

إن قراءة الغلاف بلغة سيميائية من هذه الناحية تبعث في القارئ الكثير من التخمينات حول نوع العمل الأدبي الذي يسكن دفتي الغلاف، وتغريه لاستكشاف محتواه وأسلوبه وغايته، وتحفزه لخوض مغامرة التوغل في تفاصيله، والاستمتاع بأحداثه وحوارات شخصياته وأسئلتهم الفلسفية العميقة، وبذلك يكون الغلاف قد أحدث تفاعلاً ثنائياً وحقق وظيفته وغاياته بكل اقتدار.

دلالاتُ الأسطورة

دأبت الرواية العربية على استحضار وتوظيف الأسطورة والخرافة، أو الاتكاء على رمزية بعض الظواهر أو الشخصيات التراثية الشعبية والاغتراف منها، لتحقيق عدة غايات فنية وموضوعية من بينها ربط القديم بالجديد، والمزج بين الأحداث التاريخية والمتخيلة لوصف واقع تتغير محطاته وفقاً للسيرورة الزمنية، وإتاحة براحات واسعة من التخيل أمام كاتبة النص الروائي، وكذلك اتخاذ الأساطير رموزاً وأقنعة لتمرير بعض الرسائل خاصة في القضايا السياسية أو الفكرية الايديولوجية الدينية، وكذلك لتنويع الأسلوب السردي وكسر الرتابة النمطية في المتن الروائي.

وبدايةً من ظهور العنوان المباشر المتجلي برأس الغلاف (رحيلُ آريس) كإعلانٍ صريح، نتبين بأن الأسطورة ممثلة في إله الحرب الإغريقي “آريس” لها حضور باذخ ونصيب وافر في هذا العمل الروائي كما يصنفه مصطلحه الفني على الغلاف. وتوظيف رمزية هذه الأسطورة المعبرة عن الحرب العمياء والعطش للدماء والقتل والخراب والدمار هو إسقاط على ما يدور من أحداث داخل الأرض الليبية. فالبطل الأسطوري “آريس”، هو إله الحرب والشجاعة في الميثولوجيا اليونانية قائد المعارك الطاحنة التي للوهلة الأولى ينتصر فيه ، ولكنه سرعان ما ينهار وينهزم جيشه على أيدي “أثينا” آلهة الحكمة بعد مجازر دموية فادحة، تسبب فيها أثناء حروبه الوحشية رفقة أخته “ربة الكفاح” وابنيه “ديموس” إله الرهبة، و”فوبوس” إله الخوف والرعب، وبالتالي فإن العتبة الأولى جاءت في شكلها الظاهري الصريح صورة متكاملة ومتداخلة بين المضمون الموضوعي للنص الروائي والدلالة الرمزية الإيحائية التي يسعى لتوطينها في فكر ووجدان القارئ الذي يجد نفسه منجذباً تجاه هذا العمل، محاولاً الاقتراب منه ومن ثم مطالعته بكل شغف.

ومن ناحية أخرى يمكننا التأكيد على أنه حتى وإن ظلت دلالات هذه الأسطورة سوداوية في أصل واقعها الإغريقي عبر تاريخها القديم، فإن (رحيل آريس) كرواية معاصرة لزمنها الراهن تتجاوز تلك الصورة القاتمة الملتصقة بالشخصية اليونانية القديمة، عندما اختارت خلال رؤيتها الحالمة بالمستقبل أن يتوارى إله الحرب “آريس” من المشهد الوطني ويغيب عن الفضاء السردي الروائي، إيذاناً بانبلاج زمن بهيج مغاير لصورته النمطية القديمة، حين تنبأت “حور” بحياة مستقبلية رغيدة للناس والوطن وهي تعد حبيبها “موسى” وتخاطبه (حتماً سيرحلُ آريس … وسأُهديكَ وطناً)(2)، وبهذه الثقة الحتمية المتعززة بالإرادة والإصرار تزرع كلماتها بذور أمل ينسج حلماً يترقبه الجميع بكل لهفة، فالحتمية تؤكد أن خراب الوطن وتدميره سينتهي مهما طال زمن “آريس” وما يصحبه من ظلم وفساد وتقتيل ومذلة ومهانة، وسينهض الوطن مجدداً من وسط ذاك الركام والحطام كما يتخلق طائر “الفينيكس” ويعود ثانيةً إلى الحياة بأكثر طاقة وقوة وفاعلية.

