اللوحة للفنان الليبي معتوق أبوراوي.
سرد

كتالوج حياة خاصة

اللوحة للفنان الليبي معتوق أبوراوي.
اللوحة للفنان الليبي معتوق أبوراوي.

 

حدث  في يوم من الأيام أن اشترى اللاحقون سلاحاً من كل حجم ونوع ، ليستمروا به في حرب بدأها الأولون، وكان السلاح رائعاً وجاء في وقته المناسب، وكان أحد الجنرالات الشجعان الذي نجى من الموت مراراً لأن لحظة موته لم تحن بعد، وخاض كثيراً من المعارك لم يعرف أحداً نهايتها، هو من تحمل عبء تلك المسؤولية الوطنية ، وهو من اختاره سلاحاً يناسب المواطن، سلاح كصديق صدوق حين يدافع وكعدو لدود حين يهاجم ويقطع إرباً.

نزل جنرال الحروب المستمرة إلى ساحة السلاح الكبيرة التي تشبه معرضاً للموت، وتفقدها جملة وتفصيلاً، كان ينظر باعجاب ويتنهد مستذكراً المتبقي من المهمة. لم يعد أمامه سوى البحث عن جيش جديد ليتحقق الحلم، تلك هي الخطوة القادمة. قطع  فاخرة حديثة جديدة من كل الأسلحة التي رأها في المجلات العسكرية وحلم بها في حياته، لا تليق إلا بجيش قوي، جميع أفراده من الأسود، حتى الطباخون ومن يجرون عربات نقل الموتى، يجب ألا ينتمي لجيشه إلا الأقوياء، هذا ما حدث به نفسه وهو يسير أمام الدبابات الجديدة ويتخيلها في أرض معركة خاضها ويدرك أن سبب عدم انتصاره فيها هو عدم وجود هذا النوع المطور من الدبابات. كان يسير بقامة منتصبه وكرش تهدل على ما تحته ، فيما يشبك ذراعيه  خلف ظهره، وعلى بعد خطوات منه يمشي حارسه، الطويل النحيل ، ينفخ الهواء  بدلته الخضراء ويلتصق بقفصه الصدري الناتئ، ويحرك قبعته عن رأسه، كان الحارس مجداً في حماية سيده العجوز، يقف على بعد خطوات منه ويتوقف حين يتوقف الجنرال عند إحدى القطع وينحني ليري شيئاً ما فيها، كان كمن يتساءل عن موضع الفريتشا أو المرميته، يكح الحارس لأنه لا يوجد شيء يقوله للجنرال المهتم بتفاصيل لا يراها غيره، ويقول “يرحمكم الله” عندما يعطس الجنرال ويمسح أنفه بكم بدلته العسكرية المزدان بالأزرار النحاسية.

 

كان الحارس لا يحرك رأسه، لكنه ينظر إلى أشياء أخرى غير التي ينظر إليها الجنرال في ساحة السلاح الجديد، السماء مثلاً وأشعة الشمس ورؤوس أبنيهة أصيبت بالقصف، بل إن طول نظره يذهب إلى نبش الغرفة المهدمة في بناية  مقابلة وقلب محتوياتها، سرير زوجي وصورة غير واضحة الملامح معلقة علي الجدار مالت لكنها لم تسقط، وأغطية ومخدّات غير مرتبة، يبدو أن البناية قصفت والناس نيام، سقطت خزانة الثياب المفتوحة على النافذة ورمت بعض ما فيها إلى الشارع. يقول نظر الحارس ، أين السكان؟ هل مازالوا في الدنيا أم ذهبوا إلى الآخره؟ يحاول أن يمضي وقت حراسته الممل في توقع ماحدث لهم! ويتوصل مابين كحته وعطاس الجنرال إلى أنهم قضوا نحبهم تحت الأنقاض، إذا لم يكن ثمة مخرج آخر للبناية  غير الذي سُدّ بركام البيوت المجاورة، كيف لهم أن يهربوا  كلهم من ذات الباب وفي الوقت نفسه؟

دعاه استنتاجه ذاك إلى أنه في المستقبل – وبالطبع إذا تركته الحرب حياً – سوف يشيد بيتاً بعدة مخارج ولن يفكر في السلم الأهلي واللصوص عندما يصمم خارطته، فليست أحوال الدنيا سلم دائم يستطيع فيه اللصوص دائماً أن يقوموا بعملهم ، دون أن تقبض الشرطة عليهم، لكن لو ترك أمرهم للمخابرات لما كان هناك لصوص في الاوقات العادية وانتهى أمرهم ولتغيرت نظرية المواطن في بناء بيته و أصبح بمقدوره النجاة في أوقات الحرب داخل بيته بدلاً من الهرب منه خوفاً من سقوطه.

