المقالة

مانقرأه دُعابةً في السيرة

يختفي باختفاء الصحافة الورقية تقريباً شئ كان أساسياً فيها، وهو العمود الصحفي اليومي أو الأسبوعي، حيث تبرز وجهة النظر أو الرأي جامعاً لشئ بين العمود والمقال. وأعني بمقالة العمود الصحفي مكان الرأي في شكل الومضة العابرة فيما يُبث عبر وسائل الشأن العام من قضايا، وأحداث وكتابات بكل تفرّعاتها.

وتكون السيرة أو بالأحرى شبه السيرة أحد ألوان الكتابة مُكشّف المجتمعية التي تصير مثار اهتمام المقالة الفاهمة، المفهّمة للحادثات التي تلم بالمجتمع غير المُدركة، وربما غير القابلة للإدراك، واقعات وظواهر لغياب معطياتها الشارحة.

الأمر يصبح أدقّ عندما يكون التأمل والتفكير ليس في بانورما السيرة عموماُ أو شبهها بل في مقطعية محدّدة هي سيرة الطفولة، التي هي شئ من الماضي شخصي وهامشي وغير مؤثر في الحاضر وآنياته. ومقطعية الطفولة يصعب في المروي ضبطها بمسبار النقد والتحليل، والكتابة فيها بإبداع السرد كونها منطقة عمرية مجهولياتها أكثر من معلومياتها. الأمر الذي يدفعنا إلى تناول النصوص فيما يكتبه الكاتب عمر الككلي في سيرة الطفولة قبل أن يصير موضوعاً للدراسة أو المقالة النقدية التحليلية ينبغي أن يكون مثار ومضات فكرية تستجلب المناقشة وإبداء الرأي، وتُكتب في عمود صحفي أو حديث إذاعي وممكن أن تثير نباهة الكاتب وقراءه.

اللافت في هذه النُبذ السيرية أن الطفولة تتفكّر نفسها في كون ريفي، يمكننا وصفه بعالم إلى حدٍّ ما طبيعي، متنقل من ريفية إلى ريفية أخرى ربما تكون مغايرة للأولى، فالعالم الطبيعي يكتسي هنا بخصوصية ديناميكية، عاديتها إغرابية فهي متنقلة وغير تابثة، ومستقلة في كيانها فكأنها هي جنة الطفولة وجحيمها في الآن نفسه.

والسيرة تسير غالباً في محيط عائلي يتواشج فيها الشخصي بالعائلي، في الأفعال وردود الأفعال وغالباً ماتكون الأفعال من العائلة تجاه الشخص وردود الأفعال من الشخص إزاء العائلة ومحيطها متمثلة أغلبها في دفاعيات يقترفها الشخص إزاء مُضيّقات ومهدّدات شخصه أو وجوده.

تُقرأ مقطعية الطفولة في السيرة في سياق خطابي موسوم في أغلبه بالحسّ الدُعابي وبحكم معرفتنا الشخصية والقرائية يمكننا الإقرار بأن الدعابة في عموم كتابة الككلي إن وجدت فهي دعابة جادّة .. وفي مساجلاته ونقاشياته توجد الدعابة ولكنها تخفى غالبا في صرامة الحديث وجدّيته فلا نلحظها.. ربما أنا من القلّة من أستطيع استدراج دعابة الككلي حديثاً وكتابةً إلى نقطة وضوح للتأمل لتفهّمُها كدُعابة لغرض رصد ملمح اجتماعي صار ماضيا منتهيا.