حبكةُ الصراعِ الروائي

تتأسس حبكة الصراع في رواية (رحيل آريس) على أسئلة الربيع العربي بكل ما تكتنفه وقائع هذا الحدث من غموض وغرائبية، ويصحبه من دمار وخراب وهلاك لازال يؤثر في الإنسان العربي، ويطال الأرواح والعمران والأوطان منذ تفجره سنة 2010م. وهذه الأسئلة ترجع بنا إلى أسئلة مسبقة طرحتها الرواية العربية، متعلقة بالسلطة، واستبداد الأنظمة العربية بالحكم، والظلم، والفساد، والديكتاتورية، وقد أصدرت الكاتبة روايتها الأولى (صراخُ الطابق السفلي)(3) في سياق تلك الفضاءات العربية المشينة، فقدمت لنا عملاً إبداعياً غاص في الوجع الليبي، واستنطق العديد من الجرائم البشعة لنظام الحكم الديكتاتوري، نسجتها بلغة روائية وثقت وقائع الأحداث المؤلمة والمشاهد الحقيقية، وأغدقت عليها إضافات من أنفاس معاناتها وخيالاتها الفسيحة والكثير من الجماليات الفنية فنالت استحساناً كبيراً في أساليب سردها وتقنياتها.

أما هذه الرواية (حرب آريس) فهي برهانٌ واضح على مواكبة الرواية الليبية للمشهد الإبداعي العربي وموضوعات خطابه الروائي، حيث أبانت رؤيتها الفكرية حول أسئلة الربيع العربي ومستجداته على غرار الروايات العربية الأخرى مثل (تاريخ العيون المطفأة)(4) للروائي السوري نبيل سليمان، و(موسم الحوريات)(5) للروائي الأردني الفلسطيني جمال ناجي التي تعرض انحرافات حركات الربيع العربي عن مساراتها وتفجر الحروب الأهلية في الدول العربية، و(القاتل الأشقر)(6) للروائي المغربي طارق بكاري الذي يتناول الإرهاب الداعشي والممارسات الوحشية ومآلات تلك الأعمال البشعة وغيرها، ولا شك فإن هذا الانشغال العربي الواحد بالشأن السياسي وقضايا وهموم الإنسان العربي يعد مؤشراً على التحديات الموضوعية المشتركة، وكذلك تقاطع الأدوات والأساليب الفنية الأدبية وتداخلها في المشهد الإبداعي الأدبي العربي على جميع الأصعدة، وتأثيراتها بشكل كبير في توجهات الفكر الإنساني العربي بشتى الأقطار العربية.

شخصياتُ الحكاية

تستعرض رواية (رحيل آريس) ظروف وتداعيات حياة شخصيتها المحورية البطلة “موسى” الرجل السياسي الذي كان أحد أركان نظام الحكم السبتمبري في ليبيا، وصار بعد فبراير يعاني مرارة الفقد المادي لمنصبه ودوره القيادي بجميع صلاحياته الواسعة وامتيازاته الكبيرة، ومعاناته تحت وطأة الضغوط النفسية إثر ضياع أسرته التي تشتتت داخل وخارج البلاد، وتلاشي مكانته ووجاهته الشخصية، وتدمير وطنه الذي صار نسيجاً اجتماعياً ممزقاً بفعل الاختلافات السياسية والأيديولوجية وصراعاتها المتصادمة والحروب الأهلية المسلحة بين العديد من المدن والمناطق الليبية. ومن خلال تتبع سيرة بطل الرواية “موسى” تتعدد المشاهد والأماكن وصور المعاناة التي جعلته يرتمي في أحضان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ويلتحق به لأهدافه ومآربه الخاصة (انضممتُ إلى الجماعة باحثاً عن نافذة أمل للانتقام. وجوه القتلى وأطرافها الموسومة بالدم الملقاة على الطريق زادت من تأجيج مشاعر النقمة والرغبة في الثأر من أعدائي) (7).