سعل الجنرال فقطع الحارس توارد أفكاره قائلاً له: “يرحمكم الله سيدي”.

لكن الجنرال لم يرد بالرد المعهود يهديكم الله ويصلح بالكم، إما لأنه لايريد أن ينزل إلى مستوى حارسه، أو أنه لم يسمع ما قاله له الحارس أو أنه لم يسمع بأبي هريرة راوي الأحاديث النبوية، أو أنه رد في سره، أو كان مشغولاً بأفكار عظيمة عن الحرب والرجال جعلته لا يستطيع قطعها للرد على عطسه. أو ربما جعله مشهد الراجمات الرهيبة في الساحة الممتدة لايرد، وفوهات المدافع والسيارات الضخمة المتأهبة للقتال، فلمشهدها حقاً مهابة، سوف تزداد عندما يكون لها جيش يستخدمها ويوجهها حسب أمرة رجل واحد، إنه هذا العجوز الهرم الذي لا يعرف شيئاً عن طريقته في إعداد الخطط الحربية – غالباً الأمر غامض وليس سري- يفرش خريطة وينظر إليها ساعات طويلة وفي كل مرة تزداد العلامات على الخريطة ويزداد  وجوم الجنرال وتقطيبه،  ذات مرة عندما كان الحارس يحرسه خارج غرفة القيادة ، كان الجنرال قد عقد اجتماعاً طارئاً مع نفسه ذلك النهار واستمر يدون ملاحظات هناك وهناك في مفكرة خاصة ويضع بعض العلامات عند أماكن محددة في الخريطة، كان منهكماً جداً رغم أن انحناءته الطويلة على الطاولة، تضغط على كرشه وبالتالي على امعائه وتجعل فساءه مسموعاً  في الغرفة الكبيرة الخالية من أي كلام،  دخل الحارس بصفرة شاي أعده من تلقاء نفسه، لم يظفر بكلمة شكر أو حتى بالتفاتة من القائد المشغول جداً، وفي تلك اللحظة داهمت الحارس فكرتان، واحدة دعته لاختلاس النظر إلى الخريطة الكبيرة وتقسيمها إلى أجزاء وحفظها ثم اعادة تركيبها لفهم كيف يفكر الجنرال وبماذا يفكر، وعن هذه الفكرة ولدت فكرة أخرى وهي وضيعة ومتواطئة جداً تتضمن بيع الخريطة وأفكار الجنرال معاً للعدو، كما أنها قد لا تصبح كذلك إذا حظت بمن يروج لها على إنها رغبة في انهاء الحرب وإحلال السلام.

أما الفكرة الثانية التي جاءت مع صفرة الشاي فيما الجنرال منهمك في توزيع وتنظيم قواته على الخريطة ولا يستطيع النهوض بكرشه المتهدل على الطاولة بسرعة أو خفة ، هي أن يقوم الحارس باغتياله لانهاء الحرب والعودة إلى قريته وبناء بيته القوي المتين، متعدد المخارج، لكن هذه الفكرة لم تجد لديه حماساً فهو لا يشعر بأن قتل عجوز سيفيد شاباً في مطلع حياته، فالموت الطبيعي سوف يتكفل بسل روحه بالسعال قريباً ، فلماذا يتحمل هو مسؤولية موته، وقد تداخلت هذه الفكرة مع فكرة أخرى مفادها وماذا يضمن له إن قتل الجنرال فإنه سوف ينهي الحرب حقاً، فالجنرال قد يموت ميتة طبيعية لكن الحرب لن تنتهي مع ذلك، كانت هذه الفكرة  أقرب إلى إيمانه بأنه لن يكون مجرم حرب، فالموت الطبيعي موجود ويمكن أن يقوم بهذه المهمة، وهو إن كان مقتنعاً بقدرته علي هزيمة جسد العجوز فإنه يعترف بأنه  لايقوى حقاً على مواجهة عينيه، وإذا ما وجد القناعة يوماً لقتله فإن ذلك سيتم فعلاً من الوراء ووجه الجنرال إلى الخريطة. إنه يدرك بشكل تام أن التاريخ ينتظره لكي يفعلها فيقول فيما بعد إنه قاتل، فيما لا يقول الشيء نفسه عن الأسباب غير البشرية للموت.