ما أنبّه إليه في عمود الرأي هذا، أنه فيما قرأته من نُبذ سيرية مكثفة في بعض الحكايات يثير سؤالاً لعلم نفس الطفولة. هو ماهي السن العمرية التي تظهر فيها علائم حسّ الدُعابة بل ذكاؤها لدى الطفل ماهي المنميات وماهي المحبطات والمعوّقات؟.
الكاتب أبدى اختلافه معي في مسألتين: ـ في نصوصه السيرذاتية في حمأة الحدث ذاته تكون مافُهمت بالقراءة بأنها الدعابة، ليست امراً منبثقا عن حس دعابة وإنما عن إيمان جاد وعميق. فمناحته طفلاً في “الكتكوت الأخير” على كتكوته الأخير وطلبه من أمه أن تعطي لخالتها بدلا منه خروفا أو نعجة، من الممتلكات العائلية الأخرى التي لايقدّر قيمتها المادية والرمزية لم يكن دعابة. بل هو تسوية ينفي بها عن نفسه حرمانه مما كان يراه ممتلكاته، وتعويضها من ممتلكات الآخرين التي تقع خارج سور أنانيته. وتهديده لأخيه الأكبر منه في”انكشاف الوهم وتبخر الأمل” بأنه سيضعه أمام الجمل الهائج بعد أن يعود صغيرا، لم يكن دعابة بل هو أقرب إلى تسوية الحساب الأقرب إلى الانتقام  وأنه ربما بعض آليات السرد ولغته التي استخدمها بلورته في حس دعابة، ولكنها دعابته الحالية المسرودة في كتابة سيرته وليست دعابة ذلك الطفل الذي كان يتألم ويشقى.

اللافت في كتابة سيرة الككلي أنه قدّم بالعودة إلى تذكار الطفولة شواهد مثيرة للانتباه فالحدث السيري في سرده السيري قائم على تصرّف الطفل الذي كان طفلاً. المثير أنه قائم على نسق متكامل، في أن التصرف مسبق عليه تصوره “في سني طفولتي الباكرة كانت لديَّ، بطبيعة الحال، أوهامي (…) وفي تلك الفترة التي لا أظن أنني سمعت فيها بالموت تخلق عندي تصور غريب عن الحياة ومسيرة الإنسان. لم يخطر ببالي أن الإنسان يمكن أن يظل يكبر إلى ما لانهاية. وإنما كنت أعتقد أن دورة حياة الإنسان الفرد مغلقة. فهو يولد صغيرا ويظل يكبر إلى عمر معين ليتراجع من ثَمَّ نحو الصغر من جديد! فأنا الآن صغير وسأظل أكبر، لكن أبي وأمي، ثم أخويَّ سيبدأون، في فترة معينة، مسيرة معاكسة لمساري. أي أنهم سيصغرون. وهذا خلق لديَّ أملا بأنني سأنتقم منهم عندما أصبح كبيرا وهم أطفالا، جزاء إساءاتهم التي ارتكبوها ضدي مستغلين كبرهم وصغري”.

تصوّر خلق الأمل بالانتقام من الكبار الذين أساؤوا للطفل صغيراً عاجزاً لاحول له، هل يمكن تلقيّه منا قراءً كباراً كتصور بمعنى concept والتعامل بمنطقيته الخاصة التي افترضها الكاتب نسقاً طفولياً كما يفكرّ ويتأمل فيه اليوم كاتباً.

نعود للنقطة التي بدأنا منها حيث يتموضع التذكار السيري الطفولي حدثاً دُعابيا أسريا مسروداً بتفسير الكبار. لكن من هو الطفل الذي يقوم بهذا التصرّف الذي يصبح حكاية تروى في المسرود العائلي.. ثم كيف يتموضع التصرّف في وجدان الذاكرة وتمظهره الكتابة دعابة وإن كان أساسه تصرّفاً حادّاً أو رّداً دفاعياً يمس الوجود ونتلقاه نحن القراء الكبار دعابة.

ينصبّ رأينا مدار عمودنا الصحفي على ماتبيّناه مقطعية طفولة في السيرة ونعني النصوص المكتوبة بقلم عمر أبو القاسم الككلي في موقع قناة 218 والتي تبتدئ بتاريخ 3 أغسطس، 2017 إلى8 مارس، 2018 والمنشورة بشكل متواتر تحت عناوين: الحلم بأبي، فضل الأرانب، وظيفة الأحلام، صراخ القنفذ، سرقات الطفولة، انعدام الحماية والتحالف الموضوعي، حشرجة الصفصاف، كلب مجهول قدّم لي حمايته، أعترف أنني قد خُدعت، الكتكوت الأخير،انكشاف الوهم وتبخر الأمل.

___________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

نقد الذات الليبية

المشرف العام

كادر وظيفي

نجوى بن شتوان

صحافة من لمن؟!

المشرف العام

اترك تعليق