 ومن خلال توغله وترقيه في سلم التنظيم الارهابي اكتسب علاقات وطيدة مع أركانه، ونال مرتبة متقدمة استطاع أن يتعرف ويكشف الكثير من الجوانب الخفية السرية في هياكل وأيدولوجية التنظيم وأساليبه الإجرائية في عملياته الوحشية وحقيقة غاياته الإرهابية. وبأسلوب جذاب وآسر استطاعت الرواية أن تخترق الحصون المنيعة لهذا التنظيم وتتجول في أروقتها ومكاتبها، فتقابل أمير التنظيم نفسه وتحاوره ومناقشته بصوت جريء ومسموع حول العديد من الأفكار. كما تتعرف على عناصره المجندة من جنسيات مختلفة، وتتعاطف مع الفتيات الأرامل والنساء المسبيات، وتنام في سجون عديدة فتتشارك مع مروجي المخدرات والمهربين بأصنافهم المتعددة، وتتحدث بألسن شخصيات كثيرة مثل الشرطي والتاكسي والمقاتل والثائر والمعارض والمنتمي للنظام السابق والمناصر للنظام الجديد.

وطوال هذا السرد الممتع وتنقلاته الزمنية والمكانية ظلت الشخصية الرئيسية “موسى” في الرواية، تمسك بجميع خيوطها نتيجة سيرته وشبكة علاقاته التي تتداخل مع سير شخصيات متعددة أخرى، يظهر بعضها أثناء استرجاعه لذكرياته معها بتقنية “الفلاش باك”، أو لترسخ دورها في حياته، وصلة قرابته ورحمه الأسري مثل زوجته “زهرة”، وشقيقته “مبروكة”، و”أمه”، ثم “عامر” و”أبوبكر” و”حور” المرأة السبية لدى التنظيم التي نالها هدية من الأمير.

ولقد استطاع السارد “موسى” أن يجوب بنا أمكنة وأزمنة متداخلة ومترابطة مع مضمون الرواية مستهلاً حياته الهانئة مع عروسه “زهور” إلى ما تبعها من ميلودراما وتراجيديا مروعة، كان أبرزها على المستوى الشخصي قيام “أحمد” ابنه من زوجته الأولى، بقتل زوجته الثانية “زهور”، بتحريض من أمه، ثم قيام “موسى” نفسه بقتل أخته “مبروكة” وابنها، أما على المستوى الأبعد فقد ظل الوطن هو الهاجس الرئيسي في المكان والزمان الروائي والمحرك الإبداعي المشوق والجذاب، والمؤلم في آن واحد والذي استطاعت الروائية تناوله من زوايا متعددة.

تداخل الأجناس

الرواية جنس أدبي لا يمكنه الاكتفاء بذاته والانغلاق على نفسه، لأنه منذ نشأته لا يزال يتفاعل مع الأجناس الإبداعية الأخرى وينفتح عليها لاستمرارية بقاءه وتنويع سردياته بشتى الأساليب المختلفة. فالرواية نص يتشكل من تفاعل تقنياتها المتعددة مثل السرد، والسؤال المنبثق خلال الوصف المتشكل من أدوات الحواس ومشاعر ردود الأفعال والتعاطي معها فكرياً وعاطفياً سواء للوقائع المشاهدة أو من خلال الاقتباسات أو من وحي أخيلة المؤلف (دخلتُ على الأمير كان الباب موارباً وجدته جالساً ترتفع إلى جانبه الراية السوداء، رافعاً رأسه في كبرياء، تمتد خلفه صورة قماشية عملاقة تحمل رسوماً لجماجم متراكمة فوق بعضها، وعلى الجدار آيات كتبت بطريقة متداخلة لم أستطع قراءتها. ارتدت خطاي إلى الخلف دون وعي مني عندما رأيتُ حوله مجموعة من الفئران تدور وتتقافز، فاجأني المشهد الغريب. اكتشف الأمير خوفي فلامس أحدها بيده وسألني:

– كيف تنظم إلينا وأنت تخاف حتى من الفئران!

ترددتُ قبل أن أنطق بحرف لأبرر مشاعري، ألجم لساني وأنا أراقب تقطيب حاجبيه الكثيفين.. (8).

