بعد أسبوعين تحديدا، دخلت السكرتيرة تحمل حجزا مستعجلا في نهاية الدوام، سألتها: هل لشخص يتردد علينا؟
قالت: لا! بل المرة الأولى التى أراها هنا.
– إعتذري منه بأي حجة وحددي له وقت آخر.
بالفعل حاولت إعطاءه موعدا لكن محاولتها باءت بالفشل أمام إلحاحه.
– وما هو إنطباعك عنه؟
– شخص جذاب، حذق، رزين، يحمل في عينيه الزرقاوين حزنا عميقا.
قاطعتها قائلا: أصبحتِ طبيبة ماهرة.
أبتسمت وعلت خديها حمرة الخجل:
– العفو دكتور! لكنه صدع رأسي.
فقلت في نفسي: يبدو إن السكرتيرة وقعت في غرامه. وجدتها تنظر لي بلهفة، كأنها تريد دخول الحالة الآن، فقلت لها:
– إذ كان المريض صدع رأسك في الدقائق التى جلس معاك فيها، لماذا أدخله ليصدع رأسي أنا أيضا؟
– بالعكس دكتور إنه إنسان مهذب جدا، وحساس، وهادي، وخجول، كان طلبه بسيطا أن يكون حجزه الأخير في القائمة.
كررت قولها وأنأ أنقر بأصابعي على المكتب: مهذب، حساس، خجول. وأنا أنظر في عينيها البريئتين. قلت في نفسي: عرفت الشخص القابع خلف الباب، لكن دعني أراوغ السكرتيرة قليلا، تثاءبت وفتحت يدي وتنهدت وحدجتها بنظرة وقلت: أنتِ تعلمين إني متعب الآن، لا أستطيع الاستماع والحديث بشكل جيد.
رأيت خيبة الأمل على وجها، استدارت غاضبة وأخذت ورقة الحجز وهمت بالخروج إلا أني قلت: (صوفيا). نظرت لي متجهمة، أدخلي المريض لأجلك.
إنفرجت شفتاها بابتسامة ورددت: شكرا شكرا دكتور. وخرجت مسرعة والابتسامة لا تفارق محياها. فقلت في نفسي: مسكينه يا (صوفيا) وقعت في غرام رجل لا يعترف بالحب.
دخلت صوفيا وسعادة تغمرقلبها الصغير، ويتبعها الدكتور (جوزيف) في أحسن حلة، عطره عبّق المكان،يمشي متبخترا. وقفت مرحبا به. شكرني على حفاوة الاستقبال تعمد مخاطبتي أمام (صوفيا) بشكل رسمي لا مخاطبة صديق لصديقه، ربما حتى لا تتعرف عليه، أو لعلة لا يعلمها إلا هو.
– تفضل بالجلوس.
جلس على الكرسي المقابل للمكتب، فقلت: ماذا تشرب؟
– شكرا قد شربت قهوة مع السكرتيرة.
– (صوفيا) من فضلك إثنان يانسون.
خرجت وعيناها متعلقة بـ(جوزيف)، ابتسمت وقلت: المسكينه تعلقت بك من الوهلة الأولى، فعلت المستحيل لكي تدخلك.
– نعم هي فتاة طيبة وجميلة.
صمت لبرهة وهو يتأمل المكتب الذي لم يدخله منذ عشرين عاما، وواصل قائلا: شكرا لإنك لم تذكر اسمي أمامها.
عرفت أنه لا يريد الخوض في موضوع السكرتيرة، فتركت له المجال كي يفصح عما بداخله. قال: لاشيء تغير بالحجرة، المكتب البني العتيق، أوه، أتذكر ذاك الراديو -أبتهج مثل طفل صغير، وقف ينظر إليه ويتحسسه بيديه- عندما ابتعناه من سوق التحف الاثرية، قال: التاجر هذا المذياع كان لرئيس الوزراء (تشرشل) وأتذكر أنه أخرج لفائف من الورق تعزز كلامه، وإن لم تخني الذاكرة دفعت فيه خمسين جنيها أسترليني، وكان ذاك المبلغ راتبك كله، عاتبتك كيف تعيش باقي الشهر، أتذكر إنك قلت: أنا أدفع حياتي ثمن للحظة سعادة، كنت متهورا يا صديقي هل تذكر، آه ما أجمل تلك الأيام، آه هذه الصورة لفنان نرويجي، كان يدرس معنا ونقيم سويا في نفس الغرفة، وهذه اللوحة أعجبتك جدا، واشتريتها في أول معرض أقامه في ساحة الجامعة، هل تصدق يا صديقي إلى الآن لا أعرف سر أعجابك بها خلفية بنفسجية وعليها دوائر صغيرة سوداء، ودائرة كبيرة صفراء،ويفصل اللوحة من المنتصف اللون الابيض، من المفترض أن يكون مكتبك متحفا لا مصحة.
فقلت له: هل رأيت تلك الصورة التى في نصف المكتب.
صرخ من الفرح ووضع يديه على وجه، هذا أنا آه وأنت في حفل تخرجنا من الجامعة كيف تمكنت من تلوينها. قاطعت طرقات الباب سرد الذكريات رجع (جوزيف) مسرعا لكرسيه، أذنت لـ(صوفيا) بالدخول، دخلت المسكينة بعد أن سرحت شعرها ووضعت أحمر الشفاه، تحمل اليانسون، وعيناها لم تفارق (جوزيف)، فقال أمامها:
– دكتور يجب أن تزور زوجتي اليوم، حالتها أصبحت خطيرة جدا.
بهتت (صوفيا) من قوله، وفهمت أنه لا يريد لـ(صوفيا) أن تتعلق به أكثر، فقلت له:
– أفضل أن أكتب لها الدواء وتتواصل أنت معي حتى تستقر، خرجت (صوفيا) وتكاد عيناها أن تدمع. شرب كلانا اليانسون في صمت أفكر أنا في قلب سكرتيرتي الصغيرة، الذي كسره هذا الرخ بقلب بارد دون أن يرف له جفن، وربما هو يفكر من أي باب يطرح علي مشكلته، كان مرتاحا جدا والولوج إلى نفسه كان سهلا، لولا تصرفات (صوفيا) الصبيانية، قد تجعله يعزف عما جاء من أجله. تكلم بعد أن طال الصمت قائلا:
– أنا تعمدت اغلاق الطريق على(صوفيا) حتى لا تمني نفسها، أنا كما تعلم لا أؤمن بالحب، وربما هذا سبب حضوري اليوم.
– لا تقلق على (صوفيا) فهي فقدت أباها صغيرة وتبحث عن ما يعوضها عن حنان الأب.