ارتعشت صفرة الشاي بين يديه وهو ينظر لوجه الجنرال الجامد وقد ظنه مات على تلك الهيأة، وجاءته فكرة أخرى ًأكثر حدة من الأفكار الأولى، لكنها عن جيش الجنرال وليست عن الجنرال، وكان مؤداها من أين سيأتي الجنرال برجال يصنع بهم جيشاً بعدما مات أكثر من نصف سكان القرية، بل حتى النساء اللواتي يعتمد عليهن اقتصاد الحرب من الرجال، نقصن إلى حد مخيف وصارت قلتهن تهدد بكارثة حقيقية تضع القرية في مهب الانقراض.

 

من اين سيستورد الجنرال جنوداً للأسلحة الجديدة؟ بل إنه وان استطاع استيرادهم من بلاد اخرى لايفعل بها الرجال شيء سوى ان يذهبوا للقتال دون عقيدة، فمن أين سيأتي لهم بالعدو الذي يقاتلونه وينتصرون عليه بقيادته هو،  ونصف سكان القرية العدوة لهم ماتوا ونساءها يوشكن على الانقراض مثل نساء قريتهم تحت الأنقاض.

لم يعد يملكون من جيشهم القديم سوى أحد عشر رجلاً هم مجمل ما تبقى من ذلك الجيش العرمرم، ولم يعد يملك جيش العدو إلا خمسة عشر رجلاً لا قائد لهم!

سعل الجنرال فوق الخريطة فتأكد الحارس بأنه حي، قال له ليرحمكم الله سيدي ، وحياه برفع اليد وخبط الأرجل بالأرض وضمهما وهز الجسم قليلاً للأمام بعد أن وضع صفرة الشاي على الطاولة المجاورة وخرج بجزء من الخريطة في رأسه.

فجأة التفت الجنرال إلى ما ورائه في منتصف الساحة الكبيرة، التقت نظراته بنظرات الحارس، ارتعب الحارس وانتفض قفصه الصدري لكنه تذكر إنه لم يكُ يتسلى تسليته المعتادة بوضع سبابته في أنفه وتحريكها، كان ينظر إلى أنفه ويحاول أن يراه فقط، ياله من  فتى محظوظ حصد رضى أمه كاملاً لأنه في لحظة مباغتة الجنرال له لم يك يفكر في قتله ولا يقضم أظافره، دعوات أمه له  نفعته، رحمها الله واحتسبها عنده من الشهداء حتى وإن كان سبب موتها في الحرب رفسة عجل وليس قذيفة،  لما هربت من بيتها إلى زريبته وكان هو خائف من القصف و يريد الهرب من الزريبة إلى البيت.

تجاوز نظر الجنرال ما وراء الحارس من مدافع مشرعة الفوهات، متأهبه بشراهه لدك معاقل العدو، إنها قويه جداً ، بينما زرائب العدو هشه تسقط من مجرد ريح قبلي بالعجاج، فما بالك بحرارة قذائف وصواريخ جديده مستعده لتدمير كوكب من الأشياء الصلبة، هذا ماسوف يحسم المعركة وسيعجل بالنصر، فما النصر إلا قصف ساعة بهذا العتاد.

اقترب من أحد المدافع  الصغيرة وأدخل يده بفوهته اللامعه وتحسسه كساق امرأة، قال الحارس ربما قال الجنرال في نفسه إن هذه السيقان الجميلة يجب أن تدخل الحرب فبدون استعمالها ستتحول إلى أعشاش للطيور والحمام.  يجب إعطاء الأوامر باغلاقها كلها ريثما يحصل على جنود ويعد جيشا، حتى  إذا لزمت حمايتها تخصيص جنود يطلقون النار على أي  طائر  يمر في السماء.