وكذلك الحوار الثنائي المبثوث في ثنايا السرد الاسترجاعي الوصفي الدقيق بكل ما فيه من مفاجآت صادمة ومخاوف وهواجس مرعبة، تكشف عنها الرواية من خلال تعرية المستوى الفكري والايديولوجي للجماعة المتطرفة وممارساتها السلوكية المشينة (في يوم من الأيام كنتُ في خلوتي أبكي حظي العاثر وسوء حالتي الصحية ونوبات القيء التي لا تتوقف. فجأة دخل عليّ الأمير. قلبي يرتجفُ خوفاً فرفعتُ صوتي بالابتهال إلى الله لعله يتركني ويذهب لغيري فالنساء كثيراتٌ في المبنى، اقترب مني فأحنيت رأسي واحتضنته بيدي، أمسكني من مرفقي بشدة وسألني عن سبب بكائي، فقلتُ وأنا أرتجف: أنا يا سيدي حامل، ولا أعرف والد طفلي، فقد تناوبتم عليّ كلكم، فمن سيتولاه بالرعاية وهو سيولد بلا حماية. رد عليّ قائلاً: أهذا ما يبكيكِ؟

– نعم يا سيدي، فأنا بالكاد أتدبر أسباب معيشتي، وجسمي عليل كما ترى، منهارة ومخذولة وغريبة ولا أعرف مصيري بعد إقامتي عندكم. فكيف سأتحمل مسؤولية طفلٍ معي؟

– لا عليك، سنتكفل نحن بمصاريفه وبتربيته، دولتنا باقية وستتمدد. هذا الجيل الذي نعول عليه. هذا الذي سيمدنا بالجند الصادقين لأننا نحن من سيقوم بإعداده.)(9)

وحول الأسس الفكرية والمعتقدات الدينية ومدى ارتباطها بواقعية الظروف والأحداث، تعرض الرواية رؤيتها الخاصة منطلقة من تفسير مفهوم الدين والتاريخ، والاسترشاد بأحد علماء الاجتماع العرب، والانحياز للقوانين في تنظيم شؤون الحياة، وهي نظرة تعكس درجة التحضر والرقي التي تتسم بها وتسعى لترسيخها وإن جاءت خلال حوار جدلي:

 (سألتني ماذا بك؟ أجبتها:

– استغرب هذه الجرائم البشعة.

– عندما يغيب القانون يعود الإنسان إلى التوحش، ليس إلا القانون، إنه الرادع لميل النفس البشرية للتخريب.

– لكن الدين رادع، يكفي أنه قانون السماء.

– لا أحد ردعته السماء منذ بدء الخليقة، ثم لا تنسى يا موسى أن في زمن الحروب تكثر الجريمة، “الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها” هكذا يقول ابن خلدون)(10)

إن جميع هذه التقنيات المتنوعة التي تظهر فيها التداخلات الجنسية والأسلوبية المختلفة في الوصف والسرد والحوار والأسئلة تؤكد بأن الرواية هي النموذج الأمثل لاحتضان الأجناس المتعددة، وإسكانها متونها، وضمها بين سطورها، لكونها تشكل فضاءات مختلطة تجمع الخيال مع الواقع، وهما الركنان الأساسيان اللذان من خلالهما تتأسس حبكتها الدرامية، وكل ذلك التداخل الأجناسي يجعل مفهوم نقاء وتفرد الجنس الروائي الواحد واستقلاليته بشكل دقيق فكرة بعيدة عن الحقيقة. ولقد حظيت رواية (رحيل آريس) بتنوع أساليبها السردية وتقنياتها الفنية بين الوصف الثابت والمتحرك، والحوار الثنائي المباشر وصوت المونولوج الداخلي، وتعالق الرواية وتداخلاتها مع أجناس أدبية وفنية عديدة أخرى مثل السينما من خلال تعليق “موسى” على الشريط السينمائي (الوجه الآخر للقضية)(11) مما يعكس شمولية وبراح النصِّ الأدبي وارتباط الحرف والكلمة مع الصوت والصورة والموسيقى، رغم أن توقيت مشاهدة هذا الشريط بكل عناية في تلك اللحظة العابرة لا يتوافق إطلاقاً مع الحالة النفسية الممزقة التي كان عليها “موسى” وبحثه الضروري عن مخرج لإنقاذ ذاته المضطربة وحياته المهددة، وما تبقى من كيانه الإنساني المتشظي، لأن أحد شروط المشاهدة السينمائية ومتطلباتها هو الطمأنينة والراحة النفسية للاستمتاع بالصورة والصوت والموسيقى.

كما تضمنت سياقات (رحيل آريس) الإشارة إلى الكتاب ودوره المعرفي والتثقيفي والإثراء الفكري من خلال سرد الراوي لعدد من عناوين المؤلفات (أحلام المجاهد) و(فصول الإمامة والبيعة) و(الجماعة جسر الوصول إلى الله) التي تعكس العقيدة الأيديولوجية التي تستوطن عقول الجماعة الداعشية، والمعتمدة كمنهج عملي تطبيقي في سلوكياتها وممارساتها، وأثارت مطالعتها وسرد عناوينها سؤالاً خطيراً في نفس الراوي يقول: (هل يكونُ الطريقُ إلى الله عبر سفك الدماء؟)(12). وبالإضافة إلى كل ذلك فقد حضرت في (رحيل آريس) بعضُ أبياتِ الشعر الفصيح أثناء حوار “موسى” مع الأمير حول دلالات لون عمامته:

 عمامةُ الأشرافِ قد تميزتْ    بخضرةٍ وراقتْ منظـــــــــرَا

 وهذه إشارةٌ أنَّ لهُــــــم في     جنَّةِ الخُلْدِ لِبَاساً أخضرَا (13)

ولم تغب أيضاً أغاني الأعراس والأهازيج والأشعار الشعبية التراثية في أحداث الرواية (يامي قريب يجي، بوعين سودة وفرملة قهوي، يامي قريب يجي) و(سمّاي من سمّى الغالي شاطر، هو الفرج والناس ضيقة خاطر)، والأغنية المغربية (للا فاطمة للا فاطمة على ربي غير كليمة)، و(أهي جات للا العروسة، أهي جات وردة محروسة)(14)، وأيضاً المسرحية السجنية التمثيلية، والحكايات المتسمة بموضوعية حوارها رغم إشكالياته المتضادة، حين تهادى بإيقاع هارموني متماسك داخل الفضاء الروائي العام مما يؤكد براعة المحافظة على الإمساك بخيوط الحبكة الفنية، ونسج خيوط الرواية بكل دقة وإتقان، مع توظيف كل التعالقات والأجناس الأدبية المتداخلة بما يدعم فكرة النصّ ويضفي عليه الكثير من التنوع والتشويق.

كما انزرعت تقنية (القصة داخل القصة) في متن الرواية لتفتح فضاءاً ثانوياً جذاباً عبر حكايات فرعية تضمنت الوصف والاسترجاع وإطلاق أسئلة مبطنة ومعلنة تزرع في الذهن العديد من الشكوك، وتخميناتٍ تدق نواقيس العقل بأفكار صادمة وهواجس وظنون، تبحث عن جرعة يقين تطمئن السارد وهو يحكي مشاهدته المفاجئة بكل استغراب واندهاش (في ليلة من الليالي كنتُ متعباً جداً بعد إنهاء طبخ خروفين للأمير وحاشيته، عدتُ إلى الغرفة كنتُ أودُ أن أنالَ قسطاً من الراحة. دخلتُ سريري، أغمضتُ عيني، بدأ النوم يسري مداعباً جفوني حتى تناهى إلى سمعي صوتٌ غريب، من أين يأتي صوتُ المرأة اللعوب هذه؟ ومن يجرؤ على فعل هذا في بيت الإمارة؟)(15)

إنَ هذه النماذج وغيرها من التداخلات الأدبية التي وظفتها الكاتبة في (رحيل آريس) أضافت الكثير من المتعة والبهرجة السردية للرواية، وكذلك التنوع والإثراء المعرفي في المواضيع والأحداث والأزمنة والأمكنة مع التشويق لمتابعتها بشغف وترقب، بل الإحالة التخيلية أحياناً إلى فضاءاتها خارج النص الروائي سواء البعيدة أو القريبة، القديمة أو الحديثة، مع ما يتطلبه كل ذلك من مهارة فنية وإتقان سردي في الربط والتموضع بثنايا المتن الروائي.