تطل الساحة الكبيرة ( هدف  الطيور) على مقبرتين من الخلف، إحداهما مقبرة الشهداء وهي الوحيدة التي حظيت بالتشجير، ومن الطبيعي أن تكون أشجارها مسكونة بكثير من الطيور، التي ستغير منازلها لتصبح أكثر أماناً بمجرد أن تكتشف فوهات مدافع عاطلة، أما المقبرة الأولى القديمة فلن يشكل قربها مشكله للأسلحة العملاقة، موتاها عاديون لم يحظوا بزراعة الشجر ، جلّهم من كبار السن وممن قضوا في حوادث السير والأمراض والقتل خطأ بأسلحة الأعراس، توقفت المقبرة عن النمو بعدما انتقل إليها السكان تدريجياً وكأنهم  في حركة انتقال طبيعية داخل قريتهم.

مؤسف أن الاسلحة الثقيلة التي يستعرضها الجنرال في جولته،  وصلت دون ضجة احتفالية بها، عبرت الشوارع وحدها ولم تجد أحداً يرمها بالأرز والورود، وكانت الشرفات المتأرجحة من بقايا البيوت، خالية من النساء المزغردات كالعادة.

كانت الأسلحة المتطورة بحاجة إلى سكان يفرحون بها وسكان يخافونها، فهي ستهجم وتدافع  في نفس الوقت طبقاً للكتالوج الذي أتى مع صفقة شرائها.

أنهى الجنرال جولته الميدانية ذاك اليوم وعاد لغرفة عمليات الطوارئ، عاد الحارس للوقوف أمام الغرفة واحباط أي محاولة للموت تهدد الغرفة ومن فيها.، أي القائد لا الخريطة أو صفرة الشاي.

إنه منذ ذاك اليوم  لم يفكر في إعداد الشاي من تلقاء نفسه للجنرال، منعاً لوساوس كثيرة تأتيه مع عملية الإعداد وتدور كلها حول استطاعته منع الموت واحداثه في نفس الوقت، فهو أيضا قوي وقادر مثل أسلحة الجنرال التي تصد وتهاجم في نفس الوقت! لكنه لا يريد أن يتحول من حارس إلى قاتل كحارس قائد جيش العدو، الذي  اغتال سيده بناءً على اعتقاده بأن الحرب تنتهي عندما لا يوجد لها قائد، إنه بشكل ما يريد أن  يبني بيتاً بمواصفات تقاوم أي حرب، وتكون تلك هي مشاركته الثانية في الحرب الأهلية،  بطبيعة الحال بعد حراسة الجنرال من الموت ونقل أوامره العسكرية في سرية تامة إلى أحد عشر رجلاً يحرسون السماء، ريثما يجد الجنرال أناساً يكون بهم جيشاً.

إن سيده يسعل أكثر من ذي قبل ويناديه من الغرفة لإحضار الشاي،  لم يكن يطلب منه شيئاً أو يفتح فمه للكلام معه، حسناً لقد جعله يدمن على الشاي ثم امتنع عن إعداده له دون طلبه، لا تبدو هذه الإشارة بسيطة في علاقة المرؤوس برئيسه، إنه  يقول له يرحمك الله بعد أن يعطس، لكنه لا يرفض فكرة أن يقضي السعال عليه، ليس مستحيلاً أن يتحول إلى جنرال، الخريطة التي كانت وراءه ثم أصبحت أمامه مع الأسلحة،  تقنعه بذلك، لم يعد ينقصه سوى جنود وبدلة جنرال، بعد ذلك ستظل المشكلة الوحيدة لاستمرار الحرب، ليس أن يعثر على خياط يضبط  البدلة على قياسه، بل كيف يعثر على أعداء ؟!

____________________

نشر بموقع أكسجين.

مقالات ذات علاقة

جزء من رواية إريروس

فتحي محمد مسعود

ذاكرة منسوخة

صلاح انقاب

رواية الحـرز (14)

أبو إسحاق الغدامسي

اترك تعليق