تواترُ الأسئلة:

يعبر سؤال الرواية الأدبية عمَّا يسكن الذات الكاتبة من هواجس وانشغالات تسعى جاهدةً للبحث عن إجابات مطمئنة لها تحمل بعض اليقين لفكرها والراحة لنفسها. وكل الأسئلة الروائية تعد محركاً للسرد، ودافعاً للحبكة الدرامية للحكاية، لمزيد القص والتشويق والتفاعل مع سؤالها المحوري وموضوعها المركزي، وهي لا تتوقف في (رحيل آريس) حيث تتهاطل منذ بداية الفصل الأول وتستمر في بقية فصولها العشرة (سفر الضباب، فيافي الأحلام المتيبسة، سر الغريبة، نزيف الروح والجسد، رحلة الأسرار الكبرى، الرفيق العدو، الرحيل إلى المجهول، حلم الدولة، صدمة الفقد، سر الصندوق) على ألسنة شخصياتها المتعددة، يستهلها الراوي بصوت مونولوجه الداخلي (.. مَنْ يا تُرَى فعل هذا؟ لماذا لم يرمه الفاعل في الخلاء، حيث الجثث تغطي المكان؟)(16)، وتتوالى في بقية سياقاتها كافة، سواء كخطابٍ استفهامي للذات، أو خطاب استفسار وسؤال للآخر (لماذا جِئْتَ إلى هنا؟ أمن أجل المال أم من أجل رغبة في الثأر مثلي؟)(17) وهذا السؤال تحديداً يعكس محور الصراع الدائر في الرواية والحبكة الأساسية التي تتفرع من خلالها مسارات فكرية عديدة تصل أحياناً حد التناقض التام. فالسؤال هنا بين طرفين متضادين يمثل الأول “موسى” الرجل النافذ في النظام السياسي المنهار في البلاد بفعل تحولات التغيير الربيعية، بينما يمثل الطرف الثاني الشاب “عامر” الثائر الحالم بمستقبل واعد ووطن ديمقراطي دستوري في نفس البلاد، وحين يلتقي النقيضان في ساحة قتالية مشتركة بعد أن صارا مجندين في تنظيم الدولة (داعش)، تصبح الهزيمة الفادحة للفكرين المتضادين وخسارتهما معاً أمراً واقعاً، إضافة إلى ضياع الوطن وراء الغايات الدونية الخاصة والمتباينة لكل طرف منهما، وهذا الفقدان الكبير المشترك للوطن الواحد الذي لا يمكن تعويضه.

والأسئلة الفكرية أو الذاتية بجميع أغراضها التي تصادفنا في الرواية قد ترد مفردة حول شأن ما، وقد تظهر متوالدة ومتدافعة أحياناً كسيل متدفق يقرع الفكر بصمت وتعجب، متفجرة من رحم وصف السارد لموقف أو حدث شاهده أمامه فينقله بكل تفاصيله الدقيقة مثل مخاطبته لجثة ميتة (هذا ذراع امرأة. كفُّها مخضبٌ بحناء الدم. ما الذي جاء بكِ إلى هنا مع جثت المقاتلين؟ وأين بقية جسدك يا تُرى؟ هل كنتِ محاربة معهم؟ أو كنتِ سبية من يدري؟ ما لغز هذا الذراع وهذا الخضاب؟ ربما سأجدُ بقية الجسد في الجوار، أو ربما تحول إلى شَبَحٍ فضيٍّ يطوف في المكان مع باقي الأشباح.)(18)

وفي مشهد آخر كذلك:

(هذه أول مرة يطلبني الأمير، ماذا يريد مني يا ترى؟ تراه علم بسر اقترابي من الصندوق الذي ربما يحتوي على سر خطير من أسرار الدولة؟ تراه كان كميناً لمن يقترب منه ويحاول كشف سره وقد وقعتُ في الشرك؟ نظرتُ إلى الخارج بعينين متعبتين وقلتُ “ماذا سيحدث من مصائب أكثر مما أنا فيه؟ ماذا سأخسر أكثر مما خسرت؟)(19)

لقد أجادت الكاتبة في (رحيل آريس) تطريز نص روائي وبناء فضاء زمني اتسم بالمرونة في الرجوع بالأحداث إلى الوراء بكل انسيابية تمكن من استحضار الماضي، وفي نفس الوقت منحه رؤية متقدمة تمكنه من استشفاف المستقبل الآتي، وتأثيث صوره المتعددة بجميع سيناريواتها التي تنسجها مهارة الكاتبة التخييلية، وكذلك تطعيم كل ذلك بطرحها الأسئلة الماضوية والآنية، لتكون المحرك الدائم للسرد بكل جوانبه والعمل على إثارة تشويقه المستمر، وهذا يحدث دون إغفال الحدث السيار الذي هو المنطلق الأساسي للسرد دون الاغراق في نقله مجرداً أو المرور السطحي العابر الخالي من إضفاء الخيال والجاذبية.

الخاتمة:

ظلت اللغة السردية في (رحيل آريس) على صعيد المفردة الأنيقة أو السلامة النحوية تتسم بالعذوبة والرشاقة وهي تكتسي بكل جدارة طابع التميز في نقل أفكار ومشاعر الكاتبة المتفاعلة مع الأحداث بحبكة فنية معززة بإضفاء مساحات خيالية شاسعة من الدهشة والإبهار بشكل متوازنٍ مع سياقات وقائعها المنقولة من اليومي المعاش، وكذلك التخيلية المتخلقة في ذهن الكاتبة المبدعة. وإن كانت الرواية قد انصبغت بالألم والحزن والمعاناة القاسية إلا أنها لم تسد المنافذ أمام براحات الأمل في الخلاص والنهوض مجدداً، وتهيئة المستقبل للحلم بكل أبعاده وإن ظل ذاك الأمل مرمزاً أو متوارياً خلف بعض الشخصيات أو المشاهد (بدأ اليأس يدب في نفسي، إذ ربما ستبقى على هذه الحالة مدة لا أحد يستطيع أن يتكهن بطولها. وماذا بإمكاني أن أفعل هنا في هذا الخلاء؟ لا أستطيعُ نقلها إلى المستشفى خوفاً عليها ولا أستطيع الرحيل بها ولا بدونها، كيف أرحل وأتركها وهي التي أنقذت رجولتي وحياتي ودفعت الثمن غالياً! توسلتُ بالصلاة والدعاء حتى غرقت في نوم عميق.)(20)

إن رواية (رحيل آريس) تعد من الروايات العربية الجريئة القليلة التي لامست موضوع الوطن بهذه الصورة الاحترافية الدقيقة التي اخترقت فيها حصون الدولة الإسلامية (داعش) وصوّرت بتفاصيلها الدقيقة الكثير من المشاهد التي نقلتها بإتقان ومهارة. كما أبانت مغامرة نشر هذه الرواية الليبية المتميزة شجاعة لا تفارق الأديبة المبدعة ولا دار النشر التونسية، فهما معاً مشتركان مع القارئ في الانشغال بمعاناة الوطن وجميع المكابدات المرتبطة به سوءا على الصعيد العام أو المكابدات الشخصية، والعمل المشترك على ترسيخ قيم الخير والمحبة والسلام، ونحن هنا لا نملك إلا الإشادة بإصدار مثل هذه الروايات الموضوعية التي تسكن العقل والوجدان معاً وتسمو عالياُ بالإنسان أياً كان.


هوامش:

(1) حرب آريس، فاطمة سالم الحاجي، دار خريّف للنشر، تونس، الطبعة الأولى، 2022م

(2) المرجع السابق نفسه، ص 247

(3) صراخ الطابق السفلي، فاطمة سالم الحاجي، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2016م

(4) تاريخ العيون المطفأة، نبيل سليمان، دار مسكلياني، تونس، الطبعة الأولى، 2019م

(5) موسم الحوريات، جمال ناجي، دار مؤسسة بلومزبري، قطر، الطبعة الأولى، 2015م

(6) القاتل الأشقر، طارق بكاري، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، 2019م

(7) حرب آريس، مرجع سبق ذكره، ص 22

(8) المرجع السابق نفسه، ص 44

(9) المرجع السابق نفسه، ص 108

(10) المرجع السابق نفسه، ص 200

(11) المرجع السابق نفسه، ص 29

(12) المرجع السابق نفسه، ص 48

(13) المرجع السابق نفسه، ص 44

(14) المرجع السابق نفسه، ص 51

(15) المرجع السابق نفسه، ص 49

(16) المرجع السابق نفسه، ص 19

(17) المرجع السابق نفسه، ص 23

(18) المرجع السابق نفسه، ص 23

(19) المرجع السابق نفسه، ص 26

(20) المرجع السابق نفسه، ص 244

مقالات ذات علاقة

لك وحدك

عوض الشاعري

(كونشيرتو قورينا ادواردو) والرواية الواقعية الحديثة

يونس شعبان الفنادي

كلا، ليس بعد

مهند سليمان

اترك تعليق